قواعد في الولايات العامة من كلام ابن تيمية
بقلم فايز الصلاح
الحمدُ لله ربِّ العالمين، وأصلي وأسلمُ على المبعوث رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين أما بعد:
فهذه قواعد وفوائد من كتاب: “السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية” لشيخ الإسلام أبي العباس أحمد ابن تيمية رحمه الله تعالى، تتعلق بالولايات الشرعية واجباتٍ وحقوقٍ مرعية، على اختلاف طبقاتها ومستوياتها في الدولة الإسلامية، وإليك هذه القواعد والفوائد:
القاعدة الأولى: الولاية أمانة
الولايةُ أمانةٌ، ويجب أن تُؤدَّى على أكمل وجه، فلا يجوز فيها الخيانة، قال شيخُ الإسلام رحمه الله: “وقد دلّت سنّة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على أنّ الولاية أمانة يجب أداؤها في مواضع: مثل ما تقدم، ومثل قوله لأبي ذر -رضي الله عنه- في الإمارة: (إنَّها أَمانَةٌ، وإِنَّها يومَ القيَامَة خِزيٌ ونَدَامةٌ، إلا من أخذَها بِحقّها، وأدَّى الذي عليه فيهما) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وروى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (إِذَا ضُيِّعتِ الأَمانةُ فَانتظرِ السَّاعةَ. قِيل يَا رسول الله: وما إِضاعتُها؟ قال: إذا وُسِّدَ الأمرُ إلى غيرِ أَهلِهِ فَانتَظرِ السَّاعةَ)” انتهى[ 1 ].
القاعدة الثانية: الولايةُ تكليفٌ وليست بتشريفٍ، وابتلاءٌ فلا يستشرف لها
فإذا كانت أمانة فهي تكليفٌ لا تشريفٌ، ولا يُولَّى من يطلبها، لمظنَّة الطمع فيها للدنيا، ومن طلبها فالغالب أنّه لا يُوفق فيها، والولاية ابتلاءٌ، والبلاءُ لا يُستَشرفُ له، وإنّما إذا جاء استعان بالله وصبر.
قال شيخ الاسلام رحمه الله: “ولا يُقَدِّمُ الرَّجُلَ لِكَونِهِ طلب الولاية، أو سبق في الطلب، بل يكون ذلك سببًا للمنع، فإنّ في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنّ قومًا دخلوا عليه فسألوه ولاية، فَقَالَ: إنَّا لَا نُوَلِّي أَمْرَنَا هَذَا مَنْ طَلَبَهُ).
وقال لعبد الرحمن بن سَمُرَةَ: (يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ! لَا تَسْأَلْ الْإِمَارَةَ، فَإِنَّك إنْ أُعْطِيتهَا مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْت عَلَيْهَا، وَإِنْ أعطيتها عن مسألة وكلت إليها) أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ.
وقال صلى الله عليه وسلم: (مَن طَلبَ القضاءَ واستَعانَ عليهِ وُكِلَ إليهِ، ومن لم يَطلب القضاءَ ولم يَستعِن عليه، أنزل الله عليه مَلَكًا يُسَدِّدهُ) رواه أهل السنن” انتهى[ 2 ].
الثالثة: وجوب معرفة مقاصد الولاية ووسائلها
والمهم في الولاية معرفة مقصودها، والوسائل المعينة للوصول إلى مقصودها.
والمقصود من الولايات: سياسة الناس بالدين لصلاحهم في العاجل والآجل، وذلك بجلب أكمل المنافع لهم، ودفع الضر عنهم، ومعاقبة المعتدين.
ومن أعظم مقاصد الولاية: إقامِ الصلاة والجهاد في سبيل الله، لأنّ قيام هذا الدين لا يكون إلا بالكتاب الهادي والسيف الناصر.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: “وأهمّ ما في هذا البابِ معرفةُ الأصلح، وذلك إنّما يتم بمعرفةِ مقصودِ الولاية، ومعرفةِ طريقِ المقصود، فإذا عرفتَ المقاصد والوسائل تَمّ الأمر”.
وقال أيضًا: “فالمقصودُ الواجب بالولايات: إصلاحُ دينِ الخلقِ الذي متى فاتَهُم خسروا خسرانًا مبينًا ولم ينفعهم ما نعموا به في الدنيا، وإصلاح ما لا يقوم الدين إلا به من أمر دنياهم”.
وقال أيضًا: “فالمقصودُ من إرسال الرسل، وإنزال الكتب، أن يقوم الناس بالقسط في حقوق الله، وحقوق خلقه، ثم قال تعالى : {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ} [الحديد: 25]. فمن عَدَلَ عن الكتابَ قُوِّمَ بالحديد، ولهذا كان قِوامُ الدينِ بالمصحف والسيف” انتهى[ 3 ].
القاعدة الرابعة: الولايةُ من أعظم واجبات الدين، ويتقرب بها إلى الله المعين
قال شيخ الإسلام رحمه الله: “يجب أن يُعرف أنّ ولاية أمرِ النّاسِ من أعظم واجباتِ الدّين، بل لا قيامَ للدّين ولا للدنيا إلا بها. فإنَّ بني آدمَ لا تتم مصلحتُهم إلا بالاجتماعِ لحاجةِ بعضهم إلى بعض، ولا بدَّ لهم عند الاجتماعِ من رأسٍ، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذَا خَرَجَ ثَلَاثَةٌ فِي سَفَرٍ فَلْيُؤَمِّرُوا أَحَدَهُمْ) رواه أبو داود، من حديث أبي سعيد، وأبي هريرة.
وروى الإمام أحمد في المسند عن عبد الله بن عمرو، أنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (لَا يَحِلُّ لِثَلَاثَةٍ يَكُونُونَ بِفَلَاةٍ مِنْ الْأَرْضِ إلَّا أَمَّرُوا عَلَيْهِمْ أَحَدَهُمْ).
فأوجبَ -صلى الله عليه وسلم- تأميرَ الواحدِ في الاجتماعِ القليلِ العارضِ في السفر، تنبيهًا بذلك على سائرِ أنواع الاجتماع. ولأنّ الله تعالى أوجبَ الأمرَ بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يتمُّ ذلك إلا بقوةٍ وإمارة، وكذلك سائرُ ما أَوجبهُ من الجهاد والعدل وإقامة الحج والجمع والأعياد ونصر المظلوم وإقامة الحدود، لا تتم إلا بالقوة والإمارة، فالواجب اتخاذُ الإمارةِ دينًا وقربةً يُتقرب بها إلى الله، فإنّ التقرب إليه فيها بطاعته وطاعة رسوله من أفضل القربات، وإنما يَفسُد فيها حالِ أكثر الناس لابتغاءِ الرياسة أو المال بها” انتهى[ 4 ].
القاعدة الخامسة: الولايةُ نيابةٌ ووكالةٌ
إطلاق القول بأنَّ ولي الأمر هو وكيلٌ عن الأمّة وحسب، تعزله متى شاءت، هو قولٌ مجانبٌ للحقّ والصواب، وهو وليد الضغوط الاستبدادية، فانتقل الناس من استبداد الحاكم إلى الاستبدادِ بالحاكم!.
نعم الأمة هي التي تختار وتوكّل، فالسلطان للأمة، ولكن إذا اختارت ولي أمرها فقد جعل الله له ما ليس للوكيل.
وهناك فرقٌ بين الولاية والوكالة، فالوكالة تُعزل بكل حالٍ بسبب أو بغير سبب، والولاية ليس كذلك، والوكيلُ ليس له طاعة على موكله، وولي الأمر ليس كذلك.
فالولاية لها جانبان: جانب اختياري توكيلي وجانب سلطوي.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: “فإنّ الخلق عباد الله، والولاة نواب الله على عباده، وهم وكلاء العباد على نفوسهم، بمنزلة أحد الشريكين مع الآخر، ففيهم معنى الولاية والوكالة، ثم الولي والوكيل متى استناب في أموره رجلًا وترك مَن هو أصلح للتجارة أو العقار منه، وباع السلعة بثمن، وهو يجد من يشتريها بخير من ذلك الثمن، فقد خان صاحبه، لا سيما إن كان بين من حاباه وبينه مودة أو قرابة، فإنّ صاحبه يبغضه ويذمه، ويرى أنّه قد خانه وداهن قريبه أو صديقه” انتهى[ 5 ].
القاعدة السادسة: يجب اختيارُ الأصلح فالأصلح في الولاية
قال شيخ الإسلام رحمه الله: “فيجبُ على وليّ الأمرِ أن يُولي على كل عملٍ من أعمال المسلمين أصلحَ من يجده لذلك العمل، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من وَليَ من أَمرِ المسلمينَ شيئاً، فَولَّى رجلًا وهو يجدُ من هو أَصلحُ للمسلمينَ منهُ فقد خانَ اللَّهَ ورسُولَهُ)، وفي رواية: (من ولّى رجلًا على عِصابةٍ [أي جماعة] وهو يجدُ فِي تلك العصابةِ من هو أَرضَى للهِ منهُ، فقد خَانَ اللهَ ورسولهَ وَخَانَ المُؤمنينَ) رواه الحاكم في صحيحه.
فيجب عليه البحث عن المستحقّين للولايات من نُوابِه على الأمْصارِ، من الأمراء الذين هم نواب ذي السلطان، والقضاة، ونحوهم، ومن أمراءِ الأجناد ومقدّمي العساكرِ الصغارِ والكبار، وولاةِ الأموال: من الوزراء، والكُتّاب، والشّادِين، والسُّعاة على الخراج والصدقات، وغير ذلك من الأموال التي للمسلمين. وعلى كل واحدٍ من هؤلاء، أن يَستَنيبَ ويستعملَ أصلح من يجده، وينتهي ذلك إلى أئمةِ الصلاة والمؤذنين، والمُقرئين، والمعلمين، وأُمراءِ الحاجِّ، والبَرَدِ، والعُيون الذين هم القُصّاد، وخُزّان الأموال، وحُرّاس الحصون، والحدّادين الذين هم البوابونَ على الحصونِ والمَدائن، ونُقباءُ العساكر الكبار والصغار، وعُرفاء القبائل والأسواق، ورؤساء القرى الذين هم الدّهاقِين، فيجب على كلّ من وَلِي شيئاً من أمر المسلمين، من هؤلاء وغيرهم، أن يستعملَ فيما تحت يده في كلّ موضعٍ أصلحَ من يقدر عليه، فإن عَدَلَ عن الأحقّ الأصلحِ إلى غيرِه، لأجلِ قَرابةٍ بينهما، أو ولاءِ عِتاقةٍ أو صداقةٍ، أو مرافقةٍ في بلد أو مذهب، أو طريقة، أو جنسٍ: كالعربية، والفارسية، والتركية، والرومية، أو لرشوةٍ يأخذها منه من مال أو منفعة، أو غير ذلك من الأسباب، أو لِضَغَنٍ في قلبه على الأحقّ، أو عداوةٍ بينهما: فقد خانَ الله ورسوله والمؤمنين، ودخل فيما نهي عنه في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال: 27]. ثمّ قال: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 28].
فإنَ الرجلَ لِحُبه لولده أو لعَتيقه قد يُؤثِره في بعض الولايات، أو يعطيه ما لا يستحقه، فيكون قد خان أمانته، وكذلك قد يُؤثِره زيادة في ماله أو حفظه، بأخذ ما لا يستحقه، أو محاباة من يداهنه في بعض الولايات، فيكون قد خان الله ورسوله، وخان أمانته.
ثم إنّ المؤدي للأمانة مع مخالفة هواه، يُثبته الله فيحفظه في أهلِه وماله بعده، والمطيع لهواه يعاقبه الله بنقيض قصده فيُذِل أهله، ويُذهِب ماله” انتهى[ 6 ].
القاعدة السابعة: يجوز العُدول عن الأصلح لمن هو دونه لمصلحة راجحة
قال شيخ الإسلام رحمه الله: “وأَمَّرَ النبي -صلى الله عليه وسلم- مرَّة عمرو بن العاص في غزوة ذات السلاسل -استعطافا لأقاربه الذين بعثه إليهم- على من هم أفضل منه. وأَمَّرَ أسامة بن زيد، لأجل طلب ثأر أبيه. وكذلك كان يستعمل الرجل لمصلحة راجحة، مع أنّه قد كان يكون مع الأمير من هو أفضل منه في العلم والإيمان” انتهى[ 7 ].
القاعدة الثامنة: الولايةُ لها ركنان: القوة والأمانة
الولاية لها ركنان: القوة والأمانة، والقوة متعلِّقة بالقدرات سواء كانت علمية أو عملية، والأمانة متعلِّقة بالدِّيانة.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: “وينبغي أن يُعرف الأصلح في كل منصب، فإنّ الولاية لها ركنان: القوة والأمانة. كما قال تعالى:{إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} [القصص: 26]. وقال صاحب مصرَ ليوسف عليه السلام: {إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ} [يوسف: 54]. وقال تعالى في صفة جبريل:{إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} [التكوير: 19 – 21].
والقوةُ في كلّ ولاية بحسبها، فالقوة في إمارة الحرب ترجع إلى شجاعة القلب، وإلى الخبرة بالحروب، والخادعة فيها، فإنّ الحرب خدعة، وإلى القدرة على أنواع القتال: من رمي وطعن وضرب وركوب وكر وفر، ونحو ذلك…” انتهى[ 8 ].
ولكن ينبغي أن نعلم أنّ تحقق هاتين الصفتين على الكمال والتمام قليلٌ في الناس، ومن ثَمَّ ينبغي التسديد والمقاربة واختيار الأنسب بحسب الوظيفة، قال شيخ الإسلام رحمه الله: “اجتماع القوة والأمانة في الناس قليل، ولهذا كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: “اللَّهمَّ أَشكُو إليكَ جَلَدَ الفَاجرِ، وعجْزَ الثّقةِ”.
فالواجبُ في كلّ ولاية الأصلحُ بحسبها، فإذا تعيَّن رجلان أحدهما أعظم أمانة والآخر أعظم قوة: قُدِّم أنفعهما لتلك الولاية، وأقلُهما ضرراً فيها.
فيُقدّم في إمارة الحروب الرجل القوي الشجاع -وإن كان فيه فُجور- على الرجل الضعيف العاجز، وإن كان أمينًا… وإذا كانت الحاجة في الولاية إلى الأمانة أشدّ قُدِّم الأمين، مثل حفظ الأموال ونحوها، فأمّا استخراجها وحفظها فلا بدّ فيه من قوة وأمانة، فيُولى عليها شادٌّ قوي يستخرجها بقوته، وكاتب أمين يحفظها بخبرته وأمانته” انتهى[ 9 ].
القاعدة التاسعة: إن تعذّر الأصلح فالأَمثَلُ الأَمثل
طلبُ الكمال في الولاية متعذّر، وخاصة في العصور المتأخرة، فينبغي اختيار الأَمثَلِ فَالأَمثَل، وهذا الاختيار كلٌ بحسبه، ومن هنا لا بد من مراعاة قاعدة الموازنات بين الحسنات والسيئات، والمصالح والمفاسد.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: “إذا عُرف هذا، فليس عليه أن يستعمل إلا أصلحَ الموجود، وقد لا يكون في موجوده من هو أصلح لتلك الولاية، فيختاُر الأَمثَل فالأَمثَل في كل منصبٍ بحسبه، وإذا فعل ذلك بعد الاجتهاد التام، وأخذِه للولاية بحقها، فقد أدى الأمانة، وقام بالواجب في هذا، وصار في هذا الموضع من أئمة العدل المقسطين عند الله، وإن اختلّ بعض الأمور بسببٍ من غيره إذا لم يمكن إلا ذلك، فإن الله يقول: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]. ويقول: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] … فمن أدَّى الواجبَ المقدورَ عليه فقد اهتدى، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذَا أَمرتُكُمْ بِأَمرٍ فَأتُوا مِنهُ ما استَطَعتُم) أخرجاه في الصحيحين، لكن إن كان منه عجزٌ بلا حاجة إليه، أو خيانة عُوقب على ذلك” انتهى[ 10 ].
القاعدة العاشرة: إن تعذَّرت الصفاتُ في واحدٍ فإلى عددٍ
إذا تعذر أن تجتمع الصفات في واحد فلا مانع من اجتماعها في عدد، وهذه هي القيادة الجماعية، وقد كان لشيخ الإسلام السبق في الإشارة إلى هذه المسألة، قال رحمه الله: “وهكذا في سائر الولايات: إذا لم تتم المصلحة بِرجلٍ واحدٍ جَمَعَ بين عدد، فلا بد من ترجيحِ الأصلح، أو تَعَدُّد المولَّى، إذا لم تقع الكفاية بواحدٍ تام” انتهى[ 11 ].
القاعدة الحادية: يجوز تولية ناقص الأهلية للضرورة إذا كان أصلحَ الموجود، مع السعي في إصلاحه وتكميله
الدينُ تارةً يقوم بأهل الدين الكامل، وتارةً بأهل الدين الناقص، وخاصةً في المصالح العامة، كما في الصحيحين عن الرسول صلى الله عليه وسلم: (إنَّ الله لَيُؤيِّدُ هذا الدينَ بالرَّجُلِ الفَاجرِ) أخرجه البخاري، وهذا بخلاف المصالح الخاصة، ولكن يجب تلافي النقص بالإعداد، وهو ما يُسمَّى اليوم بإعداد الكوادر.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: “ومع أنّه يجوز تولية غيرِ الأهلِ للضرورة، إذا كان أصلحَ الموجود، فيجب مع ذلك السعي في إصلاح الأحوال، حتى يكمل في الناس ما لا بد لهم منه، من أمورِ الولايات والإمارات ونحوها، كما يجبُ على المُعسر السعي في وفاء دينه، وإن كان في الحال لا يُطلب منه إلا ما يقدر عليه، وكما يجب الاستعداد للجهاد، بإعداد القوة ورباط الخيل في وقت سقوطه للعجز، فإنَّ ما لا يتمُ الواجب إلا به فهو واجب، بخلافِ الاستطاعة في الحج ونحوها، فإنه لا يجب تحصيلها، لأن الوجوب هنا لا يتم إلا بها” انتهى[ 12 ].
القاعدة الثانية عشرة: اقترانُ الصفات واكتمالها في الولاة
يجبُ الحرص على اجتماع الصفات المتقابلة المتكاملة، واقترانها قدر الإمكان في الولاة، سواء كان في الرجل الواحد أو في رجال متعددين متكاملين، فإنَّ الكمال والوسطية والاعتدال لا يتحقّق إلا بذلك، وينبغي كذلك ملاحظة التكامل بين الوالي ونائبه، فإن كان الوالي يغلب عليه الشدّةُ فينبغي أن يكون نائبُه ليّنًا وبالعكس.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: “وهكذا أبو بكر خليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رضي الله عنه، ما زال يستعمل خالدًا في حرب أهل الردّة وفي فتوح العراق والشام، وبَدَت منه هفوات كان له فيها تأويل، وقد ذُكر له عنه أنّه كان له فيها هوى، فلم يعزله من أجلها، بل عاتبه عليها لرجحان المصلحة على المفسدة في بقائه، وأنّ غيره لم يكن يقوم مقامه، لأنّ المتولي الكبير إذا كان خُلُقُه يميل إلى اللين فينبغي أن يكون خُلُق نائبه يميل إلى الشدّة، وإذا كان خُلُقُه يميل إلى الشدّة، فينبغي أن يكون خُلُق نائبه يميل إلى اللين، ليعتدل الأمر.
ولهذا كان أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- يُؤثِر استنابة خالد، وكان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يُؤثر عزل خالد، واستنابة أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه، لأن خالدًا كان شديدًا كعمر بن الخطاب، وأبا عبيدة كان ليّنًا كأبي بكر، وكان الأصلح لكلّ منهما أن يولّي من ولّاه، ليكون أمره معتدلًا، ويكون بذلك من خلفاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي هو معتدل، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أَنَا نَبِيُّ الرَّحْمَةِ، أَنَا نَبِيُّ الْمَلْحَمَةِ) … وأمته وسط قال الله تعالى فيهم: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} [الفتح: 29]. وقال تعالى: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة: 54].
ولهذا لما تولى أبو بكر وعمر -رضي الله عنهما- صارا كاملين في الولاية، واعتدل منهما ما كان يُنسبان فيه إلى أحد الطرفين في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- من لين أحدهما وشدّة الآخر، حتى قال فيهما النبي صلى الله عليه وسلم: (اقتدوا باللذين مِنْ بَعْدِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ).
وظَهَرَ من أبي بكر من شجاعة القلب في قتال أهل الردّة وغيرهم ما برز به على عمر وسائر الصحابة، رضي الله عنهم أجمعين” انتهى[ 13 ].
القاعدة الثالثة عشرة: تولّي الولايات بين الإفراط والتفريط
قضية تولي الولايات: الناس فيها بين إفراط وتفريط، وإقدام وإحجام، وينبغي أن نعلم أنّ التخفيف من الظلم مع حُسن القصد من الجهاد في سبيل الله، وخاصةً من أعان المظلوم على تخفيف الظلم، فهو من باب قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2].
وهو في هذا الأمر وكيل للمظلوم وليس للظالم، قال شيخ الإسلام رحمه الله: “والمُعين على الإثم والعدوان من أعانَ الظالم على ظلمه، أمّا من أعانَ المظلوم على تخفيف الظلم عنه، أو على أداء المَظلَمة: فهو وكيل المظلوم لا وكيل الظالم، بمنزلة الذي يُقرضه، أو الذي يتوكَّل في حمل المال له إلى الظالم.
مثال ذلك ولي اليتيم والوقف، إذا طلب ظالم منه مالًا فاجتهد في دفع ذلك بمالٍ أقلّ منه إليه أو إلى غيره بعد الاجتهاد التام في الدفع، فهو محسن، وما على المحسنين من سبيل.
وكذلك وكيل المالك من المنادين والكُتَّاب وغيرهم، الذي يتوكل لهم في العقد والقبض، ودفع ما يُطلب منهم، لا يتوكل للظالمين في الأخذ.
وكذلك لو وُضعت مظلمة على أهل قرية أو درب أو سوق أو مدينة فتوسَّط رجل منهم محسن في الدفع عنهم بغاية الإمكان وقسَّطها بينهم على قدر طاقتهم، من غير محاباة لنفسه ولا لغيره، ولا ارتشاء، بل توكَّل لهم في الدفع عنهم، والإعطاء: كان محسنًا، لكن الغالب أنّ من يدخل في ذلك يكون وكيل الظالمين محابيًا مرتشيًا مخفرًا لمن يريد، وآخذًا ممن يريد، وهذا من أكبر الظلمة، الذين يُحشرون في توابيت من نار، هم وأعوانهم وأشباههم، ثم يقذفون في النار” انتهى[ 14 ].
رحم الله شيخ الإسلام ابن تيمية
والحمد لله رب العالمين