كتاب «إحياء علوم الدين»: انتفاضة صوفية ضد فقهاء السلطان
قراءة محمد يسري أبو هدور
من بين جميع العلماء المسلمين الذين ظهروا في القرون الوسطى، يحظى أبو حامد الغزالي المتوفى 505هـ بمكانة شبه متفردة، وذلك لجهوده المتميزة في ميادين الفكر الأشعري، والفقه الشافعي، والتوجهات الروحية الصوفية.
رغم كثرة وتعدد مؤلفات الغزالي فإن كثيرًا من الباحثين قد اتفقوا مع بعضهم البعض على الأهمية الفائقة التي يحتلها كتاب «إحياء علوم الدين» تحديداً، إذ يعتقد كثيرون بكونه أهم موسوعة صوفية- سنية على الإطلاق.
الإحياء لم يكن مجرد كتاب مهم كغيره من الكتب التي جرى تصنيفها في تلك المرحلة التاريخية، بل يمكن القول إنه قد عبّر بجلاء عن التحولات الفكرية والروحية العميقة التي مرَّ بها الغزالي نفسه، ومن هنا فقد حافظ الكتاب لنفسه– ولصاحبه- على مقام معتبر في الذاكرة الشعبية الإسلامية.
يتيم طوس الذي صار أكبر علماء بغداد
من المعروف أن الإمام أبو حامد محمد بن محمد بن محمد بن أحمد الغزالي قد ولد في عام 450هـ، في ناحية من نواحي مدينة طوس العامرة، والتي كانت واحدة من أشهر المدن الإيرانية في القرون الوسطى، وقد دُفن فيها كلٌّ من الخليفة العباسي هارون الرشيد المتوفى 193هـ، والإمام العلوي علي بن موسى الرضا المتوفى 203هـ.
الاختلاف يحيط بنسبة أبي حامد، إذ يذهب العديد من المؤرخين إلى تسميته «الغزّالي»– بتشديد الزاي- نسبةً إلى أبيه الذي كان يعمل في صناعة غزل النسيج، بينما يذهب البعض الآخر إلى تسميته «الغزالي»، نسبةً إلى بلدة يُقال لها غزالة، وهي التي وُلِد وعاش فيها سنين طفولته الأولى.
الغزالي، الذي اختلف العلماء في أصوله، وإذا كان عربياً أم فارسياً، وجد نفسه يتيماً منذ فترة مبكرة من حياته، إذ توفي أبوه وتركه مع أخيه الأصغر أحمد، فتعهدهما أحد الصوفية بالرعاية والاهتمام، وعمل على تعليمهما القرآن والحديث احتراماً لوصية الأب الراحل، ولكن لما نفد القدر اليسير من الأموال التي ورثها الطفلان، أُسقط في يد الشيخ الصوفي، فنراه يخاطبهما، قائلاً «اعلما أنّي قد أنفقت عليكما ما كان لكما وأنا رجل من الفقر والتجريد بحيث لا مال لي فأواسيكما به، وأصلح ما أرى لَكمَا أن تلجآ إِلَى مدرسة كأنكما من طلبة الْعلم فَيحصل لَكمَا قوت يعينكما على وقتكما»، وذلك بحسب ما يذكر تاج الدين السبكي المتوفى 771هـ في كتابه «طبقات الشافعية الكبرى».
بالفعل، نفذ الأخوان نصيحة مربيهما، رحل أبو حامد إلى جرجان، وفيها تلقى العلم على يد أبي النصر الإسماعيلي، ثم رجع إلى طوس مرة أخرى، ومكث بها قرابة الثلاث سنوات، قضاها في حفظ الكتب والمخطوطات، وفي 473هـ سافر إلى نيسابور، فتلقى العلم على يد إمام الحرمين أبي المعالي الجويني، والذي كان يدرس وقتها في المدرسة النظامية التي أسسها الوزير السلجوقي نظام الملك الطوسي.
بحسب ما يذكر شمس الدين الذهبي المتوفى 748هـ في كتابه «سير أعلام النبلاء»، فقد مكث الغزالي في صحبة الجويني لخمس سنوات كاملة، قضى معظمها في التعلم ودراسة علم الكلام والأصول والفقه، ولكنه لم يكتفِ بذلك فحسب، بل نراه أيضاً يتصدى للتدريس والتصنيف أيضاً، مما أثار إعجاب شيخه وحسده في بعض الأحيان، فنجده يصف الغزالي بـ«البحر المغدق»، ويقرّبه منه ويُعينه كمساعد له في المدرسة النظامية.
في 478هـ، وبعد وفاة الإمام الجويني، وقع التحول الأهم في حياة الغزالي، عندما اتصل بخدمة الوزير نظام الملك، فحظي عنده بمكانة معتبرة، وأضحى مع مرور الوقت أهم شخصية علمية دينية في دولة السلاجقة، وسرعان ما ذاع صيته بعد ما التحق بالتدريس في المدرسة النظامية ببغداد عاصمة الخلافة العباسية، فسمع به القاصي والداني، وقدم عليه العشرات من طلبة العلم لدراسة الفقه الشافعي والعقيدة الأشعرية، ومما يعبر عن تلك المكانة، شهادة الفقيه الأندلسي الأشبيلي أبي بكر بن العربي المالكي المتوفى 543هـ. قال: «رأيت الغزالي ببغداد يحضر درسه أربعمائة عمامة من أكابر الناس وأفاضلهم يأخذون عنه العلم».
الملاحظة المهمة في تلك الفترة، أن أبا حامد قد وجد نفسه موظفاً في المشروع العباسي- السلجوقي الضخم، والذي يعتمد بالمقام الأول على الانتصار لمذهب أهل السنة والجماعة والأشاعرة، من خلال نقد ونقض المشروع الفاطمي الشيعي الإسماعيلي المتمركز في القاهرة، والذي تنتشر فروعه وامتداداته في نواحٍ مختلفة من الأقاليم الإيرانية، ولعل هذا يفسر ما لعبه الغزالي من جهود حثيثة في محاربة الشيعة الإسماعيلية، وتصنيفه كتاب «فضائح الباطنية وفضائل المستظهرية»، والذي كفّر فيه الجماعات الإسماعيلية التابعة لسلطة الحسن بن الصباح الحميري صاحب قلعة آلموت، فأباح فيه دمهم وأعراضهم باعتبارهم خوارج منافقين يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر.
رحلة الغزالي: من حيرة الشك إلى قناعة اليقين
في 488هـ، ترك الغزالي المدرسة النظامية ببغداد، وأناب أخاه أحمد للتدريس فيها، لينطلق في رحلة طويلة زائراً لبلاد الحجاز والشام ومصر، وليعود في نهاياتها إلى بغداد بعد أحد عشر عاماً من الترحال.
في كتابه «المنقذ من الضلال»، يتحدث الغزالي عن أسباب تلك الرحلة، فيقول إنه قد أصيب في نهاية العقد الثالث من عمره بمرض غريب «إذ أقفل الله على لساني حتى اِعْتُقِل عن التدریس، فكنت أجاهد نفسي أن أُدرس یومًا واحدًا تطییبًا للقلوب المختلفة إلي، فكان لا ینطق لساني بكلمة واحدة ولا أستطیعها البتة، حتى أورثت هذه العقلة في اللسان حزنًا في القلب، بطلت معه قوة الهضم ومراءة الطعام والشراب: فكان لا ینساغ لي ثرید، ولا تنهضم لي لقمة؛ وتعدى إلى ضعف القوى، حتى قطع الأطباء طمعهم من العلاج…».
هذا المرض النفسي، كان نتيجة لكثرة الأسئلة الوجودية التي دارت في عقل ووجدان الغزالي، والتي وجد نفسه عاجزاً عن الإجابة عليها خصوصاً بعد ما اتصل بشيخ الصوفية أبو علي الفضل بن محمد الفارمذي الخراساني، وبعد ما اجتذبته كتب أعلام الصوفية من أمثال أبي طالب المكي، والجنيد، والحارث المحاسبي، ومما يعبر عما اعتمل في نفس الغزالي في تلك المرحلة، قوله «لاحظت أحوالي، فإذا أنا منغمس في العلائق، وقد أحدقت بي من الجوانب، ولاحظت أعمالي- وأحسنها التدريس والتعليم – فإذا أنا فيها مقبل على علوم غير مهمة، ولا نافعة في طريق الآخرة. ثم تفكرت في نيتي في التدريس، فإذا هي غير خالصة لوجه الله تعالى، بل باعثها ومحركها طلب الجاه وانتشار الصيت، فتيقنت أني على شفا جرف هارٍ، وأني قد أشفيت على النار، إن لم أشتغل بتلافي الأحوال…».
الغزالي أطلق لنفسه العنان في الدراسة والبحث في تلك الفترة من عمره، ومما ساعده على ذلك ميله الفطري للمعرفة، والتي تحدث عنها قائلاً «وقد كان التعطش إلى درك حقائق الأمور دأبي وديني، من أول أمري، وريعان عمري، غريزة وفطرة من الله وضعها في جبلتي لا باختياري وحيلتي».
في رحلته الطويلة تلك، مارس الغزالي الطقوس الصوفية التقليدية المعروفة في عصره، فنجده بعد أن انتهى من أداء فريضة الحج، ينكب على الذكر ويجهد نفسه بالعبادة، ويترك كل المباهج التي توافرت له في بغداد، فيؤثر أن يطلق السياسة ثلاثاً، وأن يُفني تلك الفترة من عمره في التكايا والخلوات مع الأولياء وأهل الطريق، حتى «عادت النفس إلى الصحة والاعتدال، ورجعت الضروريات العقلية مقبولة موثوق بها على أمن ويقين. ولكن لم يكن ذلك وفق ترتيب دليل أو تركيب كلام، بل بنور قذفه الله تعالى في الصدر…».
بعد كل هذا رجع الغزالي إلى مسقط رأسه في طوس، فسكن في منزله، وابتنى بجواره مدرسة لطلبة العلم وخانقاه للصوفية، وظلَّ مواظباً على قراءة القرآن والزهد والتنسك، ورفض المشاركة في أعمال السياسة والدولة، فلم يتولَ أمر التدريس في المدرسة النظامية بنيسابور إلا لفترة قصيرة بعد ضغط وإلحاح من الوزير السلجوقي فخر الملك، وسرعان ما ترك وظيفته وعاد أدراجه إلى طوس مرة أخرى بعد أن بلغته أنباء مقتل الوزير على يد الإسماعيلية النزارية، فعاش شبه منقطع عن الناس لعدة سنوات إلى أن توفي في عام 505هـ.
إحياء علوم الدين: موعد مع المُؤلَّف الأهم
يذهب الدكتور عبد الرحمن بدوي في كتابه «مؤلفات الغزالي»، إلى أن ما يقرب من الخمسمائة كتاب قد نُسبت إلى الإمام أبي حامد الغزالي، فيقول «نُسب إلى الغزالي حشد هائل من المؤلفات، مما ألقى على المؤلفين والباحثين مؤونة شاقة ألا وهي التمييز بين الصحيح منها والمنحول…». رغم ذلك، فإن ما يُشبه الإجماع قد انعقد بين الباحثين والعلماء القدامى والمحدثين على أهمية كتاب «إحياء علوم الدين» تحديداً، وأنه– بلا ريب- أهم مؤلفات الغزالي على الإطلاق.
يُعدّ كتاب الإحياء موسوعة صوفية– سنية لا تُبارى، إذ حشد فيه مؤلفه جملة من أفكاره وآرائه الأكثر تأثيراً وأهمية، وقد صنفه في المرحلة الثانية من حياته، أثناء رحلته الطويلة في بلاد الشام والحجاز ومصر، وقد ظهرت في الكتاب النزعة الروحية التي امتاز بها حجة الإسلام في تلك الفترة.
يتألف كتاب إحياء علوم الدين من أربعة أجزاء رئيسة، وهي على الترتيب: العبادات، والعادات، والمهلكات، والمنجيات، وينقسم كل جزء من تلك الأجزاء إلى عشرة كتب.
على سبيل المثال، يشتمل الجزء الأول (العبادات) على كتب العلم، وقواعد العقائد، وأسرار الطهارة، وأسرار الصلاة، وأسرار الزكاة، وأسرار الصوم، وأسرار الحج، وآداب تلاوة القرآن، والأذكار والدعوات وترتيب الأوراد في الأوقات، وتفصيل إحياء الليل. بينما يشتمل الجزء الثاني (العادات) على كتب شرح عجائب القلب، ورياضة النفس، وتهذيب الأخلاق، وآفات الشهوتين (شهوة البطن وشهوة الفرج)، وآفات اللسان، وآفات الغضب، والحقد والحسد، وذم الدنيا، وذم المال والبخل، وذم الجاه والرياء، وذم الكبر والعجب، وذم الغرور.
يبتدئ أبو حامد الكتاب بتبيان مقصده من تصنيفه، فيقول إنه لما كانت علوم الآخرة قد كادت تختفي في عصره «ولما كان هذا ثلماً في الدين ملماً وخطباً مدلهماً، رأيت الاشتغال بتحرير هذا الكتاب مهماً إحياء لعلوم الدين وكشفاً عن مناهج الأئمة المتقدمين وإيضاحاً لمباهي العلوم النافعة عند التبيين والسلف الصالحين».
ويوضح الغزالي غرضه من وضع الكتاب، وما يميزه عن الكتب السابقة عليه، فيقول «… إن الناس من قبله وضعوا كتباً في مثل كتابه هذا. ولكنه انماز (أي امتاز) عنهم بأمور خمسة: وهي: أولاً، أنه حل ما عقدوه وكشف ما أجملوه، وثانياً، أنه رتب ما بددوه ونظم ما فرقوه. وثالثاً، أنه أجاز (أي اختصر) ما طولوه، وضبط ما قرروه، والرابع، حذف ما كرروه وإثبات ما حرروه، والخامس، تحقيق أمور غامضة، اعتاصت (أي صعبت) على الأفهام، ولم يتعرض لها في الكتب مطلقاً…».
من أهم المباحث التي تعرض لها الغزالي في كتابه، مسألة الفقهاء والاشتغال بالفقه، فالعالم الطوسي الذي بدأ حياته فقيهاً شافعياً منغمساً في الفتوى والتدريس، تأثر كثيراً بالنزعة الروحية التي جذبته إلى عالم الصوفية، فنراه يتهم الفقهاء بالابتعاد عن العلم الحقيقي، ويقلل من سطوتهم في المسائل الدينية، ويؤكد أن الفقه للدنيا أقرب منه للدين.
ويفرق حجة الإسلام بين الأئمة الكبار الأوائل الذين ابتغوا الآخرة ووجه الله، ومن ادّعى السير على نهجهم في عصر الغزالي، فيقول «ونحن الآن نذكر من أحوال فقهاء الإسلام ما تعلم به أن ما ذكرناه ليس طعناً فيهم بل هو طعن فيمن أظهر الاقتداء بهم منتحلاً مذاهبهم وهو مخالف لهم في أعمالهم وسيرهم… وهيهات أن تقاس الملائكة بالحدادين».
ورغم تهميشه لنفوذ الفقهاء فيما يخص علوم الآخرة، إلا أن الغزالي يؤكد أن للفقيه دوراً لا يُستهان به فيما يخص إصلاح أحوال الدولة والرعية، فهو يذكر أن الفقيه يمثل السلطة العليا في دولة الإسلام، وأن حكمه يسري على السلاطين والعوام دون تفرقة، ومن ثم فإن السبب الأول في اعتلال الأمة وضعفها، هو الوهن الذي يصيب العلماء والفقهاء، وفي ذلك يقول «بالجملة إنما فسدت الرعية بفساد الملوك، وفساد الملوك لفساد العلماء، فلولا القضاة السوء والعلماء السوء لقل فساد الملوك، خوفاً من إنكارهم».
وينكر الغزالي على العلماء المتزلفين إلى الحكام والسلاطين، خصوصاً هؤلاء الذين تلقى كلماتهم آذاناً مصغية عند الأمراء، فيقول «وهذه فتنة عظيمة للعلماء وذريعة صعبة للشيطان عليهم، لا سيما من له لهجة مقبولة وكلام حلو إذ لا يزال الشيطان يلقى إليه أن في وعظك لهم ودخولك عليهم ما يزجرهم عن الظلم ويقيم شعائر الشرع إلى أن يخيل إليه أن الدخول عليهم من الدين ثم إذا دخل لم يلبث أن يتلطف في الكلام ويداهن ويخوض في الثناء والإطراء وفيه هلاك الدين». كما يؤكد في موضع آخر من كتابه على حرمة تلقي الأعطيات من الأمراء، فيقول «ففي أخذ الأموال منهم حاجة إلى مخالطتهم ومراعاتهم وخدمة عمالهم واحتمال الذل منهم والثناء عليهم والتردد إلى أبوابهم وكل ذلك معصية».
من الممكن أن نفهم تلك الكلمات القاسية التي نطق بها الغزالي بحق الفقهاء، قد صدرت في سياق إنكار الغزالي على نفسه، وعلى ماضيه الأول في خدمة سلاطين السلاجقة، فالعالم المتبحر الذي تحول من جانب أهل الظاهر إلى جانب أهل الباطن، شاهد في رحلته الطويلة العديد من الفقهاء والقضاة الذين اختاروا الانحياز المطلق إلى السلطة، وتغافلوا بالكلية عن الورع والزهد والتقوى، وهي الصفات التي اتصف بها الأئمة الأوائل.
آمن الغزالي إذاً بأن كل ما حاق بالعالم الإسلامي في تلك الفترة العصيبة من مصائب ومهالك وكوارث، لا سيما تدفق الحملات الصليبية على بلاد الشام والأناضول، وتصدع الصف الإسلامي الداخلي ما بين صراع عباسي- فاطمي من جهة، وتناحر داخل البيت السلجوقي على الحكم من جهة أخرى، قد وقع بسبب اضمحلال الفقهاء وتقليدهم الأعمى، وبعدهم عن الحق وجوهر الدين، ومن ثم يمكن القول إن كتاب الإحياء قد مثل انتفاضة حقيقية ضد الفقه السني التقليدي، وهو الأمر الذي يفسر عداء العديد من الفقهاء للكتاب ومؤلفه في مراحل زمنية لاحقة.
الغزالي والإحياء في المخيال الشعبي
رغم الانتقادات الكثيرة التي وجهت إلى أبي حامد الغزالي وكتاب الإحياء من جانب الكثير من الفقهاء، ومن أهمهم على سبيل المثال، أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزي المتوفى 597هـ، وأحمد بن تيمية الحراني المتوفى 728هـ، فإن الغزالي قد ظهر في الذهنية الإسلامية الجمعية على كونه أحد أهم العلماء في تاريخ الإسلام، فهو حجة الإسلام، ومجدد القرن الخامس الهجري، فضلاً عن كونه صاحب اليد الطولى في تقعيد المذهب الأشعري بعد كلٍّ من المؤسسين الثلاثة الأوائل، وهم على الترتيب: أبو الحسن الأشعري المتوفى 324هـ، وأبو بكر الباقلاني المتوفى 402هـ، وأبو المعالي الجويني المتوفى 478هـ.
ليس من الغريب إذن، أن يُقحم اسم الغزالي في نسيج العديد من القصص والروايات التي اختلط فيها الديني بالسياسي من جهة، وتداخلت عوامل التاريخ والمخيال في صياغتها من جهة أخرى. فتارة يظهر أبو حامد كخصم عنيد أمام حركة الحشيشية الإسماعيلية المتمركزة في إيران، وتارة أخرى نجده يدافع عن وعد الرسول واقطاعه بعض قرى فلسطين للصحابي تميم الداري، وذلك إبان إقامة الغزالي في بيت المقدس، عندما حكم بعض القضاة برد الإقطاع إلى الدولة.
ورغم البعد الجغرافي والثقافي، فإن أصداء علم الغزالي قد وصلت إلى المغرب والأندلس، فهو الذي يرسل إلى أمير المرابطين يوسف بن تاشفين المتوفى 500هـ، ليطلب منه غزو الأندلس والقضاء على ملوك الطوائف، فيطيعه ابن تاشفين وينفذ أوامره ويضم أملاك المسلمين في شبه الجزيرة الأيبيرية إلى دولته الواسعة.
وكما كان الغزالي سبباً في قيام دولة المرابطين وتوسعها، فإنه يظهر أيضاً في مشهد نهايتها وأفول نجمها، إذ ذكرت العديد من المصادر التاريخية المغربية، أن فقهاء الأندلس قد كرهوا ما كتبه الغزالي في إحياء علوم الدين، فحرقوا الكتاب في قرطبة أمام العامة، ولما عرف الغزالي بذلك من تلميذه المغربي محمد بن تومرت المتوفى 524هـ، دعا بأن يُبدِّد الله مُلك المرابطين على يد ابن تومرت، وبالفعل، تُستجاب تلك الدعوة بعد حين، وتتمزق الدولة المرابطية على يد ابن تومرت الذي ادّعى أنه المهدي المنتظر، وخليفته عبد المؤمن بن علي.
ومن القصص التي تؤكد رفعة مقام الغزالي بين عامة المسلمين، تلك المنامات والرؤى المتواترة التي ذكرها تاج الدين السبكي في كتابه «طبقات الشافعية الكبرى»، والتي يظهر فيها كل من الرسول وأبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب، وهم يصوبون فعل الغزالي ويشهدون بأفضليته حيناً، ويخطئون أعداءه ومنافسيه في أحيان أخرى. ومنها أيضاً ما شاع من أن الصوفي الكبير أبا الحسن الشاذلي قد رأى في منامه الرسول وهو يباهي موسى وعيسى بالغزالي، ويقول لهما «أفي أمتكما حبر كهذا؟».
في السياق نفسه، وقفت الدعاية الأشعرية في صف التأكيد على أهمية كتاب إحياء علوم الدين، فعلى سبيل المثال، بالغ الإمام يحيى بن شرف النووي المتوفى 676هـ في تبيان أهمية الكتاب، فقال «كاد الإحياء أن يكون قرآناً»، أما السبكي فقد وصفه في طبقات الشافعية الكبرى بقوله «لو لم يكن للناس في الكتب التي صنفها الفقهاء الجامعون في تصانيفهم بين النقل والنظر والفكر والأثر غيره لكفى». كما وصفه في موضع آخر من كتابه «وهو من الكتب التي ينبغي للمسلمين الاعتناء بها وإشاعتها ليهتدي بها كثير من الخلق، وقلما ينظر فيه ناظر إلا ويتعظ به في الحال».
هذا التعظيم ساد أيضاً بين المستشرقين والباحثين المعاصرين، وقد بيّن الأديب والأكاديمي المصري الدكتور زكي مبارك، في كتابه «الأخلاق عند الغزالي»، الموقف العام للمستشرقين تجاه الغزالي بقوله «ومما يتصل بتأثير الغزالي في الحياة العلمية عناية الأجانب به: فقد كتبت عنه عدة مؤلفات بالفرنسية، والإنجليزية، والألمانية. ومنهم من يتعصب له فوق ما يفعل المسلمون».
على سبيل المثال، أكد المستشرق المجري الأشهر اجناس جولدتسيهر أن الغزالي كان صاحب اليد الطولى في إشاعة التصوف بين العامة ليصبح من أهم العوامل الفعالة في الحالة الدينية الإسلامية على وجه العموم، فيما ذهب المستشرق الهولندي دي بور إلى أن الغزالي هو «أعجب شخصية في تاريخ الإسلام»، أما المستشرق الفرنسي أرنست رينان فقد عدّه «روح المدرسة الإسلامية الأكثر إبداعًا»، وأن الفلسفة العربية لم تنتج فكراً مبتكراً عبر تاريخها الطويل، كهذا الفكر الذي أنتجه الغزالي في القرن الخامس الهجري.
في السياق نفسه، ربط بعض المستشرقين كذلك بين مبدأ الشك الشهير الذي عبّر عنه أبو حامد بقوله «الشك أولى مراتب اليقين»، والمدرسة الفلسفية الديكارتية التي ستظهر في أوروبا بعدها بقرون على يد ديكارت، وزعموا أن ديكارت قد اطلع على بعض مؤلفات الغزالي، وأنه ربما قد تأثر بها أثناء تدشينه نظرياته الفلسفية الشهيرة.
(المصدر: إضاءات)