بقلم محمد علي النجار
قَواعدُ السِّياسَةِ الشَّرعيَّةِ (1) في تقديمِ وُجودِ الدَّولةِ المُسلِمةِ ومَصالحِها على إِقامةِ الحُدود
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا الهادي الأمين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وبعد:
إن المراقب للثورة السورية في سنواتها السبع الماضية يرى بوضوح الحالة المأساوية التي وصلت إليها حالنا بفعل الجماعات التكفيرية المتطرفة الدخيلة على أمتّنا جمعاءَ وعلى بلادنا خاصّةً، حيث عملت على بث الفتن وتفريق الصفوف ثم قامت بالغدر بأهل السنة وطعنهم في ظهورهم وتمكين عدوهم من رقابهم… مما انعكس سلبًا على الوضع العام لأهل السنة والجماعة في سوريا خصوصًا وفي منطقة الشرق الأوسط عمومًا…
وإذا ما رجع بنا الزمان قليلا نجد المأساة التي حلت ببلاد الشام تتكرر بتفاصيلها المملة مع أهل السنة في العراق وقبل ذلك في أفغانستان والصومال والسبب هذه الجماعات المتطرفة نفسها، تختلف الأرض وتتنوع الوجوه وتتعدد الأسماء ولكن النتيجة واحدة لا تختلف… مما أدى إلى الاستياء العام واليأس القاتل، والذي أدى بدوره إلى موجة من الإلحاد والردة عن المبادئ والثوابت الدينية في ظل حرب إعلامية شعواء تستغل الظروف المأساوية التي نمر بها، لتحويلها إلى سم قاتل ينتشر في جميع أنحاء الجسد الإسلامي المريض…
وفي أوار هذه الحروب المستعرة على كافة الصعد وفي كل ميادين الحياة، بدأت تطفو على السطح مجموعة من التساؤلات الخطيرة… منها على سبيل المثال: أين الخطأ؟ وكيف نصححه؟ هل العلة في الإسلام أم في المسلمين؟ وهل انتهت صلاحية تعاليم الإسلام المتعلقة بأسس بناء المجتمع أو السياسة الداخلية والخارجية للأمة؟ ألا يجب أن نجنب الإسلام أي إصلاح سياسي مأمول إذا ما أردنا الاستقرار؟
والحقيقة أن كل هذه الأسئلة نشأت نتيجة لممارسات خاطئة ومفاهيم مشوهة عن الدين، قامت بها هذه الجماعات المتطرفة التي لا تمت بأفعالها ومفاهيمها إلى الإسلام بصلة، وقد حاولت في هذا البحث الصغير الإجابة على هذه الأسئلة، والتأكيد على أن التشريع السياسي عند أهل السنة والجماعة لا يمت بصلة إلى ما آلت إليه حال معظم فصائل المتطرفين المقاتلة على الأرض، كما أن فكرهم المشوه لا يتقارب أصلًا مع الفكر الذي يحمله علماء الثورة وفقهاؤها.
لا بد لنا أن نعرف أن سبب ما وصلت إليه الجماعات المتطرفة اليوم من فرقة وتخلف ودموية؛ وما نتج عن ذلك من سقوط وتراجع لكثير من الشعوب الإسلامية التي ظهروا فيها؛ هو المفاهيم والتصورات الخاطئة لهذه الجماعات، وليس السبب في ذلك المنهج القويم للتشريع الإسلامي والذي كان نورًا هاديًا لكل الدول العظمى التي شهدها تاريخنا المجيد… فلم يحتَج أسلافنا يومًا إلى تغيير قاعدة ثابتة أو التخلي عن بعض الشرع بداعي اختلاف الزمان وتغير الأحوال، أو بحجة أن الشرع قاصر عن مواكبة عصورهم.
وقد بينت في هذا البحث معالم الفكر السياسي لأهل السنة والجماعة وخاصة ما يتعلق منها بنشوء الدُّول وطرق إدارتها، وكان ذلك في سياق حديثي عن إقامة الحدود على الجناة أو القصاص منهم… وقد تم ذلك من خلال مدخل يسلط الضوء على ما وصلت إليه حال الجماعات المتطرفة اليوم، ثم خمسة مباحث يتناول كل منها واقعة أو أكثر من زمن النبي صلى الله عليه وسلم أو الخلفاء الراشدين، لبيان منهجهم في إدارة الدولة وإنزال العقوبات على مستحقيها أو ترك هذه العقوبات بحسب الحال، وهي كالتالي:
المبحث الأول: ترك الحد تأليفًا لقلوب الناس وحذرًا من النفور عن الدين، وفيه ذكر واقعتي ترك قتل عبد الله بن أبي بن سلول ومنع الصحابة من قتل ذي الخويصرة التميمي.
المبحث الثاني: درء الحد بسبب شيوع الحاجة، وفيه ذكر قصة السرقة في عام الرمادة.
المبحث الثالث: وحدة الدولة مقدمة على إقامة الحدود، وفيه الحديث عن مسألة القصاص من قتلة عثمان بن عفان رضي الله عنه.
المبحث الرابع: شؤون الحكم والحدود من أمور السياسة التي لا تحمل مسؤوليَّاتها لعامة الناس، وفيه ذكر لقصة حدثت في موسم الحج في آخر عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
المبحث الخامس: الأناة والتدرج في إقامة الشريعة ضمن سُلَّم الأولويّات في التشريع الإسلامي، وفيه ذكر قصة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه مع ابنه عبد الملك.
وعقبت ذلك بذكر النتائج والخاتمة.
المدخل
أسئلة كثيرة تطرح منها ما هو بريء ومنها ما هو مشبوه، تحاول الكثير من مراكز الإعلام العالمية تحويلها إلى سهام قاتلة تصوب نحو الجسد الإسلامي الممدد… وقد اتبع أعداء الإسلام خططًا محكمةً للقضاء على أهل السنة فكريًّا تمهيدًا لتشتيتهم والتحكم بمصيرهم، وذلك من خلال مجموعة من الإجراءات الخطيرة منها دعم بعض الحكام التابعين لهم لمنع أي تحرك إسلامي سليم، ومنها تمكين مجموعة من رجال الدين الفاسدين من تسلم أهم المناصب الدينية والعلمية عند أهل السنة والجماعة، وأخطرها استخدام الإعلام كسلاح لتشويش العقول وبث الفتن والفساد، حيث تم تأسيس بعض الفضائيات الدينية في السنوات الأخيرة لكل من متطرفي السنة والشيعة على السواء، بدعم من دول ورجال أعمال مشبوهي التوجه والارتباطات.
ومن يراقب خريطة هذه الفضائيات يلاحظ أن نسبة منها تؤدي دورًا مشبوهًا في تضليل الأمة إما عبر بث التطرف والفتنة والتكفير، وإما بالرد على هذا التطرف بمزيد من العلمنة والحداثة الغربية المغلفة بغلاف البحث العقلي والمنطقي في النصوص الشرعية ومراجعة كتب التراث، حتى غدا الإفراط والتفريط هو السمة العامة لنسبة لا يستهان بها من الفضائيات المحسوبة على الإعلام الإسلامي اليوم، في ظل حصار إعلامي وحكومي مطبق على كل الأصوات الناطقة بالحق وبمنهج أهل السنة القويم سواء كانوا أفرادًا أو جماعاتٍ.
كما ظهرت في عصرنا بعض الجماعات والأحزاب المنادية بإقامة الخلافة الإسلامية وإيجاب السعي إلى هذا الهدف على كل صغير وكبير وجاهل وعالم؛ حتى أصبح مقام الخلافة السامي عند هؤلاء حديث كل منتسب لهم سواء أكان جاهلًا أم عالمًا أم متدينًا أم غير متدينٍ أصلًا، ولا يذكر الدين عند هؤلاء إلا مقرونا باسم الخلافة في ظل نسيان شبه كامل لكل واجبات الفرد والأمة الأخرى، بل وغياب كامل لمفهوم الدولة أو المجتمع المسلم… فتم تقزيم مفهوم الدين عند هؤلاء ليتحول إلى مجموعة من القوانين والأحكام السياسية التي يتربع على عرشها مصطلح الخلافة، وظهرت عندنا معادلة غريبة تقول (الإسلام = الخلافة).
ومع مرور السنوات وتسليط الضوء على جماعات الهجرة والتكفير بعد تفجير برجي التجارة وحرب أفغانستان والعراق والصومال؛ تم تضخيم دور هذه الجماعات المتطرفة، والمرتبطة ارتباطًا وثيقًا بعدة أجهزة مخابرات عالمية وإقليمية على رأسها الولايات المتحدة وإيران… كما قامت فضائيات أخبارية ودينية شهيرة بإظهارهم بمظهر الجيش الحامي لأهل السنة والجماعة.
وقد كان من مقصد وجود هذه الجماعات المشبوهة تقزيم مفهوم كل من الدين والخلافة، ليقترنا في ذهن المسلم وغير المسلم بتنفيذ الحدود والقصاص بقطع الرؤوس والأيادي ورجم الزاني، حيث بدأت تظهر فيديوهات قتل وذبح عجيبة تتصدر خلفياتها رايات مختلفة كتبت عليها شهادة التوحيد وعبارات إسلامية أخرى… وكل هذا الذبح والقتل كان بحجة إقامة الدولة الإسلامية وما يقتضيه وجودها من عمل بأحكام الحدود والقصاص… ولهذا كام لزامًا علينا أن نبين مفهوم كل من الدولة والحدود والقصاص عند المسلمين قبل البدء بالبحث وتفرعاته؟
أولًا: تعريف الدولة.
لغة هي العُقْبةُ في المال والحَرْب(1)، والدَّوْلَة والإِدالَةُ: الغَلَبَةُ، يُقَال: اللهُمّ أَدِلْني على فُلانٍ وانْصُرني عَلَيْهِ، ودالَت الأيامُ: دارَتْ، واللَّه تَعالَى {يُداوِلُها بينَ الناسِ} أَي يُدِيرُها(2)، وأما تعريف الدولة في الاصطلاح فإن الباحث في كتب الفقه والسياسة الشرعية لا يكاد يجد التعبير عن السلطة الحاكمة بهذا اللفظ إلا لمامًا؛ إذ كان يعبر عن مفهومها بمصطلحات أخرى كالإمامة والخلافة والملك وما إلى ذلك ولكنها أصبحت اليوم هي اللفظ والمصطلح الذي يعبر عن مفاهيم الإدارة السياسية والسلطة بجميع أنواعها…
والدولة اصطلاحًا: مجموع كبير من الأفراد يقطن بصفة دائمة إقليما معيَّنًا، ويتمتع بالشخصية المعنوية وبنظام حكومي وبالاستقلال السياسي(3).
وَتَتَأَلَّفُ الدَّوْلَةُ مِنْ مَجْمُوعَةٍ مِنَ النُّظُمِ وَالْوِلاَيَاتِ بِحَيْثُ تُؤَدِّي كُل وِلاَيَةٍ مِنْهَا وَظِيفَةً خَاصَّةً مِنْ وَظَائِفِ الدَّوْلَةِ، وَتَعْمَل مُجْتَمِعَةً لِتَحْقِيقِ مَقْصِدٍ عَامٍّ، وَهُوَ رِعَايَةُ مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ، يَقُول الْمَاوَرْدِيُّ: (الإمَامَةُ مَوْضُوعَةٌ لِخِلاَفَةِ النُّبُوَّةِ فِي حِرَاسَةِ الدِّينِ وَسِيَاسَةِ الدُّنْيَا) (4).
وقد لخص الإمام الماوردي فكرة الفقهاء عن الأركان التي تقوم عليها الدولة بقوله: (اعْلَمْ أَنَّ مَا بِهِ تَصْلُحُ الدُّنْيَا حَتَّى تَصِيرَ أَحْوَالُهَا مُنْتَظِمَةً، وَأُمُورُهَا مُلْتَئِمَةً، سِتَّةُ أَشْيَاءَ هِيَ قَوَاعِدُهَا، وَإِنْ تَفَرَّعَتْ، وَهِيَ: دِينٌ مُتَّبَعٌ وَسُلْطَانٌ قَاهِرٌ وَعَدْلٌ شَامِلٌ وَأَمْنٌ عَامٌّ وَخِصْبٌ دَائِمٌ وَأَمَلٌ فَسِيحٌ)(5).
ثانيًا: تعريف الحد.
هو في اللغة: المنع، وأما في الشرع: فهو عقوبة مقدرة وجبت حقًّا لله(6)، وقد اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَا يُطَبَّقُ عَلَى جَرِيمَةِ كُلٍّ مِنَ الزِّنَى وَالْقَذْفِ وَالسُّكْرِ وَالسَّرِقَةِ وَقَطْعِ الطَّرِيقِ يُعْتَبَرُ حَدًّا وَاخْتَلَفُوا فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهَا سِتَّةٌ، وَذَلِكَ بِإِضَافَةِ حَدِّ الشُّرْبِ لِلْخَمْرِ خَاصَّةً، وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الْحُدُودَ سَبْعَةٌ، فَيُضِيفُونَ إِلَى الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ الرِّدَّةَ وَالْبَغْيَ، فِي حِينِ يَعْتَبِرُ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ الْقِصَاصَ أَيْضًا مِنَ الْحُدُودِ، حَيْثُ قَالُوا: الْحُدُودُ ثَمَانِيَةٌ وَعَدُّوهُ بَيْنَهَا، وَاعْتَبَرَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ قَتْل تَارِكِ الصَّلاَةِ عَمْدًا مِنَ الْحُدُودِ(7)، وإذا درجنا على ما قاله الشافعية فإن القصاص نوع من أنواع الحدود.
ثالثًا: تعريف القصاص.
لغة هو من القَصّ وهو القَطْع، والإَقْصَاصُ أَنْ يُؤْخَذَ لَك القِصَاصُ، يُقَال: أَقَصَّ الأَمِيرُ فُلاناً مِنْ فُلان، إِذا اقْتَصَّ لَهُ مِنْه فجَرَحَهُ مِثْلَ جَرْحِه، أَو قَتَلَه قَوَداً (8)… وأما في كتب التشريع الإسلامي فقد تعددت تعريفاته عند العلماء ومن أخصرها قول الجرجاني: (هُوَ أَنْ يَفْعَلَ بِالْفَاعِلِ مِثْلَ مَا فَعَلَ)(9)، ولعلِّي من خلال استقراء ما ذُكر في تعريفه عند الفقهاء يمكنني أن أقول، إن القصاص: هو عقوبة مقدرة ثابتة بالكتاب والسنة أو أحدهما وجبت حقًّا لآدمي قابلةً للإسقاط تقتضي أيقاعَ عقوبةٍ على الجاني بمقدار جنايته.
صحيح أن الحدود وأحكام القصاص كلَّها ثابتةٌ بالنص في القرآن والسنة أو في أحدهما، ولا إشكاليَّة تعتبر في ثبوتها، ولكن الإشكالية في ترتيبها من حيث الأولوية، وفي طريقة تنفيذها وما يعرض لوقائعها من قواعد كليَّة قد تؤثر على طريقة العمل بها.
وعلى كلٍّ فلم تمض سنوات حتى تم عبر هذه الجماعات المتطرفة تقزيم مصطلح الخلافة الإسلامية وما تحمله من معاني سامية من إقامة دولة الإيمان والعدل والحضارة الإنسانية إلى مفهوم الحدود عبر معادلة بسيطة كالتالي: (إسلام = خلافة = قطع الرؤوس والأيادي والرجم) ونتيجتها (الإسلام = قطع الرؤوس والأيادي ورجم البشر) ومعادلة أخرى تقول: (عدم تنفيذ الحدود = حكم بغير ما أنزل الله = الكفر)، ونتيجتها (عدم تنفيذ الحدود = كفر).
ومن المؤسف حقًّا أن هذه المعادلة الغريبة عن التشريع الإسلامي – وتحت الضغط الإعلامي وقلة التوعية – أصبحت أمرًا مسلّمًا لدى الكثيرين من أبناء الأمة الغيورين والعاملين على رفعة الدين بل والكثيرين من صغار طلبة العلوم الشرعية، مما أدى إلى فشل كل مشاريع التحرر السني في العراق والصومال وأفغانستان وسوريا.
واستغلالًا منهم لليأس القاتل الذي أصاب شباب الأمة نتيجة لفشل هذه الجماعات التي بنوا آمالهم عليها؛ بل وظهور عمالة الكثير منها؛ أطلق الإعلام المشبوه العشرات من دعاة الحداثة والتجديد ونُصَرائهم لتشكيك أهل السنة والجماعة بثوابتهم والاستدلال بعظم المأساة وقتامة الواقع على صدق كلامهم، فأنكروا ضروريات الدين واعتدوا عليها بالبتر والتشويه كصورة جديدة للاستشراق الذي غزا الأمة في بدايات القرن الماضي.
والواجب على فقهاء الأمة ودعاتها اليوم أن يقوموا بإعادة البحث والقراءة في قواعد الاجتهاد عند أهل السنة والجماعة؛ لتقديمها إلى الباحثين وتقريبها إلى أذهانهم وتعريفهم على الصورة المشرقة لمسيرة التشريع عند أهل السنة والجماعة بما فيها من ضوابط كلية ودراسات جزئية تكفل تطور التشريع بتطور الحياة والسير معها تنظيمًا وإرشادًا خطوة بخطوة، لعل في نور العلم ما يزيل غشاوة الجهل والشك التي بدأت تنسج خيوطها على عقول أبناء جيلنا وقلوبهم.
وإذا ما طالعنا كتب التشريع الإسلامي ودققنا في مباحث السياسة الشرعية وتطبيقاتها فإننا نجد قضية المحافظة على الدولة والأمة أولويَّةً إسلاميَّةً مقدمة على الشّكليات السياسية والجزئيات الشرعية، وقد أثبتت الجماعات الإسلامية التي نشأت على أرضنا أثناء الثورة السورية فشلًا ذريعًا في مجال العمل السياسي لتجاهلها هذه الأولوية وتقديم الكثير من الجزئيات الدينية الفرعية على أصول الدين ومقاصده الكلية.
ونتيجة لهذا الخلط في ترتيب الأولويَّات لم تستطع هذه الجماعات إلى اليوم أن تتفق على فكر إسلاميٍّ شامل يجمع شتاتها ويوحد صفوفها، بل لم تستطع أن تؤسس في مناطق سيطرتها دولة بأدنى أشكالها لها رئيس واحد وجيش واحد ومؤسسات منتظمة، تضمن أدنى مقومات الحياة الإنسانية الكريمة لمواطنيها…
يرتكز الفكر السياسي في الإسلام على مقاصد أساسية وهي: (حفظ الدين والنفس والمال والعقل والنسب)، فلا يتحرك الساسة المسلمون إلا وفق هذا المبدأ العظيم، الذي يحكم كل جزئيات الشرع وقوانينه المتفرعة عن أدلتها الخاصة، وقد كان الحفاظ على هذه الكليات الخمس هو المنار الذي يهدي السبيل لكل الخلفاء الصالحين والملوك العظماء الذين نقرأ عنهم في تاريخنا المشرف الممتد لأربعة عشر قرنًا من الزمان.
عندما فهم المسلمون هذا المبدأ استطاع ساستهم العظماء أن يُخرجوا الأمة من تحت الركام مرات ومرات، ويعيدوها إلى مركز الصدارة والقيادة، وما تأخرت الأمة في عصرنا وتفرقت إلا عندما أغفلت قياداتها هذا الأصل في عملهم السياسي لتحل محله شعارات براقة لا حقيقة لها ولا مضمون.
وإذا ما تأملنا بعض هذه الشعارات المنتشرة اليوم نجدها مأخوذة من أدلة جزئية لا يصح الاستدلال بها خارج الإطار المتكامل لفقه السياسة الإسلامية، حيث تجد الأولوية عند بعض الجماعات المنتشرة في بلادنا لشعار دولة إسلامية وعند بعضهم الأولوية لكلمة خلافة وعند بعضهم الأولوية لكلمة أمير أو أمير المؤمنين… فلا يمكن أن تكون الدولة مرضية من قبل الله بحسب ظن هؤلاء إذا لم يطلق عليها اسم الخلافة وعلى رئيسها لقب أمير المؤمنين وعلى قيادات جيشها الأمراء ويعتبرون العمل على نشر العدالة والفضيلة غير مرضي من قبل الله إذا لم يسمَّ جهادًا وجنودُه مجاهدين والقضاء بالنسبة لهم نوع من الكفر وتحكيم الطاغوت إذا لم تسمَّ أحكامُه حدودًا وموادُّه فقهًا، وكذلك الاقتصاد فليس إسلاميًّا إذا لم تُسمَّ مؤسسته الحسبة ولم تسمَّ مصارفه بيوت المال.
وهكذا حلت الأسماء – عند هؤلاء المتطرفين – مكان الحقائق وضاع الناس وضاعت البلد وملأت جثث مهجرينا البر والبحر، وتعرضت شعوبنا للذل في مشارق الأرض ومغاربها،
ولم ترعَوِ هذه الجماعات ولم تغيِّر المآسي من واقعها شيئًا، وإنما زادها الواقع جهلًا وجبروتًا، وألقوا باللائمة على الداخل والخارج ونزهوا أنفسهم وكبراءهم عن الخطأ، ورفضوا الإذعان لصوت الحق، والله المستعان…
بعد أن سلطت الضوء على واقعنا المؤلم وما وصل إليه حالنا؛ سأقوم بقراءة متأنية في بعض قواعد السياسة الإسلامية ومحاكماتها بين مصالح الدولة وإقامة الحدود… وذلك من خلال وقائع مشهورة في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين وحكامنا المؤمنين عبر التاريخ الإسلامي الطويل… لعلنا نتبصر معالم طريقنا الذي بدأنا نفقده في ظل هذه الحرب الفكرية التي تشن على الإسلام اليوم.
المصدر: مجلة مقاربات التي يصدرها المجلس الإسلامي السوري
يتبع
(1)- لسان العرب، المؤلف : محمد بن مكرم بن منظور الأفريقي المصري، الناشر : دار صادر – بيروت، الطبعة الأولى (11/252)
(2) الكتاب: تاج العروس من جواهر القاموس، المؤلف: محمّد بن محمّد بن عبد الرزّاق الحسيني، أبو الفيض، الملقّب بمرتضى، الزَّبيدي (المتوفى: 1205هـ)، المحقق: مجموعة من المحققين، الناشر: دار الهداية (28/511)
(3) – المعجم الوسيط المؤلف : إبراهيم مصطفى ـ أحمد الزيات ـ حامد عبد القادر ـ محمد النجار، دار النشر : دار الدعوة، تحقيق : مجمع اللغة العربية (1/304)
(4) – الموسوعة الفقهية الكويتية (21/36 وما بعدها)
(5) – أدب الدنيا والدين، للإمام الماوردي، نشر: دار مكتبة الحياة، طبعة عام 1986م (133).
(6) – أنيس الفقهاء في تعريفات الألفاظ المتداولة بين الفقهاء للقاسم بن عبد الله بن أمير علي القونوي الرومي الحنفي (المتوفى: 978هـ)،المحقق: يحيى حسن مراد، الناشر: دار الكتب العلمية، الطبعة: 2004م-1424هـ (ص 61).
(7) الموسوعة الفقهية الكويتية (17/132).
(8) – تاج العروس من جواهر القاموس، المحقق: مجموعة من المحققين، الناشر: دار الهداية، (ص 18/105 و108).
(9) – الفروق للقرافي، طبعة عالم الكتب، (4/213).
(المصدر: رابطة العلماء السوريين)