كتاب حكمة الدعوة: منهج الدعوة بعيون رفاعي سرور
قراءة ليليان أحمد
بعد أن تناولنا في المقال السابق معنى الحكمة، وكيفية تكوين الفرد المسلم المفكر، نتناول هنا منهج الدعوة. يقول فضيلة الشيخ رفاعي سرور:
إن منهج الدعوة يُحدَّد بالحكمة، والحكمة هنا فعل ما ينبغي على الوجه الذي ينبغي في الوقت الذي ينبغي.
ثم ذكر الحدود الأساسية للعمل الإسلامي، وهي: ضرورة العمل، صيغة العمل، وقت العمل. بحيث تتم هذه الحدود من خلال الإحكام بين جوانب مفهوم الحكمة.
ويقتضي تحديد منهج الدعوة في التطبيق عدة أمور:
-
ألا تطغى مراعاة الواقع على الحق، كما لا نتجاهل الواقع في إحقاق الحق.
-
لا نفقد في واقعنا الإحساس بالغاية، كما لا نتخيل غاية دون واقع.
-
لا نبدأ بغير الوجود الصحيح للفرد المسلم، ولا ننتهي عند وجوده دون تحقيق الغاية.
ويتحدد منهج الدعوة من مفهوم الحكمة من منطلقين تندرج تحتهما أمور كثيرة: الإحكام بين أبعاد العمل، والإحكام بين مراحل العمل.
المنطلق الأول: الإحكام بين أبعاد العمل
فهو الإحكام بين أمور ثلاثة: مهمة التبليغ، واستخدام القوة، وقيام السلطة. وسنتناولهم فيما يلي بالتفصيل.
أولًا- مهمّة التبليغ
-
التركيز الأدبي في التبليغ، ويعني تحقيق أكبر تبليغ للحقائق بأبسط الأساليب، بأن تسهم كل كلمة في تبليغ وتأكيد هذه الحقيقة.
-
تحديد الأسلوب العملي لتطبيق أي حقيقة حتى تكون كيفية التنفيذ واضحة عند الناس.
-
رفض أي كلمة ليس لصاحبها واقع إيماني صحيح، كرفض شهادة المنافقين.
حكمة التبليغ
وتتحقق بثلاثة أمور:
-
تصور الداعية عن مهمة التبليغ؛ فالدعوة مجرد سبب في تحقيق غاية الهداية، وهذا يحمي الداعية من الغرور أو اليأس؛ فالداعية بدعوته حجة، وهذه الحقيقة تجعله يبذل أقصى طاقته للتبليغ، كما أن الدعوة نجاة للداعية نفسه وعذر له عند الله، وهذا يجعله يواصل دعوته بصرف النظر عن موقف من يدعوهم، وأن الدعوة حرص كامل من الداعية على الناس.
-
نظام التبليغ؛ والأساس في قضية التبليغ عرض كلمة «لا إله إلا الل»،ه مع مراعاة حال صاحب الدعوة، مثلًا إن كان من أهل الكتاب بالتركيز على وحدانية الله.
-
الأسلوب المباشر في التبليغ والمخاطبة بقدر العقل؛ كما قال سيدنا علي: “حدثوا الناس بما يعرفون؛ أتحبون أن يُكذَّب الله ورسوله؟“. ومن الحكمة التناسب الدقيق بين الصيغة للتبليغ وموضوعه، ومن الحكمة الارتكاز على الطبيعة الإنسانية في المخاطَب.
الصراع بالكلمة
أسلوب الدعوة الصحيح لا يعني أن يؤمن كل الناس، ولا عدم عداء الناس للدعوة، لكن تجب الحكمة حتى لا يكون أسلوب الدعوة سببًا في صد الناس عن الحق. وتحديد أسس الصراع بالكلمة بين الجاهلية والإسلام هو المواجهة الحقيقة لهذا الافتراض. وعلينا أن نعرف أطراف وأهداف وتعريف الكلمة عند الطرفين، فالكلمة الإسلامية نور، وكلمة الجاهلية وحي شيطاني تستخدم فيه الجاهلية زخرف القول، ثم تفصل بين الناس والإيمان، وتفصل بين المؤمن وحقيقة إيمانه. كل هذه الأساليب لتفر من الوجود الإيمانية الصحيح في الواقع. ومن الأسس التي يجب أن يتبعها المسلم في صراع الكلمة مع الجاهلية:
-
رد الفكر الجاهلي إلي الواقع الجاهلي، وهو الرد على أي ادعاء جاهلي وتكذيبه.
-
كمال المواجهة، وهو بطلان كل فكرة تثيرها الجاهلية.
-
استرداد المفاهيم المغتصبة، وهو أن نسترد كل مفهوم اغتصبته الجاهلية وضمته إلى واقعها، ورده لمكانه الطبيعي في الواقع الإسلامي.
-
الجدال بالتي هي أحسن، وتحديد مبادئ نسير عليها في الجدال.
ثانيًا– استخدام القوة
مع الأسلوب الصحيح في التبليغ والمواجهة السليمة في الصراع بالكلمة، تتأكد ضرورة القوة في مهمة التبليغ.
{فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ}.
واعتبار القوة وسيلة ليس فيه تجاوز على وسيلة الإقناع بالكلمة، فهناك أحكام محددة يجب الالتزام بها، منها: التبليغ قبل القتال، تبليغ الدعوة للأسرى، إنهاء القتال أو الأسر بمجرد تحقيق هدف الهداية، إجارة المشرك حتى يسمع كلام الله.
ثالثًا– قيام السلطة
واعتبار القوة يرجع إلى كونها أساسًا لقيام السلطة الإسلامية التي تُعتبر بدورها أساسًا في تحقيق الهداية، ودليل العلاقة بين القوة والسلطة والهداية هو قول الله:
﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا).
فربط الله النصر بعد القتال، والفتح بهداية الناس ودخول الدين أفواجًا؛ لذلك كان الرسول ينتظر أيامًا في كل دار حرب تحولت لدار إسلام حتى يقيم فيها أحكام الدين، فالقوة ملازمة للسلطة، وبالسلطة الإسلامية يأمن المسلم على نفسه وعرضه وماله. وفي القتال للوصول إلى السلطة تمحيص لصاحب الدعوة؛ حيث أنه يمر بفترة استضعاف وشدائد، فهذا البلاء يحدد العناصر القادرة على تحمل المسؤولية، لذلك كان رسول الله يختار للولاية على البلاد المفتوحة ممن مر بتجربة الاستضعاف.
المنطلق الثاني: الإحكام بين مراحل العمل
ومعناه تحديد الأسس التي يتم بها الانتقال من مرحلة إلى مرحلة عملية أخرى، وأن تكون كل مقتضيات الحركة مرتبطة بالمرحلة التي تمر بها من خلال أسس ثابتة للتحرك، من أهمها:
-
اعتبار المآل؛ وهو توقع النتيجة التي ستحدث بعد الانتقال من مرحلة إلى أخرى لتفادي أي أثر غير مقبول قد يحدث بهذا الانتقال. واعتبار المآل أصل من أصول الفقه. كأن يكون هناك عمل جائز في ذاته لكن مآله غير مقبول، صار هذا العمل غير جائز. وإذا كان العمل الذي له مآل غير مقبول عملًا ضروريًا في ذاته وليس له بديل، فإننا لا نتوقف عن هذا العمل ونواجه هذا المآل. أما عن التفريق بين المآل المقبول وغير المقبول، فإنه يتحدد بحسب ما قد يصيب الدعوة من ضرر وما يصيب الأشخاص من أذى، فلو كانت فيه مصلحة الدعوة وأذى للداعية فهو مقبول.
-
الاتزان الحركي؛ ومفهومه أن يكون الانتقال المرحلي مجردًا من الاندفاع والحماس؛ بأن يكون الانتقال بعامل زمني منظبط، فلا تنفلت الحركة بالاندفاع النفسي عن قيد الإمكانيات العملية. والانضباط الزمني للتحرك هو الحد الفاصل بين السرعة المطلوبة بالصفة العملية والتعجل المحدود بالصفة النفسية، ولقد تبين لنا من خلال منهج التربية كيف أن الوصول إلى مرحلة الربانية هو الذي يحقق الاتزان النفسي للداعية ويحميه من الاندفاع.
-
حماية الولاء؛ وهو من أسس الانتقال المرحلي للدعوة أساس؛ لأن الولاء سمع وطاعة. ودخول الجماعة المسلمة مرحلة يعجز فيها الفرد عن تحمل المشقة، فتجعله يعيد التفكير في ولائه للدعوة؛ فيضطرب وضع ولائه للجماعة، لذلك طلب الرسول بيعة جديدة من الأنصار عندما أراد الخروج إلى قريش لاختلاف طبيعة المرحلة.
-
الارتباط بالغاية؛ وفيه تتحقق البصيرة في الدعوة، لذلك كان الصحابة يدركون من البداية معنى دخولهم في الإسلام، والمراحل الحتمية التي سيخوضونها باعتناقهم هذا الدين. كما أن وضوح الغاية يحقق الشعور بالشوط الذي قطعه الداعية في طريق التحقق لتلك الغاية، وبالتالي فإن هذا الشعور يقوي إرادة الاستمرار وعزم الوصول.
إحكام الفكر
وهنا يقصد بإحكام الفكر تنظيم العلاقات بين الحقائق في الفكرة الإسلامية، فلكل حقيقة في الإسلام حد لا ينبغي تجاوزه.والمساواة بين الحقائق في كونها فكرة إسلامية من أهم أسباب الاضطراب في تحديد منهج الحركة، فنجد الرسول ينظم الحقائق، مثال تعبيره بأم الكتاب عن الفاتحة: “لا صلاة لمن لم يقرأ بأم الكتاب“. فميز الفاتحة عن باقي السور القرآنية.
والتعبير بسيد الاستغفار “ألا أخبركم بسيد الاستغفار؟“، فهذه دلالة على وجود صيغة معينة للاستغفار تفوق باقي الصيغ، فحرص الرسول على ألا يطغى مفهوم على مفهوم تحقيقًا للإحكام بين المفاهيم. وقيمة الإحكام الفكري في الإسلام ترجع أساسًا إلى أن هذا الإحكام الفكري هو المقدمة الطبيعية للإحكام في التطبيق، والحكمة هي الحكم التطبيقي بين الحقائق، فلا يجوز أن تأخذ الدعوة صورة كلامية بحتة، ولا قتالية بحتة، ولا اعتزالية بحتة؛ رغم أن التبليغ بالحكمة حق شرعي، والقتال حق شرعي، والاعتزال أو الهجرة حق شرعي، ولكن الحكمة هي التي تعطي لكل حق شرعي حق التطبيق في الواقع.
الفكر والقدر
بعد أن اتفقنا على ضرورة الإحكام الفكري التي تقود إلى الإحكام في التطبيق العملي، نريد أن نتفق على تحديد العلاقة بين الفكر بعد إحكامه وبين القدر الإلهي؛ باعتبار أن قيام الواقع الإسلامي يرجع في النهاية إلى قدر الله.
وبالرغم من أنها حقيقة بديهية، إلا أنها تكون مبدأ نظريًا في الواقع، فالتفكير البشري مجرد سبب قد يحدث القدر بدونه، أو يحدث ما يخالفه؛ فحدوث غزوة بدر كان خلاف التخطيط للاستيلاء على القافلة بدون حرب.
وتُحدد العلاقة بين المنهج والقدر بعدة أمور:
-
أن التكاليف الشرعية هي التي تتضمن الأسباب القدرية لتحقيق الواقع؛ فالخطأ الشرعي في مجال الدعوة يعني استحالة أو تأخير تحقيق هذا الواقع.
-
تحديد السنن القدرية الثابتة من الكتاب والسنة لتحقيق التوافق معها في مجال الحركة الإسلامية، ويتضح هذا التوافق في التحرك الإسلامي الأول في مجال القتال. حيث كان القتال مرتبطًا بسنن إهلاك الكفار بأيدي المؤمنين ﴿قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ﴾.
-
العلاقة بين الفكر البشري والقدر في تحديد منهج الدعوة، هو رفض التفكير البشري البحت الذي لا يقوم على أصل شرعي أوسنة قدرية ثابتة؛ فهذا التفكير يحول الدعوة إلى حركة مادية، ويفقدها صفة الربانية. ففي غزوة الأحزاب بعد أن نظم الرسول كل أموره قال: “ادعُ الله يا براء أن يهزمهم وينصرنا عليهم“، فالأخذ بالأسباب لم يمنع رسول الله من الدعاء.
اضغط هنا لتحميل كتاب حكمة الدعوة.
(المصدر: موقع تبيان)