بقلم أ. محمد إلهامي
كيف بنى الإسلام هذه الأمة التي هي خير أمة أخرجت للناس؟ وكيف يمكن أن نعيد بعث هذه الأمة مرة أخرى؟ ومن المسئول عن القيام بهذا التغيير؟
سعيًا للإجابة على هذا السؤال، بدأنا بمقدمة حول تصورات الفلاسفة للمدينة الفاضلة، وإجابتهم عن سؤال: من المسئول عن التغيير؟
ثم دلفنا إلى منهج الإسلام في بناء المجتمع، فوجدناه يقوم على أربعة أركان: الأساس العقدي، والمسئولية الفردية، وطبيعة النظام العام، ونظام حماية المجتمع.
1. فالأساس العقدي المغروس في المسلم هو التوحيد الذي يصنع أفكاره وقناعاته ثم يرشده إلى مهمته في الحياة: مهمةالاستخلاف في الأرض، التي تعني عمرانها ومقاومة الإفساد فيها.
2. والمسئولية الفردية تكشف لنا كيف بنى الإسلام شخصية المسلم ليقوم بمهمته، فألزمه أن يكون مسئولاً، مستقل الشخصية ليس بإمَّعة، ذا أخلاق رفيعة، مستوعبًا ومستدركـًا لأخطاء غيره، صلبًا لا ييأس أبدًا.
3. والنظام العام هو الذي يحدد طبيعة السلطة وشرعيتها وثوابتها، كما يحدد طبيعة المجتمع وأبرزها تماسكه وتكتله بروابط: الدين والرحم والجوار، ثم ينظم العلاقة بين السلطة والمجتمع.
4. ونظام حماية المجتمع هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذي تميزت به هذه الأمة، وقد رسمنا خريطته في الشرع،ونبهنا على أمور منسية يغفل عنها كثيرون فيه، ورأينا آثار تركه على المجتمع.
وهكذا انتظم بناء المجتمع الإسلامي فصار كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر.
وقد بقي في حديثنا هذا أن نثبت بالواقع وعبر التاريخ أن هذا البناء لم يكن نظريًّا فحسب، ولم يكن – كغيره من الأفكار والفلسفات ونظريات المدن الفاضلة- أحلامًا تفرزها العقول وتداعب الخيال، بل لقد كان بناء حقيقيًّا، أُنشئ وقام ورسخ، وظل يعطي ويفيض من خيره قرونًا على أهله ومن عداهم؛ بل ومن عاداه، وبهذا لم يتميز على غيره بحسن الصنعة فحسب؛ بل تميز عليه بالواقعية وإمكانية التطبيق.
ولذا فنحن هنا لن نتجول في النصوص والأقوال؛ بل سنُقَلِّب صفحات التاريخ ونتجوَّل في الأفعال والمواقف، فنرصد “الإنجاز” من بعد ما رصدنا “المنهج”، فالله المستعان.
كتب مايكل هارت كتابًا حول أعظم مائة شخصية في التاريخ الإنساني، وعلى الرغم من أنه مسيحي لا يؤمن بالإسلام ولا بمحمد إلا أنه جعل النبي على رأس هذه المائة، وقال: “لقد اخترت محمدًا ليكون الأول في قائمة أهم رجال التاريخ، ولا بد أن يندهش كثيرون لهذا الاختيار، ومعهم حق في ذلك، ولكن محمدًا هو الإنسان الوحيد في التاريخ الذي نجح نجاحًا مطلقًا على المستوى الديني والدنيوي. وهو قد دعا إلى الإسلام، ونشره كواحد من أعظم الديانات، وأصبح قائدًا سياسيًّا وعسكريًّا ودينيًّا، وبعد ثلاثة عشر قرنًا من وفاته فإن أثر محمد ما يزال قويًّا متجددًا”(1).
ويفسر هارت حيثيات هذا الاختيار بالقول: “كان البدو من سكان شبه الجزيرة مشهورين بشراستهم في القتال، وكانوا ممزقين -أيضًا- رغم أنهم قليلو العدد، ولم تكن لهم قوة أو سطوة العرب في الشمال الذين عاشوا على الأرض المزروعة. ولكن الرسول استطاع لأول مرة في التاريخ أن يوحد بينهم وأن يملأهم بالإيمان وأن يهديهم جميعًا بالدعوة إلى الإله الواحد؛ ولذلك استطاعت جيوش المسلمين الصغيرة المؤمنة أن تقوم بأعظم غزوات عرفتها البشرية.
وإذا استعرضنا التاريخ؛ فإننا نجد أحداثـًا كثيرة من الممكن أن تقع دون أبطالها المعروفين، مثلاً كان يمكن أن تستقل مستعمرات أمريكا الجنوبية عن إسبانيا دون أن يتزعم حركاتها الاستقلالية رجل مثل: سيمون بوليفار، هذا ممكن جدًّا، على أن يجيء بعد ذلك أي إنسان ويقوم بنفس العمل، ولكن من المستحيل أن يقال ذلك عن البدو وعن العرب عمومًا، وعن إمبراطوريتهم الواسعة دون أن يكون هناك محمد ، فلم يعرف العالم كله رجلاً بهذه العظمة قبل ذلك، وما كان من الممكن أن تتحقق كل هذه الانتصارات الباهرة بغير زعامته وهدايته، وإيمان الجميع به”(2).
كان الإنجاز بمنزلة انقلاب كامل كما يقول المستشرق الإنجليزي توماس أرنولد: “إن دخول الإسلام في المجتمع العربي لم يدل على مجرَّد القضاء على قليل من عادات بربرية وحشية فحسب؛ وإنما كان انقلابًا كاملاً لِمُثُل الحياة التي كانت من قبل”(3).
ويصف مؤرخ الحضارة ول ديورانت ملامح هذا الانقلاب بقوله: “إذا ما حكمنا على العظمة بما كان للعظيم من أثر في الناس قلنا: إن محمدًا كان من أعظم عظماء التاريخ؛ فلقد أخذ على نفسه أن يرفع المستوى الروحي والأخلاقي لشعب ألقت به في دياجير الهمجية حرارة الجو وجدب الصحراء، وقد نجح في تحقيق هذا الغرض نجاحًا لم يدانه فيه أي مصلح آخر في التاريخ كله، وقل أن نجد إنسانًا غيره حقق ما كان يحلم به.
ولم يكن ذلك لأنه هو نفسه كان شديد التمسك بالدين وكفى؛ بل لأنه لم يكن ثمة قوة غير قوة الدين تدفع العرب في أيامه إلى سلوك ذلك الطريق الذي سلكوه، وكانت بلاد العرب -لما بدأ الدعوة- صحراء جدباء، تسكنها قبائل من عبدة الأوثان قليل عددها، متفرقة كلمتها، وكانت عند وفاته أمة موحدة متماسكة، وقد كبح جماح التعصب والخرافات، وأقام فوق اليهودية والمسيحية ودين بلاده القديم دينًا سهلاً واضحًا قويًّا، وصرحًا خلقيًّا قوامه البسالة والعزة القومية، واستطاع في جيل واحد أن ينتصر في مائة معركة، وفي قرن واحد أن ينشئ دولة عظيمة، وأن يبقى إلى يومنا هذا قوة ذات خطر عظيم في نصف العالم”(4).
إن أفعل أثر في التطبيق العملي للفكرة المجردة هي أن الإسلام لم يكن مجرد فكرة؛ بل كان دينًا يرى فيه المرء نجاة الآخرة، وإن فاته نصيب الدنيا، وقد صار الإيمان بدين ضرورة مُسَلَّم بها وبأثرها في الحياة حتى لدى فلاسفة المادية النفعية الذين -وإن لم يؤمنوا بدين- يعترفون بنفع وجود الدين في حياة البشر(5).
وقد ظل أثر الدين قائمًا في حياة المسلمين ومجتمعاتهم حتى وهم في أضعف حالاتهم من الأخذ بنصيب الدنيا، يشهد الفيلسوف والمستشرق الفرنسي جوستاف لوبون بأنه “يوجد فرق بين التعاليم المكتوبة والعمل بها في الغالب، وإذا ما أراد الإنسان أن يعلم أهمية هذه التعاليم وجب عليه أن يدرس درجة تأثيرها في الحياة، وحدود هذا التأثير هو الذي تهم معرفته الآن… تأثير دين محمد في النفوس أعظم من تأثير أي دين آخر، ولا تزال العروق المختلفة التي اتخذت القرآن مرشدًا لها تعمل بأحكامه كما كانت تفعل منذ ثلاثة عشر قرنًا(6)، وعلى من يرغب في فهم حقيقة أمم الشرق التي لم يدرك الأوروبيون أمرها إلا قليلاً، أن يتمثل سلطان الدين الكبير على نفوس أبنائها، وللدين ذي التأثير الضئيل فينا(7) نفوذ عظيم فيهم، وبالدين يُؤَثَّر في نفوسهم”(8).
لكن التأثير الإسلامي لم يكن فحسب فيما أنجزه للعرب، بل ثمة تأثير شامل فاض به الإسلام على العالمين، وقد شمل هذا التأثير كافة الميادين الإنسانية، وهو ما سنستعرض بعضًا منه في المقال القادم إن شاء الله تعالى.
(المصدر: ساسة بوست)