مقالاتمقالات مختارة

كربلاء.. معركة الحقّ المُلهِمَة في مواجهة الاستبداد السياسي

كربلاء.. معركة الحقّ المُلهِمَة في مواجهة الاستبداد السياسي

بقلم محمد خير موسى

كم أشعر بالشفقة على أولئك الذين يتعاملون مع كربلاء على أنّها مناسبةٌ طائفيّة خاصّةٌ بالشّيعة، فيتّخذون منها موقفاً حادّاً بالإعراض عن الحديث عن ذكراها أو تفاصيلها، ويتحاشون الحديث عن معركة حفيد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في وجه الاستبداد السياسيّ بسبب الخوف من الاتّهام بالتّشيّع، وكأنَّ الحسين رضي الله عنه حكرٌ على الشّيعة، فمن يقتربُ من ذكره وذكراه ومعركته واستشهاده يُرمى بالتّشيّع، أو يقال فيه على الأقلّ بأنَّ عنده ميولاً شيعيّة!!

وغالبُ من يتحدّثون عن واقعة كربلاء من دعاة أهل السّنة والجماعة يذكرونها في سياق نقض روايات الشّيعة والرّدّ عليها، وكان الأحرى أن تكون واقعة الطّفّ ومعركة كربلاء المعركةَ الملهمة لكلّ الثّورات في مواجهة الطّغيان والاستبداد.

جهادُ الطُّغيان لا لهاثٌ وراء المنصب

وتبلغ شفقتي حداً كبيراً حين يحاول البعض الغمز من قناة الحسين رضي الله عنه وتعليل خروجه بأنّه كان طلباً للملك، فهذا والله فضلاً عن كونه تزييفاً للتّاريخ، فإنّ فيه إساءةً ضمنيّةً للنبيّ صلى الله عليه وسلّم الذي وصف الحسين بأنّه سيّد شباب أهل الجنّة؛ ثمّ يُرمى من وصفه النبيّ صلى الله عليه وسلّم بهذا الوصف بأنّه يخوض معركةً مصيريّةً تحت وطأة شهوة الرّياسة وحبّ المنصب والرّغبة في الحصول على السلطة!!

وقد جاء عند ابن عساكر وغيره: “وَقَدِمَ المُسَيَّبُ بنُ نَجَبَةَ وَعِدَّةٌ إِلَى الحُسَيْنِ بَعْدَ وَفَاةِ الحَسَنِ، فَدَعَوْهُ إِلَى خَلْعِ مُعَاوِيَةَ، وَقَالُوا: قَدْ عَلِمْنَا رَأْيَكَ وَرَأْيَ أَخِيكَ.

فَقَالَ: أَرْجُو أَنْ يُعطِيَ اللهُ أَخِي عَلَى نِيَّتِهِ، وَأَنْ يُعطِيَنِي عَلَى نِيَّتِي فِي حُبِّي جِهَادَ الظَّالِمِيْنَ”.

وجاء عند ابن كثير في البداية والنهاية: “وَكَتَبَ مَرْوَانُ إِلَى مُعَاوِيَةَ: إِنِّيْ لَسْتُ آمَنُ أَنْ يَكُوْنَ الحُسَيْنُ مَرصَداً لِلْفِتْنَةِ، وَأَظُنُّ يَوْمَكُم مِنْهُ طَوِيْلاً.

فَكَتَبَ مُعَاوِيَةُ إِلَى الحُسَيْنِ: إِنَّ مَنْ أَعْطَى اللهَ صَفْقَةَ يَمِينِهِ وَعَهْدَهُ، لَجَدِيرٌ أَنْ يَفِي، وَقَدْ أُنْبِئتُ بِأَنَّ قَوْماً مِنَ الكُوْفَةِ دَعَوْكَ إِلَى الشِّقَاقِ، وَهُمْ مَنْ قَدْ جَرَّبتَ، قَدْ أَفْسَدُوا عَلَى أَبِيْكَ وَأَخِيْكَ، فَاتَّقِ اللهَ، وَاذْكُرِ المِيْثَاقَ، فَإِنَّكَ مَتَى تَكِدْنِي، أَكِدْكَ.

فَكَتَبَ إِلَيْهِ الحُسَيْنُ: أَتَانِي كِتَابُكَ، وَأَنَا بِغَيْرِ الَّذِي بَلَغَكَ جَدِيرٌ، وَمَا أَرَدْتُ لَكَ مُحَارَبَةً وَلاَ خِلاَفاً، وَمَا أَظُنُّ لِي عُذْراً عِنْدَ اللهِ فِي تَرْكِ جِهَادِكِ، وَمَا أَعْلَمُ فِتْنَةً أَعْظَمَ مِنْ وَلاَيَتِكَ”.

فهذا بيانٌ صريحٌ من الحسين لا يحتاج تأويلاً في أنّ رفضه قتال معاوية والخروج عليه إنّما جاء احتراماً لاتّفاق أخيه الحسن، وكلامه يدلّ بوضوحٍ كذلك على أنّ رفضه بيعة يزيد والخضوع له وقراره في المواجهة يأتي تحت عنوان “جهاد الظّالمين”.

ذرائع واهيةٌ لإفراغ المعركة من إلهامِها

لإفراغ معركة كربلاء من حقيقتها الكبرى في كونها مواجهة مُلهمة بين حقّ أبلج واستبدادٍ سياسيّ ظالم وطغيان الحاكم؛ يتذرّع البعض بمحاولة بعض الصّحب الكرام ثني الحسين رضي الله عنه عن الخروج إلى العراق، معلّلين ومفسّرين ذلك برفض لسلوكه ونهجه. وقد بيّنت الرّوايات خلاف ذلك، فالدّافع لمحاولاتهم كان نصحاً منهم له؛ إشفاقاً عليه وخوفاً على حياته من البطش والغدر الذي يتوقّعونه من السلطة الحاكمة.

فقد ذكر الذّهبي في سير أعلام النبلاء: “فَأَقَامَ حُسَيْنٌ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ مُتَرَدِّد العَزْمِ، فَجَاءهُ أَبُو سَعِيْدٍ الخُدْرِيُّ، فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ، إِنِّيْ لَكَ نَاصِحٌ وَمُشْفِقٌ، وَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّهُ كَاتَبَكَ قَوْمٌ مِنْ شِيْعتِكَ، فَلاَ تَخْرُجْ إِلَيْهِم، فَإِنِّي سَمِعْتُ أَبَاكَ يَقُوْلُ بِالكُوْفَةِ: وَاللهِ لَقَدْ مَلِلْتُهُم وَمَلُّونِي، وَأَبْغَضْتُهُم وَأَبْغَضُونِي، وَمَا بَلَوْتُ مِنْهُم وَفَاءً، وَلاَ لَهُم ثَبَاتٌ وَلاَ عَزْمٌ وَلاَ صَبرٌ عَلَى السَّيْفِ”.

وبيّن الذّهبي أيضاً بأنَّ خوف ابن عمر رضي الله عنهما كان من تكرار الخذلان الذي لحق بأبيه وأخيه وأن يلحق بالحسين رضي الله عنه؛ فقد جاء في سير أعلام النبلاء: “فَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُوْلُ: غُلِبْنَا بِخُرُوجِهِ، وَلَعَمْرِي لَقَدْ رَأَى فِي أَبِيْهِ وَأَخِيْهِ عِبْرَةً، وَرَأَى مِنَ الفِتْنَةِ وَخُذْلاَنِ النَّاسِ لَهُم مَا كَانَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ لاَ يَتَحَرَّكَ”.

فدلّ ذلك بمفهومه على أنّ ابن عمر لو علم أنّه لن يلقى خذلاناً لأيّده وأعانه.

بل إنّ ابن عباس رضي الله عنهما نصح الحسين رضي الله عنه بعدم الخروج إلى العراق إشفاقاً عليه، ودعاه إلى الخروج إلى اليمن للحاق بشيعة أبيه، وكونه بيئة مناسبة لخروجه بخلاف العراق.

قال ابن كثير في البداية والنهاية: “لما كان من العشي أو من الغد، جاء ابن عباس إلى الحسين فقال له: يا ابن عم! إني أتصبّر ولا أصبر، إني أتخوّف عليك في هذا الوجه الهلاك. إن أهل العراق قوم غدر فلا تغترن بهم، أقم في هذا البلد حتى ينفي أهل العراق عدوهم ثم أقدم عليهم، وإلا فسر إلى اليمن فإن به حصوناً وشِعاباً، ولأبيك به شيعة، وكن عن الناس في معزل، واكتب إليهم وبث دعاتك فيهم، فإني أرجو إذا فعلت ذلك أن يكون ما تحب.

فقال الحسين: يا ابن عم! والله إني لأعلم أنك ناصح شفيق، ولكني قد أزمعت المسير”.

كما يتذرّع البعض بما ذكره الذهبي في سير أعلام النبلاء: “بعث عبيد الله لحربِه عمر بن سعد، فقال الحسين: يا عمر! اختر مني إحدى ثلاث؛ إما أن تتركني أرجع، أو فسيّرني إلى يزيد، فأضع يدي في يده، فإن أبيت، فسيرني إلى التُرك، فأجاهد حتى أموت”، معتبرين هذه الرّواية دليلاً على بيعة الحسين رضي الله عنه ليزيد.

ولا يحتاجُ الأمرُ إلى كثيرِ نظرٍ لمعرفة أنّ هذا العرض الذي عرضه الحسين رضي الله عنه على عمر بن سعد؛ إنّما كان في جلسة تفاوض في ساحة المعركة، في محاولة لحقن الدّماء بعد أن رأى الحسين خذلان النّاس له، ولكن عندما رفض المعسكر المقابل العروض اختار الحسين رضي الله عنه المواجهة. فهذا الموقف هو للحسين لا عليه، كما أنّه يعطي الثّائر ضدّ الاستبداد والظّلم منهجيّة في التعامل مع الظرف المحيط بما لا يوقعه في التّذلل في المفاوضات والاتفاقيات، وهذا ما جرى حين رفض الحسين عرض ابن زياد المذل المهين وقرر المواجهة. وإنَّ قرار الحسين رضي الله عنه مواجهة جيش يزيد هو قرار بطوليّ بامتياز، قرار الرافض للخضوع والذّل مع عدم توافر الإمكانات والكفاءة في العدد والعتاد.

منهجيّات في التّعامل مع معركة كربلاء

ممّا ينبغي التّأكيد عليه بين يدي إحياء ذكرى معركة كربلاء واستشهاد الحسين رضي الله عنه ويعين على التّعامل مع الحادثة كما ينبغي وبما يليق بجلال المشهد وجعلِها مُلهمةً؛ النّقاط المنهجيّة الآتية:

أولاً: ضرورة التّخلّص من الرّهاب الفكري الذي تفرضه شريحة من أهل السّنة فتمنع الاقتراب من الحديث عن كربلاء وعن الحسين رضي الله عنه، وعدم الانكفاء أمام شراسة الهجوم والاتّهامات الجاهزة.

ثانياً: ترسيخ فكرة أنَّ أهل السّنّة أولى من الشّيعة بالحسين رضي الله عنه وبآل البيت عموماً في الوعي العام، وكسر احتكار الشّيعة للحديث عن الحسين رضي الله عنه وتكسير الحواجز بين الدّعاة والكتّاب وبين هذه القضيّة.

ثالثاً: إعادة قراءة تاريخ الحسين رضي الله عنه عموماً ومأساة كربلاء على وجه الخصوص بعيداً عن الاستقطاب الطّائفي، وتكريس مبدأ البحث التاريخيّ العلمي الذي يمحّص الرّوايات دون الانسياق وراء الرّوايات التّاريخيّة التي كُتبت تحت وطأة الاستبداد السّياسيّ، أو تلكم التي كتبت تحت تأثير الثّأرية الطائفيّة.

رابعاً: تقديم الحسين رضي الله عنه كما قدّمه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ بوصفه سيّد شباب أهل الجنّة، والتّعامل مع تاريخه ومواقفه واستشهاده بما يليق بسيّد شباب أهل الجنّة من إجلالٍ وتقدير وتفسيرٍ للمواقف دون القول بالعصمة.

خامساً: تجاوز الخضوع لفكرة عدم مناسبة الوقت للحديث في هذه القضايا، والادّعاء أنّ طرح الموضوع من حيث الأصل هو خدمةٌ للشيعة ورواياتِهم؛ فلم تتوقف حركة الأفكار في الأمّة الإسلاميّة في أحلك الظروف وأقساها، ولا ينبغي أن يخاف أهل السّنة من طرح أيّة فكرة في أيّ وقت، فهم أهل البضاعة الأصيلة الصّالحة للعرض، وأهل البضاعة المزيفة هم الذين يخافون من أيّة قراءة نقديّة، كحال نظام الأسد الذي كان يرفض أيّ انتقاد بدعوى أنّ ذلك سيخدم أعداء الوطن.

سادساً: استلهام الدّروس التي يستفيد منها شباب الأمّة في فهم طبيعة الاستبداد السياسيّ وكوارثه من معركة كربلاء ومن سيرة الحسين رضي الله عنه، ورسم منهجيّات التّعامل معه على ضوء التّفاصيل العلميّة والموضوعيّة لحادثة تولّي يزيد، وصولاً إلى مواجهة الحسين رضي الله عنه واستشهاده.

كربلاءُ بينَ ظُلمَين

لقد ظلم الشّيعة معركة كربلاء حين جعلوها عنوان الثّأر الباطش العدوانيّ، فما زالوا يهتفون “يا لثارات الحسين”، فيتعاملون مع مخالفيهم على أنّهم نواصب من سلالة يزيد ويحمّلونهم مسؤوليّة قتل الحسين وينادون بالثّأر منهم.

لقد ظُلمت ثورة الحسين حين تم الهجوم على حواضر العالم الإسلامي تحتَ حجّة الثّأر للحسين؛ فحمل البعض أسياف يزيد يبقرون بها بطون النّساء، واستباحوا المدن وحاصروا النّاس حتّى ماتوا عطشاً مثل آل بيت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في كربلاء، وهجّروا الآمنين من مدنهم وقراهم وهم يهتفون لبّيك يا حسين.

إنَّ تلبية الحسين لا تكون بالجنون الطّائفيّ الذي لن يُحِلّ بالأمّة إلا مزيداً من الدّمار والخراب.

إنّ تلبية الحسين تكون بالسّير على نهج ثورته التي رفضت الخضوع للاستبداد والإجرام السّياسي.

إنَّ الذين ثاروا على الطّغيان ووقفوا في وجه الحكّام المجرمين، وصرخوا في وجوه المستبدّين وجيوشِهم كما نادى الحسين رضي الله عنه “هيهات منّا الذّلّة”؛ هم أبناء الحسين الحقيقيّون، وهم حملةُ رسالته وهم أحبابه وهم ورثةُ معركة كربلاء، وهم الأَولى أن ينادوا في المحافل كلّها “لبّيكَ يا حسين”.

وفي المقابل، فقد ظلمَ أهل السّنّة والجماعة معركة كربلاء ومواجهة الحسين رضي الله عنه عندما لم يحوّلوها إلى مشكاةٍ ملهمةٍ لكلّ ثوراتِهم في مواجهة الطّغيان والاستبداد، وظلموها حين تحاشوا التّعاطي معها خوفاً من تهمة التّشيّع، فغابت كربلاء عن أحاديثهم وخطبهم وندواتِهم ومحاضراتِهم، وظلموها حين تجنّبوا إحياء ذكراها كما يحيون ذكريات الوقائع المفصليّة في تاريخ الأمّة الإسلاميّة خشيةً من اتّهامهم بالتناغم مع المجالس الحسينيّة العاشورائيّة الشّيعيّة، والأصل فيهم أن يقولوا للدّنيا كلّها: نحن أبناء كربلاء المُلهمة في الصّراع بين الحقّ والباطل، ونحن أبناء الحسين المظلومون مثله، نحن أبناؤه المحاصرون من الاستبداد مثله، ورؤوسنا معلّقة على رماح الطّغاة المجرمين مثل رأسه، فهو منّا ونحن منه.

المصدر: عربي21

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى