كتاب يوثّق للقوقاز أو الصفحة المهملة من التاريخ الإسلامي
عرض أحمد القاسمي
الكتاب: “القوقاز من خلال المصادر العربية، من بداية الفتح إلى نهاية العهد الأموي”
الكاتب: عيسى محمد بيسلانوف
النشر: مجمع الأطرش لنشر الكتاب المختص 2019، ط1 تونس
عدد الصفحات: 294.
1 ـ بين يدي الكتاب
في هذا الأثر جهد استثنائي في البحث والتوثيق. فقد اختار صاحبه عيسى محمد بيسلانوف الاعتماد بشكل أساسي، على المصادر العربيّة التي غُمط حقها في الدراسة والتحليل ووقع تهميشها من قبل المؤرخين الذين آثروا الاستناد إلى المصادر الأرمينية. فربما ما حال دون اعتمادها ورودها في شكل نتف مبثوثة في هذا الأثر أو في ذاك وعدم جعلها من تاريخ إقليم القوقاز موضوعها الأساسي. وقد يكون لجهل المؤرخين المعاصرين باللغة العربية وعدم ترجمة هذه المصادر إلى لغات أخرى أثره في عدم اعتمادها. ومهما يكن من أمر فالحاصل واحد. لقد تمّ التأريخ للمنطقة اعتمادا على وجهة النظر المحليّة وتم تجاهل المنظور العربي الإسلامي في تدوين أحداث حقبة كان المسلمون فاعليها الأساسيين.
2 ـ فصل في “الجغرافيا التاريخية”
ينبه الباحث إلى تدقيق جغرافي مهم. فعامة المؤرخين العرب يشيرون في كتاباتهم لجميع “ما وراء القوقاز” باعتبارها بلادا واحدة ويطلقون عليها تسمية “بلاد أرمينية”. وهذا مخالف للتقسيم البيزنطي الذي يلتزم بالحدود الجغرافية للقومية الأرمينية. ومن شأنه أن يشوش المعلومة التاريخية الدقيقة. ففي المنطقة القوميات قوقازية كثيرة تشارك الأرمن الإقامة بها وإن جمعت بينها روابط تاريخية وثقافية ودينية كثيرة ونضال مشترك ضد غزوات الرومان والفرس ومقاومة مشتركة للفتوحات الإسلامية.
لا يعني ذلك جهل المصادر العربية لهذه الاختلافات. فقد استعملت أحيانا للتمييز بين بلاد الأرمن وجميع بلاد ما وراء القوقاز عبارة “مملكة الأرمن” التي تشتمل عندهم على “اثنين وسبعين أمة، لكل أمة ملك ولغة” وفق البكري في المسالك والممالك. و”لا يعرف كل إنسان لغة صاحبه إلاّ بترجمان” وفق ياقوت الحموي صاحب معجم البلدان. وعليه، وانطلاقا من الدراسات التي عاد إليها يرجّح، أن غلبة الأرمن عددا وهيمنتهم على الشعوب المجاورة لهم كانت وراء هذا التعميم.
ويسجل عيسى محمد بيسلانوف محاولة هذه المصادر العربية تصنيف شعوب المنطقة إثنوغرافيا. فقد اعتمدت الاتجاه النّسبي، ويريد الباحث بهذا المصطلح اعتماد الأنساب منطلقا لفهم كيفية تشكل شعوب المنطقة وظهور تفرّعاتها ولجأت أحيانا إلى الاتجاه اللّغوي، فحددت الهويات انطلاقا من اللغة المعتمدة وكثيرا ما انطلقت من الاتجاه التركيبي، وهو الاتجاه الذي يمزج بين العاملين.
ويصادر الباحث على عدم دقّة هذه المعايير علميا. ويعمل على مقارنتها بمنجز الدراسات الحديثة التي ترسم الخريطة العرقية للمنطقة في تلك الفترة فتحدّد ثلاثة سلالات بشرية. فيشير إلى الجنس الألتاوي الذي تنتمي إليه قبائل الخرز وغيرها من القبائل التركية التي وفدت إلى سهول القوقاز الشمالية الشرقية ويضيف الجنس الهندي ـ الأوروبي الذي ينتمي إليه العرق الأرمني والعرق الأوستيني والعرق الكردي والجنس القوقازي الذي يضم شعوب القوقاز الجبلية والكرج والأرانيين ملاحظا أن هذه الفسيفساء من الأعراق شكلت قرابة ثقافية واستطاعت العيش معا في سلم نسبي.
3 ـ الوضع السياسي في القوقاز قبل الفتح الإسلامي
ظلت منطقة القوقاز مطمع الدول العظمى عبر مختلف العصور. فموقعها الاستراتيجي، رغم تمتعها بحاجز طبيعي جبلي بجعلها منطقة منيعة نسبيا، وقربها من الإمبراطوريات الكبرى المتنافسة وخصوبة أراضيها وثراء مدنها كلّها عوامل جعلتها موضوع تنازع بين الإمبراطورية الفارسية وإمبراطورية الروم وإئتلاف القبائل الطورانية المترحلة، تلك التي تنحدر من طوران، المنطقة الممتدة ما بين هضبة إيران وبحر قزوين وتمثل مهد القبائل والشعوب التركية.
ويلاحظ الباحث أنّ المصادر العربية تشكو من ثغرات تاريخية عند عرضها لهذه المرحلة. فلا تخوض في تاريخ الحكم الفارسي أو الروماني هناك رغم ما كان للسياسة الساسانية في القوقاز ما في الفترة الممتدة بين 459 م و579م والسابقة للفتح من الأهمية.
ولا نشير إلى أنّ الساسانيين قد وطّدوا سلطانهم في الجزء الشرقي من بلاد ما وراء القوقاز في عهد الملك فيروز وابنه قباذ وإلى أن الهيمنة الفارسية قد بلغت ذروتها مع حفيده كسرى أنو شروان. فقد بنى سد اللبن وعليه شيّد 360 قصرا وأسس مدينة البيلقان. ثم بنى بالصخر المنحوت مدنا وحصونا وأكاما. وأراد للمنطقة أن تحافظ على نفوذ الفرس وأن تصد القوى المنافسة. فدعّم خطوط دفاعاتها وبنى المستوطنات العسكرية ووظف الشعوب التي أخضعها لسلطانه لحماية هذه الثغور. كما بنى سورا جعله خط دفاع متكامل ليحول دون زحف القبائل الطورانية جنوبا. ولا يشك الباحث في أن مثل هذا الصرح قد أثقل كاهل الأهالي ولكن تكلفته لن تكون بحال بمستوى الخسائر التي كانت ستكلفها لهم غزوات هذه القبائل.
4 ـ الفتح العربي الإسلامي
أ ـ في عهد الخلافة الرّاشدة
يذكّر الباحث بأن هذا الإقليم، قبل حملات المسلمين كان على قدر من الوهن والتفكك وبأن الأوضاع فيه كانت متوترة بسبب الفتن والغزوات. وبالمقابل جاءت الغزوات الإسلامية امتدادا لانتصاراتهم بعد فتح الشام والعراق ثم التوسع شمالا وقد باتوا يتجهون نحو إمبراطورية تفرض سلطانها وتتمدد على حساب البلدان التي يهيمن عليها الفرس والبيزنطيون. فقد بدأت منذ أن دشّن الخليفة عمر حركة الفتح الواسعة بداية من 19 للهجرة. وكانت أولاها بقيادة عياض بن غنم الذي وصل إلى تخوم الإقليم في منطقة أرمينية الرابعة وهي إقليم صغير من بلاد أرمينية الشاسعة ودخل مدينة “ملطية” وصالح أهلها على الجزية. وكانت الحملة في الأصل مطاردة للجيش البيزنطي المنهزم باليرموك.
كانت الفتوحات سهلة رغم محدودية عدد جيوشها وعتادها مقارنة بالحملات الفارسية أو البيزنطية. ويردّ نجاحها الذي عرضنا إلى عنصرين أساسا. فيقدر أنّ لتعاظم هيبة الخلافة الإسلامية في نفوس الشعوب نتيجة لانتصاراتها الباهرة وأنّ لتفضيل هذه الشعوب حكم المسلمين على حكم الفرس والبيزنطيين لوضوح شروطهم عند الفتح وتسامحهم مع معتقداتهم وثقافتهم دورا أساسيا.
ثم جاءت بعدها مرحلة الغزو المنظّم الذي تمّ بتخطيط وتدبير مسبقين في نهاية خلافة عمر، أي سنة 22 ه/ 644 م وجاء ضمن خطة تهدف إلى دفع القوات البيزنطية بعيدا عن حدود الجزيرة العربية. فبموجبها اتجهت قوة إلى مدينة باب الأبواب يقدر الباحث، بناء على عمليات استدلال ومقارنات، أن يتجاوز المشاركين فيها الخمسة آلاف جندي. ولكن ملكها الفارسي شهربراز طلب التفاوض مع قائد الجيوش الإسلامية وقتئذ، عبد الرحمان بن ربيعة ليسلّم المدينة دون قتال مقابل بعض الشروط ولينخرط في خدمة السلطة الإسلامية وقد انهارت الإمبراطورية الساسانية بعد.
ومن ثغر الباب انطلقت الحملات بعدئذ إلى الأراضي المجاورة وإن لم تكن جميعها ناجحة. ثم تواصلت في عهد خلافة عثمان 23(23ه ـ35ه). ففُتحت بلاد ما وراء القوقاز سنة 25 للهجرة. وتم تثبيت نفوذ الإمبراطورية الإسلامية فيها إلى حد بعيد. ولا تحدّد المصادر تاريخ الحملة الثالثة على هذا الإقليم بدقة. فيذكر بعضها أنها تمت سنة 26 فيما تذهب به أخرى إلى سنة 31 للهجرة التي يقدّر الباحث أنها أقرب إلى الواقع.
وعامة كانت الحملات الإسلامية على القوقاز في المرحلة الراشدية سريعة وكانت الفتوحات سهلة رغم محدودية عدد جيوشها وعتادها مقارنة بالحملات الفارسية أو البيزنطية. ويردّ نجاحها الذي عرضنا إلى عنصرين أساسا. فيقدر أنّ لتعاظم هيبة الخلافة الإسلامية في نفوس الشعوب نتيجة لانتصاراتها الباهرة وأنّ لتفضيل هذه الشعوب حكم المسلمين على حكم الفرس والبيزنطيين لوضوح شروطهم عند الفتح وتسامحهم مع معتقداتهم وثقافتهم دورا أساسيا.
ثم يعرض تصوّر المصادر المحلية لهذه النجاحات الحربية فينقل عنها تبريرها لهزائم الجيوش القوقازية بـ”ـالشجاعة الفطرية لدى العرب وخفة جيشهم وسرعته”. ولكن تجدر الإشارة إلى أنّ المسلمين واجهوا بعدئذ صعوبات لضمان الاستقرار هناك. فقد شجّعت الفتن الداخلية واغتيالات الخلفاء بعض هذه الشعوب على التمرّد عن سلطان الإمبراطورية الناشئة.
ب ـ في الطور الأموي
لا تتحدّث المصادر العربية التي توفرت للباحث عن حملات جديدة في الطّور الأموي الأول بقدر ما تشير إلى ما شهده الإقليم من الانتفاضات ضد الوجود الإسلامي وإلى “أهل أرمينية الذين كفروا” وإلى “نقض الأرمن للعهد” في عهد معاوية ابن أبي سفيان” دون أن تذكر كيفية إخمادها. ويربط الباحث الأمر بمرحلة الفتنة الكبرى التي انكفأت فيها جيوش المسلمين على نفسها وانشغلت بالاقتتال الداخلي.
ولكن يبدو أن هذه الحركات لم تصل إلى درجة الخطورة الكبيرة في البداية لأن الإمبراطورية البيزنطية التي كانت تترصد الوجود الإسلامي هناك وترابط على التخوم لم تستطع أن تحقق اختراقا يذكر. ثم تطوّر الأمر سنتي 64 ـ 65 للهجرة. فتحوّل النزاع إلى حرب أهلية امتدت لعقد من الزمن. ولن يعاود المسلمون الغزوات والأخذ بزمام الأمور إلاّ بعد توحيد صفوفهم بداية من 73 للهجرة.
ويشير إلى المرحلة الفاصلة بين سنتي 89 ـ132 بالطور الأموي الثاني. ففي هذه الفترة الأخيرة من تاريخ الدولة الأموية انتقل الصراع إلى الشرق وفقد المسلمون مدينة الباب في حرب الخزر واشتعل صراع طويل انتهى بانتصارهم من جديد وباستعادتهم لهذا الإقليم المارق.
5 ـ القوقاز من خلال المصادر العربية، من بداية الفتح إلى نهاية العهد الأموي وبعد؟
اجتمعت عديد العوامل لتجعل من هذا الكتاب أثرا مهمّا. تعلق أولها بموضوعه. فأغلب المسلمين اليوم يجهلون التاريخ الإسلامي المبكر لمنطقة القوقاز التي تمثل معبرا لهجرة المجموعات البشرية ولانتشار الأفكار والثقافات وذات الأهمية الاستراتيجية التي جذبت إليها اهتمام الإمبراطوريات قديما وحفّزت العرب على فتحها فكان لها إسهام فاعل في التاريخ الإسلامي.
والعامل الثاني الذي جعل الأثر مهما يتمثل في هوية كاتبه، فالباحث عيسى محمد بيسلانوف روسي: عارف بتاريخ المنطقة وبخصائصها الجغرافية والإثنولوجية خاصة أنّ الأثر يحاول أن يعرّفنا بالقوقاز القديمة منذ الفتوحات الإسلامية الأولى حتى الثلث الأول من القرن الثاني للهجرة تاريخ سقوط الدولة الأموية، ومتقن للغة العربية ومختص في الدراسات الإسلامية. فقد تخرّج من جامعة الزيتونة التونسية ودرّس اللغة العربية بالجامعة الإسلامية لشمال القوقاز بروسيا الفيدرالية. وهذا ما يجعله أقرب إلى المصادر في الثقافتين أقدر على الكتابة بتجرّد.
الأثر يحاول أن يعرّفنا بالقوقاز القديمة منذ الفتوحات الإسلامية الأولى حتى الثلث الأول من القرن الثاني للهجرة تاريخ سقوط الدولة الأموية،
ويتمثل ثالث الفضائل في عمل الباحث على ضمان أكبر قدر من الموضوعية بعيدا عن التمجيد المطلق أو “الابتسار الإقصائي الماركسي والشعوبي الذي أثر في الكتابات حول هذه الحقبة في مرحلة ما من تاريخ القوقاز”. فمن خلال المقارنة بين المصادر العربية والمصادر المحلية ضبط مسار الجيوش الإسلامية ودقّق بعض التواريخ وسدّ فراغات تركتها المصادر العربية أيام الفتنة لاهتمام المؤرخين بالصراعات الداخلية وأخرى لم تواكبها المصادر المحلية أو لم تكن دقيقة في عرضها، خاصة ما تعلّق بالطور الأموي الثاني.
يؤكد الأستاذ نجم الدين في مقدمة الكتاب أهمية هذه العوامل بقوله “وممّا يؤسف له أنّ عناية الباحثين العرب بهذه المنطقة ظلت إلى يومنا هذا محدودة جدا. لذلك، نكاد مثلا في تونس نجهل كل شيء حول تاريخها الإسلامي رغم أنّ المصادر العربية تحتوي على أخبار هامة وموثقة حولها. ثم إنّ المستشرقين عامّة لم يولوا هذه المصادر الأهمية التي تستحقّها… ومن هنا تأتي أهمية هذا البحث الذي يمثل محاولة في التّاريخ السّياسي والدّيني والإثنولوجي لبلاد القوقاز..”.
المصدر: عربي21