مقالاتمقالات مختارة

كبرياء الحكام – الشيخ محمد الغزالي رحمه الله

كبرياء الحكام – الشيخ محمد الغزالي رحمه الله

أول خصائص الحكم الفردي – كما لاحظنا من تتبع تاريخ الاستبداد – كبرياء الحاكم وتعاليه. وليس الكبر عقدة الصنعة التي تجعل شاباً طائشا يسير في الطريق متبخترا تعجبه نفسه وتزدهيه ملابسه، أو التي تجعل الموظف في ديوانه يجحد حق العمل الذي استأجرته الدولة لإتمامه فيتشاغل عنه ويتغطرس على الجمهور المحتاج إليه!
إن هذه رذائل حقاً ، وسواء دفع إليها النقص المركب أو الغرور اللاحق فهي جرائم محدودة الأثر إلى جانب سورات الكبر التي تجيش في نفس صاحب السلطة العامة فتحمله من مكانه حيث يعيش مع الناس على ظهر الأرض، إلى سماء يتخيلها وينظر إلى الناس من عليائها، فإذا هو يرى العمالقة أقزاما، ومن دونهم هباء، وبحسب الخير الذي يعيش الناس فيه فيض السحاب الهامي من يده المباركة.

ولذلك تسمعه يقول ما قال الخديوي توفيق للقائد أحمد عرابي عندما طالبه باسم الأمة أن يمنح الشعب دستورا : هل أنتم إلا عبيد إحساناتنا؟

إن الكبر في هذه الحالات لا يزال يتضخم حتى يتحول إلى جبروت! وتلك حالات معهودة في أمراض النفوس ولذلك جاء في الحديث عن الله – عز وجل – : “والكبرياء ردائي والعز إزاري فمن نازعني شيئا منهما عذبته”.

ألا ما أكثر الذين نازعوا الله هذه الصفات من حكام الشرق البائس!

والكبر كالشرك يبدأ عوجا في تصرف صغير فلا تكون له فداحة الكفر بالله، ولا يزال ينمو حتى يتحول بطرا على كل حق وغمطا لكل فرد، وعندئذ يكون الكبر والكفر قرينين. ولا يتعاظمن القارئ هذا ، ففي كتاب الله مصداقه من آيات كثيرات:
“ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مُسودّة أليس في جهنم مثوى للمتكبرين”
“ذلكم بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تمرحون . ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين”.
“إلهكم إله واحد فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم مُنكرة وهم مُستكبرون . لا جرم أنّ الله يعلم ما يُسرُون وما يعلنون إنّه لا يحب المستكبرين”.
“فألقوا السَلَم ما كنا نعمل من سوء بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون. فادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فلبئس مثوى المتكبرين به”.

وتأكيدا لهذه المعاني يقول النبي صلى الله عليه وسلم: “لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من كبر”.

إنه كبر الرؤساء الفجرة والأمراء الظلمة والمستبدين المتألهين. والتخليد في النار والحرمان من الجنة اللذان نطق بهما الكتاب والسنة جزاء عدل لهؤلاء المتألهين، ولعل أشد الناس شعورًا بعدالته من وقعوا تحت وطأة أولئك الكبراء المعتوهين.

وللكبر إذا حكم تقاليد تحتضنه كما أن للعهر إذا شاع أسرا ترتزق به!

وكبرياء الحكام ترمز إلى ضرب من الوثنية السياسية له طقوس ومراسيم يتقنها الأشياع، ويتلقفها الرعاع على أنها بعض من نظام الحياة الخالد مع السموات والأرض.

وحيث يسود الحكم المطلق تنتقص الإنسانية من أطرافها، بل من صميمها. وذلك أن الله قد خلق البشر أحادًا صحيحة وجعل لكل واحد منهم مدى معينا يمتد فيه طولا وعرضا، فإذا عَن لأحدهم أن يتطاول وينتفخ ويتزيد، فعلى حساب الآخرين حتما.

ومن هنا تجد من حوله أنصاف بشر أو أرباع بشر! أصبحوا كسورًا لا رجالا سواء، وما نقص من تمام إنسانيتهم أضيف زورًا إلى الكبير المغرور، فأصبح به فرعونًا مالكًا بعدما كان فردًا كغيره من عباد الله.

ولما كان الإسلام إنقادًا للناس من جهالاتهم المتوارث ، وحماية للفطرة من أن تأكلها تقاليد السوء وقوانين الاستبداد الأعمى، فقد جعل كلمة التوحيد – وهي عنوانه وحقيقته – نفيًا للوثنيات كلها ورفضا لأية عبودية في الأرض وتدعيما للحرية التي ذرأ الله الناس عليها والكمال الذي رشحهم له.

ذلك بعض ما تعنيه الكلمة العظيمة “لا إله إلا الله”. وهي الكلمة التي يرددها الألوف دون وعي. بل لعلهم يعيشون في ظلها عبيد أوهام. وقد بُعث محمد صلى الله عليه وسلم للناس وفي قلوبهم وجل من سطوة الملوك الأولين، فلما جيء بأعرابي يوما في حضرته أخذته رعدة يحسب نفسه قريبا من أحد الجبابرة. فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: «هون عليك إني لست بملك أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد”.

كان قد وقر في الأذهان أن الملوك ليسوا من عبيد الله المألوفين، فإن الأبراج التي يحيون فيها قطعت نسبتهم من الأرض ووصلتها بالسماء، فزعموا أنهم نسل آلهة، أو عاشوا كذلك وإن لم يقولوا بألسنتهم ما يقولون بأفعالهم، فأراد محمد صلى الله عليه وسلم أن يعرفه العرب على أنه بشر مثلهم لا ملك فوقهم، ثم انتسب إلى أمه، لا إلى العظماء من أجداده، ليزداد لله تواضعا ومن الناس قربا.

وجاء الحكام الراشدون بعده فمشوا في إثره وربطوا سببهم بالجماهير التي نبتوا منها ، فما تنكروا لها ولا تكبروا عليها، ولا حسب أحدهم نفسه من دم أنقى أو عنصر أزكى. واسمع إلى أبي بكر بعدما ولي الخلافة يقول: « أما بعد.. فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن رأيتموني على حق فأعينوني، وإن رأيتموني على باطل فسددوني، أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإذا عصيته فلا طاعة لي عليكم. ألا إن أقواكم عندي الضعيف حتى أخذ الحق له، وأضعفكم عندي القوى حتى آخذ الحق منه، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم”.

وجاء في خطبة لعمر بن الخطاب: “اعلموا أن شدتي التي كنتم ترونها ازدادت أضعافا على الظالم والمعتدي، والأخذ لضعيف المسلمين من قويهم. فاتقوا الله وأعينوني على نفسي بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإحضاري النصيحة فيما ولاني الله من أمركم. أيها الناس إنه لم يبلغ ذو حق في حقه أن يطاع في معصية الله”.

هذا هو وضع الحاكم المسلم في الدولة المسلمة. رجل من صميم الأمة يطلب أن يعان على الحق وأن يمنع من الباطل، ويرى السلطة المخولة له سياجا للمصالح العامة لا مصيدة للمنافع الخاصة ولا بابا إلى البطر والطغيان. وذلك هو أدب الإسلام الذي خط مصارع الجبابرة في الدنيا وحط منازلهم في الآخرة.

“تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين”.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* مقتبس من كتاب الإسلام والاستبداد السياسي، للشيخ محمد الغزالي، ص34 وما بعدها، ط: نهضة مصر، ط6، 2005م، القاهرة.

(المصدر: مجلة كلمة حق)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى