قمّة كوالالمبور: مشروع نهضة
بقلم د. فتحي الشوك (خاص بمنتدى العلماء)
انطلقت يوم 18ديسمبر 2019 بكوالالمبور الماليزية أشغال القمّة الإسلامية المصغّرة بحضور ممثّلين عن 18 دولة إسلامية، قمّة مختلفة عن بقيّة القمم بالنّظر لمن دعا إليها و لأهمّية ما ستنتجه من مخرجات في ظلّ ما تعيشه الأمّة الإسلامية من واقع تعيس و فرقة و أزمات، وقد استبشر البعض لهذه المحاولة الجدّية للتّغيير في أساليب التّشخيص و العلاج بعد فشل الأطر التّقليديّة في إيجاد حلول لوضع مأساوي يعيشه ربع سكّان العالم يزداد قتامة و تأزّما ، في حين استأسد آخرون في الدّفاع عن منظومة الفشل القائمة في محاولة مستميتة لتأبيد التخلّف و مطاردة أيّة محاولة للاستنهاض و تكريس واقع الإحباط و نشر اليأس و ترسيخ الهزيمة و التّبعية و الذلّ. فهل تمثّل قمّة كوالالمبور بارقة أمل حقيقية لشعوب مطحونة تتعرّض لجلّ ما يقع في العالم من مظالم؟ و ما سبب قلق البعض الشّديد من محاولة رفع الجور و تعديل المسار؟
واقع تعيس: في ظلّ ما تعيشه الشّعوب الإسلامية من وضع بائس جعلها تستأثر بجلّ ما يقع في الأرض من مآس، في الصّين و مينمار و إفريقيا الوسطى و اليمن وسوريا و العراق و ليبيا و فلسطين و حيثما وجدوا في أوطانهم أو مغتربين، فالمسلمون اليوم هم الأكثر تعرّضا للظّلم و القهر و هم عناوين الفقر و الجهل مع أنًهم يمتلكون كلّ أسباب العزّة من خيرات طبيعية و موارد بشرية ،مقدّرات استغلّت من قبل حكومات”إسلامية” وظيفية متواطئة ،خانعة و ذليلة ، لخدمة مشروع الهيمنة و الإذلال الأجنبي لأجل “التنمية” في التخلّف،واقع ترسّخ مع منظومة فاسدة مفسدة همّها الرّئيس مصالحها الضيّقة و هي متضامنة فيما بينها لأجل الاستمرار في طحن الشّعوب، و ممّا زاد في الطّين بلّة أنّ المؤسّسات الّتي أنشئت مع مولد هذه الكيانات الوظيفية من جامعة دول عربية و منظمة تعاون إسلامي و مجلس تعاون خليجي و غيرها كانت لأجل التطبيع مع الواقع المزري بل و لترسيخه و إجهاض أيّة محاولة حقيقية للاستنهاض و التّغيير. عُقدت عشرات القمم بين عربيّة و إسلاميّة و خليجيّة لتخرج ببيانات لا ترتقي إلى قيمة الحبر الّذي كتب بها،بل انّ الوضع يزداد تأزّما بعد كلّ قمّة تعقد. و هو ما يجعل البحث عن أطر جديدة و طرق مبتكرة لمعالجة القضايا المستحدثة الّتي يعيشها المسلمون أمرا منطقيّا و ملحّا، و كانت دعوة رئيس الوزراء الماليزي لعقد قمّة إسلامية مصغّرة في كوالالمبور أكثر من ضروريّة و قد استبشر بها من يسعون لخير الأمّة ،و قد يكون مصدر تفاؤلهم جدّية الطّرف المنظّم و رصيده فيما حقّقه من نجاحات في نهضة بلده ،دعوة لم تلق ترحيبا من قبل من يعتقدون أنّهم الأحقّ بزعامة المسلمين و التحدّث باسمهم و التّعبير عن تطلّعاتهم مع أنّهم سبب كبوتهم و أزمتهم. فالأمين العام لمنظمة التعاون الإسلامي يوسف العثيمن لم يخف امتعاضه من قمّة يراها تشقّ الصفّ و تضعف المسلمين،و بخمسة مليار دولار حاول وليّ العهد السّعودي بن سلمان و قرينه بن زايد إفشال التكتّل الإسلامي الواعد و أمكن لهما إثناء كلّ من باكستان و أندونيسيا عن المشاركة .
سعي محموم لإجهاض قمّة كوالالمبور الإسلامية المصغّرة في محاولة تخريبية جديدة لأيّ مجهود جدّي يخدم المسلمين، و المؤسف أن يترافق ذلك مع قلق صهيوني بالغ ممّا يجري .
و من المضحكات المبكيات أن يتّخذ البعض من حضور إيران عذرا و تقيّة مع أنّهم لا يمتنعون عن دعوتها في أيّ مؤتمر من مؤتمراتهم الكرنفالية. مخاوف معلنة و أخرى مبطنة من إمكانية سحب الزعامة الرمزية ” التاريخية” للسعودية و ربّما استباقا لدعوات جدّية لتدويل الحرمين بعد أن اختار القائمون على خدمتهما توظيفهما لمصالحهم و عروشهم و كروشهم و عزلوا أنفسهم مكتفين بتصدّر زعامة الرّقص و اللّهو و التفاهة و مطاردة المصلحين و أصحاب الرّأي المخالف و انحيازهم المفضوح ضدّ قضايا المسلمين حيثما وجدوا . قمّة واعدة: تعقد القمّة بالرغم من كلّ المحاولات المحمومة لإفشالها ليجتمع 18 ممثّلا يبحثون في قضايا الأمّة الإسلامية و يتباحثون في أسباب كبوتها لمحاولة توفير شروط نهضتها. اختارت القمّة”دور التّنمية في تحقيق الّسيادة الوطنية” لها عنوانا،لتتناول سبعة محاور أساسية و هي التّنمية و السّيادة،السّلام و الأمن والدّفاع، التّكنولوجيا و إدارة الانترنت، الثّقافة و الهويّة، العدالة و الحرّية و النّزاهة ، الحكم الرّشيد إلى جانب تدارس أسباب عدم القدرة على وضع حدّ للعدوان “الإسرائيلي” المتواصل على الشّعب الفلسطيني.
أمّا أهدافها المعلنة فهي الخروج بحلول قابلة للتحقّق لمشاكل العالم الإسلامي و تحسين العلاقات بين المسلمين شعوبا و دولا و تفعيل برامج للتّنمية المستدامة بما يمهّد لنهضة الأمّة و صحوتها حتّى تستعيد أمجادها و دورها الحضاري الفاعل.. هو مشروع نهضة و حجر أساس لتكتّل جديد بعد تكلّس و عجز الأطر القديمة المتواجدة و من المنتظر أن يشتدّ عوده و ينمو و يكبر.
و قد مُهّد للقمة بورقة عمل أعدّها أكثر من 450 عالما و مفكّرا من 52دولة تباحثوا خلالها عمليّة التّنمية و الحكم الرّشيد و استعادة أمجاد المسلمين، كما سبقها قمّة للشّباب خرجوا بأربعة مشاريع رياديّة في الاقتصاد و التعليم و ريادة الأعمال .
و من المنتظر أن توقّع اتّفاقيات عدّة في مجالات حيويّة أمنيّة و اقتصاديّة و ثقافيّة و تمّ وضع خطّة متكاملة لمواجهة حملة الاسلاموفوبيا المسعورة. قمّة واعدة جعلت الشّعوب الإسلامية تتوسّم فيها خيرا و تنتظر منها ما لم تنتظره من أخرى سابقة الّتي كانت لأخذ الصّور التذكارية و الضّحك على الذقون و المآدب الحافلة. . و الملاحظ أنّ الذين انزعجوا من انعقاد هذه القمة و سعوا بكل الطّرق لإفشالها هم نفسهم من تصدّوا لتطلّعات الشّعوب في الحرّية و الحياة الكريمة و هم من انتصبوا كحائط صدّ أمام تقدّمها و نهضتها .
تتوفر لدى من حضر قمة كوالالمبور تلك الإرادة التي تحدث عنها شاعرنا التّونسي: إذا الشعب يوما أراد الحياة ..فلا بد أن يستجيب القدر، لتحضر بالتزامن رغبة لدى الجانب المعطّل في العيش بين الحفر: و من لا يحبّ صعود الجبال..يعيش أبدا بين الحفر. صراع إرادات بين المتطلعين للنهوض و الصعود و بلوغ أعلى الدرجات و بين المستكينين المكتفين بالذلّ و بعض الفتات.