مقالاتمقالات مختارة

قيامة “سليمان طوناخان” الإصلاحية بعد استبداد أتاتورك!

بقلم خباب مروان الحمد

لستُ في شكٍ أنّ كثيراً من الناس قد أُصيبوا بيأسٍ شديد في مجال الدعوة والإصلاح. حتى صاروا يُقلّلون من جدوى نشر الدعوة في ظل الفساد الجارف، والأجواء المتربصة؛ فضلاً عن قلّة المنتصحين! كُنت خلال هذه الأيام أقلّب في كتب التاريخ المُعاصر خاصّة بعد سقوط الدولة العثمانية على يد أتاتورك! فلفت انتباهي موقفاً ذكره د. محمد حرب في كتابه “العثمانيون في التاريخ والحضارة” وكذا أ. هدى درويش في كتابها “الإسلاميون وتركيا العلمانية”.

 

مُلخّص القصّة أنّ بعد سقوط الدولة العثمانية منعت الحكومة الجديدة تدريس الدين في المدارس!! فقام الشيخ “سليمان حلمي طوناخان” بحثِّ الناس على مخاطبة الحكومة باستعدادهم لتحمل تكاليف تدريس الدين لأبنائهم، ولكن الحكومة رفضت وهددت وتوعدت، فانزوى المدرسون عن ذلك مقتنعين أن تعليم الدين غير ممكن في ذلك الوقت!! لكن همّة الشيخ سليمان أبت أن تكون من ضمن القاعدين! فكان يبحث عمّن يُعلّمه فلا يجد لخوف الناس من الحكومة! فبدأ بتعليم ابنتيه في البيت على أن تقوما بتعليم زوجيهما وأولادهما.. ثم استحدث دفع أجر لطلبته نظير تعليمهم.. ولكي يخفي طلبته عن عيون الرقابة الأتاتوركية عمد دائماً إلى تبديل أماكن تدريسهم!! فكان يدرسهم يوماً في غرفة مؤذن المسجد، وآخر في بيت أحد أتباعه، وثالثاً في قبو مبنى، أو يستأجر مزرعةً ويخبئ طلابه فيها في زي العمال، يزرعون الأرض صباحاً ويدرسون الدين مساءً، أو يذهب بهم إلى قمة جبل.. ورغم انكشاف أمره وتعرضه للاعتقال والتعذيب والملاحقة إلا أنه واصل مهمته التي انتدب نفسه لها بإصرار، وكان يقول: (التعب يضنينا، ولا الإزعاج يثنينا، سنسارع إلى نداء التعلم والتعليم والخدمة حتى وإن أدى بنا إلى الموت، وسيخافون من موتنا، كما خافوا منّا في حياتنا).

 

ولعلّ الحال الذي تعيش فيه كثير من البلدان ليس أسوأ من ذلك الحال الذي يُمنع فيه تدريس القرآن؛ إلاّ أنّ العبرة والعظة ينبغي أن تجعل لدى المسلم الداعية القدرة على الصبر وطاقة التحمل والعناء لأجل نشر الحقائق الدعوية والبراهين العلمية؛ خاصة بعدما دبّت عقارب اليأس في قلوب كثير من الناس؛ بل في وقت تشكيك كثير منهم بعدد من الدعاة الصادقين؛ أو سقوط عدد من الدعاة اللامعين بسبب مواقفهم المريبة!

 

إنّ الله جلّ جلاله أمر أهل العلم بالبلاغ المبين، والصدع بالحق؛ والتأثير على من يستطيعون توجيهه وإرشاده قدر إمكانهم وطاقتهم؛ ولم يأمرهم أن يُكلّفوا أنفسهم فوق طاقتها.

إنه لا مكان للقاعدين والقعدة والنائمين والمتكاسلين في هذه الحياة؛ فإنّ الحياة التي خلقنا الله فيها لأجل لعبادته تحتاج منَّا إلى قيام دائم، وإصرار على القيام. وكم هزَّتني آيات القيام في القرآن؛ حتّى صرتُ أخشى من قلَة القعود والجلوس! ففي كتاب الله تعالى مدح للقائمين بعبادته:
– بقيام الليل لصلاة ما يُكتب له؛ فقد قال تعالى : “يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا(2)“.
– بالقيام لأجل الدعوة والنذارة؛ فقد قال تعالى : “يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنذِرْ (2)“.
– القيام للتفكر. قال تعالى:”قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا“.
-القيام أثناء ذكر الله، فقد قال تعالى: “الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ“.
– القيام لدعاء الله وذكره والدعوة إليه؛ فقد قال تعالى: “وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا“.

 

وفي كتاب الله تعالى ذمُّ للقاعدين عن عبادته!
– ذمَّ تعالى المنافقين المتثاقلين عن أداء الصلاة فقد قال تعالى: “وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَىٰ“.
– وذم من تكاسل وقعدت به همَّته عن الجهاد في سبيل الله فقال تعالى: “مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ“.

 

وحين يعلم الله همَّة العبد الدنيَّة لا يُحبِّبُ له الخير؛ لأنَّه لم يبذل الأسباب؛ لهذا يقول الله: ” وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَٰكِن كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46) لَوْ خَرَجُوا فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا” سورة التوبة. وكم من قوم قامت بهم هِمَمُهم وهم قعود جلوس فصنعوا للأمَّة مجداً ومنهم المشلول والقعيد الذي لا يتحرك؛ وكم من قوم قامت بهم هِمَمُهم ولكن إلى الفساد فكان جلوسهم وركونهم أفضل بكثير من قيام كان من خلفه إجرام!

 

أمّا من أصيب بيأسٍ في الإصلاح الدعوي فيُقال له:
1. إنّ الله جلّ جلاله أمر أهل العلم بالبلاغ المبين، والصدع بالحق؛ والتأثير على من يستطيعون توجيهه وإرشاده قدر إمكانهم وطاقتهم؛ ولم يأمرهم أن يُكلّفوا أنفسهم فوق طاقتها.

2. أنّ حمل الهم لتبليغ كلمة الحق لعموم الناس واجب الدعاة وخاصّة من أهل العلم والبصيرة، ليكون لديهم هِمَة وطموح في دعوة الناس للسماع والتلقي؛ بناء على منهجية سليمة في الإرشاد، ولكن إن انقلبت الهِمّة إلى همٍ دائم وحزنٍ شديد على عدم الانصياع؛ فإنّ هذا لسنا مأمورين به؛ بل قد نُهينا عنه والآيات تنطق بذلك.

قال تعالى: “فَلَا يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ ۘ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ“.
وقال تعالى: “فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىٰ آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَٰذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا“.
وقال تعالى: “فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ”.
وقال تعالى: “وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ ۚ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ“.
وقال تعالى: “لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ“.
وقال تعالى: “قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ“.
وقال تعالى: “وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ ۚ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَىٰ ۚ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ“.

 

3. أنّ كثيراً من الناس قد تأتيه لحظة الهداية بعد سنوات؛ لا تدري بها؛ فالدعوة مشوارها ضاق وطويل وصعب؛ والنتائج فيه غير ملموسة في البداية غالباً؛ لكنّ قد يُقدّر الله تعالى كلمة لا يزال تُقرقر في أذن صاحبها؛ حتى تقع موقعها في القلب فينتفع بها؛ فتكون أنت سبب هدايته، ويكون لك بذلك من الأجر خير من حُمر النّعم.

4. أنّ الفساد إذا عمّ وطمّ؛ ولم يكن في المجتمع من يُصلح؛ ثمّ جرت سُنن الله في هذا المجتمع بالهلاك؛ لن تنصرف العقوبة لأهل الفجور والفساد؛ بل تُصيب الصالحين كذلك، فمن يرضى لنفسه أن يكون مع الهالكين؟!

5. أنّ الواقع يقول: إنّنا إن وجدنا فئة عريضة قد أعرضت وأدبرت عن دينها؛ إلاّ أنّنا نجد عدداً ليس بالقليل قد اهتدى وانتفع بالهداية؛ أو على الأقل أصابه حظٌّ من هدايات العلماء وإصلاحهم.

6. أنّ المثاليّة في المدعويين بمعنى أننا نريد من جميع من ندعوهم الهداية العاجلة؛ أو الاستجابة؛ إن هو إلاّ تفكير لا ينبغي أن يكون في عقل الدعاة؛ فقد اقتضت حكمة الله أن يجعل أناساً من المعرضين وفئة من المُقبلين؛ ليحصل بذلك التمحيص والابتلاء، وأن يرى صدق إيمان من اهتدى وهَدى تحقيقاً على أرض الواقع لا مجرد كلمات فحسب!

7. نحن نجد أنّ غالب المتدينين يضعون عبء دعوة الآخرين ونشر الفكر السليم على أهل العلم والدعاة؛ وهذا صحيح؛ لكنهم متقاعسون لا يشاركونهم بل يتململون من العمل!! والحق يُقال أنَّ العامل لهذا الدين؛ عليه أن يضحي ببعض دنياه لأجل العمل لدينه؛ فيجعل للعمل العلمي والدعوي أفضل وقته لا فضل وقته، لأنَّا إن أعطينا العلم أو الدعوة فضل أوقاتنا؛ لم نجد لها وقتاً يليق بها وبهموم واقع عملنا العلمي والدعوي.

ليتأمل كل ملتزم متقاعس أن الاعتذار عن العمل لهذا الدين؛ من صفات أهل النفاق، أقوله تذكيراً لأنفسنا لنحذر؛ ولهذا قال تعالى عنهم:
وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلَا تَفْتِنِّي
يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ
تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ“.
عافانا الله وإياكم..

8. الناس تقول: (الجنّة بدها ناس والنار بدها ناس) وهذا صحيح؛ فالله تبارك وتعالى يقول: “فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ” فدورك أن تُحاول جاهداً أن تهدي الناس إلى صراط مستقيم؛ فإن أبوا وأعرضوا فقد اختاروا لأنفسهم طريقاً لم يُجبرهم أحد عليه بل هم اختاروه لأنفسهم.. وماذا تفعل وأنت تنصح من يقود السيّارة بعدم التهوُّر وهو لا يهتم بك بل يراك جباناً رعديداً ليس لديك قوّة قلبٍ لتسوق مثله؛ فإن أُصيب بحادث ومات كان هو الذي جلب المصيبة لنفسه، وإن بقي مُعاقاً علم صدق من كان يدعوه؛ وندم ولات ساعة مندم. وقد أرشد الله من قال: بذلتهم نُصحي بمنعرج اللوى. فلم يستبينوا النصح إلا ضُحى الغدِ!

(المصدر: مدونات الجزيرة)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى