كرميني باشا.. من النَّبيذ إلى الجهاد مع عمر المختار!
بقلم يقين علي
إنَّ هناك جزءا كبيرا من تاريخ ليبيا المعاصر في حقبة الحكم السنوسي قد انطوى وأضحى ضمن التاريخ الشفوي الذي يتداوله الليبيون في جلسات أسمارهم، ولا يُكتب.. وذلك لعدة أسباب أهمها انقلاب معمر القذافي على الملك إدريس السنوسي ـ رحمه الله ـ عام 1969. وقد دام غياب تأريخ السنوسية طيلة حكم القذافي الذي أوغل نظامه في تشويه تاريخ الحركة الجهادي والاجتماعي وتجريم أتباعها، ورغم القمع الفكري الممنهج الذي طالهم إلا أنك تجد سيرة السنوسية وبركتها في كل بيت تتوارثها الأجيال، تروي بطولاتهم ضد الغزو الإيطالي الفاشستي بالسند التاريخي المتواتر، فَوَعَتْهُ أفئدةُ الكبار والصغار.
تحدثت بعض المصادر الغربية عن حكم الأسرة السنوسية وذكرت بعض الأحداث والقصص المغيَّبة عن المكتبة العربية عامة، والليبية خاصة كتب المؤلف الإيطالي جون انطونيو ستيلا روايته كارمني باشا وهي قصة حقيقة حدثت أثناء الحرب الفاشستية الإيطالية، اعتضدت هذه الرواية بالتاريخ الشفوي الذي يتداوله الليبيون فوافقته في الحقائق وصدق الأحداث.. وبعد قرأتي لهذه القصة وجدت فيها من المغازي العديدة والومضات المضيئة في دنيا الإنسانية.. ما جعلني أدون عنها.
لن تجد في تاريخ هذه القصة نصوصا جامدة أو كلاماً فلسفياً، بَيْدَ أنها رواية حية ثرية بمعانيها الإنسانية وذكرياتهَا الخالدة وتاريخها البسيط. إن مجموع هذه الأشياء هو نبض التاريخ الذَّي لا نجده عادةً في الكتب، حيث تضيع تلك المعاني في خضم الأحداث الكبيرة التي تكتب بنسق تأريخي ومنهج علمي صرف، وبحذر تام. بطل القصة كارميني يوريو الجندي الهارب من الخدمة العسكرية الإيطالية والمنظم إلى الجهاد مع أسد الصحراء عمر المختار.
عاش كارمني حياة قاسية، يمضي أيامه في طوابير العمالة الطارئة باحثا عن عمل يوفر له قوت يومه. وفي نهاية عام 1910 أُبلغ كرميني أن عليه واجبا إلزاميا الالتحاق بقطاع الخدمة العسكرية في نابولي وعندما أُعلنت الحرب على ليبيا في أكتوبر 1911م كان ضمن القوة البحرية التي توجهت لاحتلال مدينة درنة. وبعد ثلاث سنوات من قدومه انتقل إلى مدينة توكره وكلف بحراسة أحد الأبراج مستقبلا الشمس الحارقة ورياح الليل متمترسا دون حركة، لم يحتمل كرميني هذه المهمة، وسئم قسوة القوانين وقلة مقومات المعيشة وشتائم القادة المستفزة، فأخذ يحتسي النبيذ حتى الثمالة ما جعله يتشاجر مع أحد القادة وإذ به يطرحه أرضا ويشبعه ضربا.
على إثرها زجَّ به في السجن مترنحا بين جدرانه، وارتطم بالباب فخلعت السلسلة، وفكر كارمني في التخلص من قيد السجن وأسر النبيذ الذي يكاد يفجر دماغه، وما أن عثر على فتحة في السياج هام في فضاء الصحراء اللامتناهية حتى أعياه المسير، رَنَا بعينه إلى النجوم وأخذته سنة من النوم. أفاق فوجد نفسه أسيرا في قبضة السنوسيين الذين ظنوا أنه جاسوس يجب استجوابه وإعدامه في اليوم التالي– لحسن حظه قابل الشيخ محمد السنوسي وأخيه الأمير محمد رضا، للاستجواب وقبيل أن يترك المكان لفتت انتباههم وجود شارة القناص على كمه. أشار الأمير محمد رضا لغصن شجرة خارج النافذة وأعطاه بندقية وطلب منه قنصه، أصاب كارمني الهدف بمهارة عالية، أعجب السنوسي الكبير وأخوه بكرميني وطلبا منه دون لف ودوران مهمة إقصاء اثنين مناوئين لهما مقابل حياته.
تجهز كرميني وتحرك برفقة أحد أتباع الأميرين، واتخذ موقعه فوق هضبة وأطلق رصاصة خرقت رأس الأول وأطلق على الثاني رصاصة واحدة فهوى ساقطاً كالطير من أعلى الشجرة. زاد إعجاب الأمير بقدرته على استخدام البندقية ودقة مهارته في إصابة الأهداف وطلب منه تدريب ابنيه الأميرين الحسن والصديق . وافق كارمني على طلبه بسرعة وكان متأكداً لو سُلم إلى إحدى الفرق العسكرية فحتما سيضعونه على حائط المرمى .وبعد فترة علمت السلطات الإيطالية بوضعه مع السنوسيين، وفي جلسة طارئة أصدرت المحكمة العسكرية الإيطالية حكما منطوقه نزع رتبته وإعدامه رميا بالرصاص.
في حينها اعتنق كرميني الإسلام واتخذ اسم يوسف المسلماني وتعلم الصلاة وحفظ القرآن الكريم وأصول الدين إلى درجة لفتت انتباه الشيخ عمر المختار فاهتم به وأرسله إلى معهده الجغبوب المحمدي الذي يساوي نظامه جامعة في هذه الأيام. فلا أحد يدري كيف استطاع إيطالي أُمّيٌّ حفظ القرآن وممارسة قراءة وكتابة اللغة العربية ذات الثمانيي وعشرين حرفا، سرٌ دعا عمر المختار والمجاهدين للتأمل..! انضم يوسف المسلماني إلى المقاومة بقيادة الشيخ عمر المختار، وتدرج وضعه من الإسناد اللوجستي إلى قائد حرب يقود المعارك والغزوات داخل المناطق التي تخضع لسيطرة الإيطاليين!، وحضي بثقة الشيخ والمجاهدين، وناشدوه بالاستقرار وإنشاء عائلة.
استقر كرميني في الصحراء الليبية في جالو وتزوج من قبيلة المجابرة فتاة تدعى تبرة موسى المجبريي.. كان لقاؤهما كقصص ألف ليلة وليلة. تبرة امرأة اختصرت النساء أجمع، أعانته في طريقه الجديد ؛ حيث أخرجته من دروب الغربةة والوحشة والضياع الذي يلاحقه.. وأنجبت له محمد وعائشة وأعانته في المعيشة ومسيرته الجهادية وعاش معها حياة هانئة إلى أن استولى بينيتو موسولليني على الحكم في روما وانطلقت حملة إعادة الاحتلال الفاشستي لكلل الأراضي البرقاوية والطرابلسية، وبسبب وشاية رخيصة من أحد الخونة المتعاوينين مع العدو أُلقي القبض عليه قرب مدينة إجدابيا سنة 18/12/1928.
وصلت إلى جالو فرقة محكمة الطوارئ العسكرية برئاسة المحامي العسكري بيرنارد أولينيري وحضرها كبار الشخصيات الإيطالية الذين كانوا يترقبون منطوق حكم كرميني المجزوم أنه الإعدام. نطقت المحكمة بالحكم المعلوم، وفي لحظاته الأخيرة على المنصة اقترب منه القسيس، فطلب مفتيا، تسأل الضابط مستغربا!، فقال يوسف: اليوم سأرحل عن هذه الدنيا مسلما ولن أموت مسيحيا، نطق الشهادتين على الأسماع.. وواجه رماة الرصاص بموقف كان فداء لكل سنين حياته.
في هذه القصص المغيبة تكمن المغازي والبنود الإنسانية، حينما يتحول أسوأ المذنبين إلى شهداء مدافعين عن العدالة عبر نزوة غيرت أقدارهم.. إنها هداية ويقظة في لحظات تحرر فيها العقل من رهائن الأرض المتمثلة في الأعراق العصبية الفاشية وأهواء النفس المغيبة بالمعاصي.. إلى رحابة إنسانية وحرية غيرتا جوهر الإنسان.
(المصدر: مدونات الجزيرة)