قناعات المسلم بين الدين وبين ممارسيه
بقلم أحمد التلاوي
شهدت ساحات ومنصات النقاش الخاصة بالحركة الإسلامية الصحوية في الآونة الأخيرة، نقاشات وجدالات كبيرة وعظيمة على إثر ما أعلن عنه الداعية السعودي، عائض القرني عما وصفه بـ”المراجعات” في منهجه.
وبقطع النظر عن محتوى حديث القرني، وبواعثه لمواقفه الجديدة، أو الطريقة التي خرج بها بهذه “المراجعات” إلى الإعلام؛ فإن هناك مشكلات ترتب عليها هذا الموقف، وتكررت فيها ذات عناصر الجدل.
كما أن المشكلة الأهم التي تنبغي مناقشتها على نطاق أوسع، هو حدوث حالات كثيرة من التخارج من جانب بعض الشباب عن مسارات العمل الإسلامي المختلفة، باعتبار أن هذه “المراجعات” الصادمة في محتواها، وفيما تعكسه عن شخصيات كان لها مقامها الكبير، تفسد القناعات الأساسية التي انبنى عليه قرار الانخراط في العمل الإسلامي بأي مسارٍ من مساراتها.
ولعل النقطة الأبرز أو الأخطر في مراجعات القرني –لا نذم أو نقدح في الرجل بقدر ما نتناول الأمور من زوايا التقييم الموضوعي البحت– أنها قد تناقضت مع أمور كان يقيني الحماسة فيها، وأثبتها بالأدلة الشرعية، مع ربطه “مراجعاته” هذه بوجوه سياسية، متفقٌ على أنها ضمن المحور الذي تواجهه الحركة الإسلامية الإصلاحية بدعواتها للتغيير، وكفاحها ضد الفساد والاستبداد.
وكان ذلك من أهم أسباب تأثير “فتنة القرني” – لو صحَّ التعبير – مع كونه كان قامةً كبيرةً موثوقة، في مسألة “الكفران” المبين من جانب بعض الصف المسلم، ولا سيما الشباب، بمبادئ المشروع الإسلامي، وتعضيد جهود كبيرة تتم من جانب حكومات وأنظمة لصرف الناس عن إسناد جهود تحكيم الشريعة، واستعادة سياقات الأمة الحضارية.
وربما تبدو هذه القضية قديمة، وبالتالي، ومع الجهود التي تُبذَل في كلِّ حالةٍ من هذه الحالات؛ فإنه من المُفتَرض أنها محسومة باعتبار أنها ترتبط ببديهيات عقلية وإيمانية، إلا أنها تتجدد من آنٍ لآخر مع حدوث حالة من حالات الارتكاسات مع أحد رموز الدعوة والعمل الإسلامي كما تم.
هذه المشكلة تعكس أوجه خلل عديدة في عملية التربية والتنشئة داخل الصف الإسلامي، فهناك قول في الأثر عن عبد الله بن مسعود (رضي الله عنه)، قال فيه: “مَن كانَ مُسْتَنًّا؛ فَلْيَسْتَنَّ بمن قد ماتَ، فإن الحيَّ لا تُؤمَنُ عليه الفِتْنَةُ”.
هذا الأثر رواه ابن عبد البر في “جامع بيان العلم وفضله”، وبالرغم من أن في إسناده ضعف؛ إلا أنه أثر مشهور ومتداول في مُصنَّفات أهل السُّنة والجماعة، كما أنه يتناسب مع قواعد المنطق والعمران السليمة، وبالتالي؛ فهو يؤخذ به، ولذلك معناه صحيح، واستقرَّ عند علماء المسلمين.
ولو أن هذا الأمر بمنطقه البسيط يتم غرسه بالشكل السليم في المناهج التربوية في أول درجاتها؛ ما رأينا حالات التفلُّت الكبير التي تحدث بين كل أزمةٍ وأخرى.
تمامًا مثلما حدث بعد سلسلة الهزائم السياسية التي تلقتها الحركة الإسلامية في بلدان ما يُعرَف بثورات الربيع العربي، والتي شهدت بعضها مجازر في حق الناس –وليس أبناء الحركة الإسلامية فحسب– بل ومالت فيها الكفَّة لصالح أنظمة ظالمة مستبدة، ارتكبت هذه الجرائم.
وقتها ظهرت فتنة كبيرة حملت عنوانًا رئيسيًّا، وهو: “أين ذهب الله؟!” أو “أين نصره الذي وعد؟!”، سبحانه وتعالى عما يصفون، بالرغم من أن هذه الأمور واضحةً وضوح الشمس في القرآن الكريم، وتثبتها أحداث التاريخ. فرانكو فرانشيسكو، ديكتاتور إسبانيا الذي مات على يديه مئات الآلاف من مواطنيه، وكان فاشيًّا، مات على فراشه. فهل يعني ذلك أنه كان على حق، وحظي بدعمٍ من الله تعالى؟!.. إطلاقًا، وحاشا لله تعالى ذلك، ولكنها قواعد وضعها الله تعالى علينا أن نتحرك وفقها.
بجانب قضية ضعف الغرس هذه؛ فإن هناك مشكلة كبيرة أخرى في العملية التربوية داخل الحركات الإسلامية، تتعلق بعملية التأطير التنظيمي.
وتتعلق هذه النقطة بأنه جرى تداخل خاطئ تمامًا بين متطلبات عملية تثبيت الصف على المنهج والمبدأ، والصبر على المكاره والمتاعب التي سوف تلاقيه حتمًا خلال عمله الدعوي، باعتبار أن ما يقوم به، إنما هو جهاد بصورة من الصور في سبيل الله، وأنه يعمل لمصلحة الدين وإقامة الشريعة، وبين الطبيعة الوظيفية للحركة الإسلامية، أي أنها ليست الدين في حد ذاته، وإنما هي أداة من أدوات خدمة الدين.
جرى تداخل خاطئ تمامًا بين متطلبات عملية تثبيت الصف على المنهج والمبدأ، والصبر على المكاره والمتاعب التي سوف تلاقيه حتمًا خلال عمله الدعوي، وبين الطبيعة الوظيفية للحركة الإسلامية، أي أنها ليست الدين في حد ذاته، وإنما هي أداة من أدوات خدمة الدين
هذا التداخل وضع الجماعة – أيًّا كانت – موضع الدين، وصار الخروج عليها، مُعتبرًا خروجًا عن الدين، وفي بعض الحالات، يصنَّف شرعيًّا على أنه “ردَّة”، ويتم قتل أصحاب المواقف المخالفة، والذين تركوا الجماعة، بمنطق “الخروج على الجماعة” الوارد في الحديث النبوي الشريف الذي حدد فيه حالات حِل دم المسلم، بينما الجماعة المذكورة في الحديث النبوي الشريف، هي جماعة المسلمين، وليست الجماعة بالمنطق التنظيمي المعروف الآن، أي هذه الحركة أو تلك.
بل إن هناك شباب مسلم لا يتصور أنه يمكنه أن يخدم دينه بمبادرات فردية، بعيدًا عن أية جماعة. إن خدمة الدين لها مظاهر تفوق الحصر، فلو التزم المسلم المُتَديِّن بالأخلاق الحميدة أمام الناس فحسب؛ هذا في حد ذاته خدمة للدين، من خلال تقديم النموذج السليم والقدوة الحسنة للناس.
ويعيدنا ذلك إلى جذر مهم لأسباب تأثير الفتن التي تطرأ على شباب الحركة الإسلامية، وهي ربط المشروع الإسلامي بشخوص وجماعات، فلو أخطأت هذه الشخوص أو الجماعات –والخطأ، بل والخطيئة طبيعة بشرية جُبِل عليها بنو آدم– يتم ربط هذه الأخطاء والخطايا بالمشروع، بل وبالدين برمته، في ظل ضعف الفكر والفهم القائم لدى شرائح من صغار السن.
من الأخطاء المنشرة ربط المشروع الإسلامي بشخوص وجماعات، فلو أخطأت هذه الشخوص أو الجماعات يتم ربط هذه الأخطاء والخطايا بالمشروع، بل وبالدين برمته، في ظل ضعف الفكر والفهم القائم لدى شرائح من صغار السن
وهي مسؤولية تتحملها الحكومات والأنظمة كذلك، وسعيدة بها، في ظل تداعي المنظومة التعليمية والتنويرية، مما أدى إلى نشوء أجيال كاملة ضعيفة الفهم، وغير قادرة على استيعاب الأمور بهذا العمق والقدرة على التمييز.
وهو ما سهَّل مهمة الفساد والاستبداد والسيطرة على الجموع من جانب هذه الحكومات والأنظمة!
وبالتالي؛ فإن الجهد المطلوب بدوره تربويًّا، ولكن بالمفهوم الواسع الشامل للتربية وأدواتها؛ حيث يدخل في ذلك الإعلام، ومختلف المحاضن التربوية والمسؤولة عن التكوين الفكري والمعرفي.
والأمر أبسط حتى من ذلك. القرآن الكريم شديد الوضوح في هذه الأمور، ويقدم السُّنَن كافة في هذه الاتجاهات؛ حيث نجد الحديث عن النصر واشتراطاته، وعن قواعد الثواب للمحسن والعقاب للمسيء بين الدنيا والآخرة، وفيه أحاديث الفتن.
ولو أضفنا له قراءات في السيرة النبوية والحديث الشريف؛ سوف لن نكون بحاجة إلى أي شيء آخر. فقط نتدبَّر القرآن والسُّنَّة بالشكل السليم.
(المصدر: موقع بصائر)