“قطّعوني إرباً ولن أبيع شبراً منها”.. فلسطين بين الماضي والحاضر!
إعداد خالد كريزم – الخليج أونلاين
“انصحوا الدكتور هرتزل بألَّا يتخذ خطوات جدية في هذا الموضوع، فإني لا أستطيع أن أتخلى عن شبر واحد من أرض فلسطين، فهي ليست ملك يميني؛ بل هي ملك الأمة الإسلامية”.
كانت هذه بداية الرسالة التي أرسلها السلطان عبد الحميد الثاني في عام 1901، رافضاً فيها بيع فلسطين، مقابل رشوة بقيمة خمسة ملايين ليرة ذهبية، عرضها الصهيوني ثيودور هرتزل لإيجاد موطئ قدم لليهود في فلسطين، وقد طرده السلطان من مجلسه.
وهرتزل صحفي يهودي نمساوي مجري، مؤسِّس الصهيونية السياسية المعاصرة؛ وُلد في بودابست وتُوفي بإدلاخ في النمسا، تلقَّى تعليماً يطابق روح التنوير الألماني اليهودي السائد في تلك الفترة.
وكتب عبد الحميد، لاحقاً، يقول لبعض الوسطاء: “لقد جاهد شعبي في سبيل هذه الأرض ورواها بدمه، فليحتفظ اليهود بملايينهم، وإذا مُزِّقت دولة الخلافة ذات يوم فإنهم يستطيعون أن يأخذوا فلسطين بلا ثمن، أما وأنا حيٌّ فإن عمل المبضع في بدني لأَهونُ عليَّ من أن أرى فلسطين قد بُترت من دولة الخلافة، وهذا أمر لن يكون.. إني لا أستطيع الموافقة على تشريح أجسادنا ونحن على قيد الحياة”.
كان الحادث المهم الذي أثار أوروبا ضد السلطان عبد الحميد هو رفضه إسكان وتوطين المهاجرين اليهود في فلسطين، فقد كانت أوروبا المسيحية تريد تصدير مشكلة اليهود التي تعانيها إلى الدولة العثمانية.
وكان أول اتصال بين هرتزل رئيس الجمعية الصهيونية، والسلطان عبد الحميد، بعد وساطة قام بها سفير النمسا في إسطنبول، في مايو 1901، وعرض هرتزل على السلطان توطين اليهود بفلسطين، وفي المقابل سيقدم اليهود في الحال عدة ملايين من الليرات العثمانية الذهبية هديةً ضخمةً للسلطان، وسيُقرضون الخزينة العثمانية مبلغ مليوني ليرة أخرى.
أدرك السلطان أن هرتزل يقدِّم له رشوة من أجل تأسيس وطن قومي لليهود في فلسطين، وبمجرد تحقيقهم أكثرية سكانية سيطالبون بالحكم الذاتي، مستندين إلى الدول الأوروبية.. فأخرجه السلطان من حضرته بصورة عنيفة.
– “تبخير فلسطين”
واليوم، وبعد أكثر من 118 عاماً، تقدِّم دول عربية وإسلامية تلك الرشوة وتدفع ذلك الثمن، ليس لإيقاف مخطط تصفية القضية الفلسطينية؛ بل لتمريره وإقراره، مقابل الدعم والنفوذ.
ومؤخراً، سطع نجم السعودية والإمارات والبحرين بهذا الملف، وتصدَّرت المشهد في الحديث عن “حق إسرائيل بالدفاع عن نفسها” وحقها في “إقامة وطن ودولة”، فضلاً عن لقاءات سرية تجمع مسؤولين إسرائيليين وعرباً من تلك الدول الثلاث، إلى جانب مصر.
بدأت تفاصيل مشروع محاولة “تبخير” فلسطين على يد الولايات المتحدة و”إسرائيل”، وبمباركة عربية تتزعمها تلك الدول التي ترتبط بعلاقات سرية وعلنية مع دولة الاحتلال.
وحملت دول خليجية القسم الأكبر من المسؤوليات المالية ضمن إطار ما تسمى “صفقة القرن”؛ حيث تشير البنود التي أعلنها جاريد كوشنر، صهر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، خلال افتتاح مؤتمر المنامة (الشق الاقتصادي من الصفقة)، في 25 يونيو الجاري، إلى أنه سيتم رصد مبلغ 50 مليار دولار على مدى 5 سنوات لـ”فلسطين الجديدة”.
ويعد الحضور السعودي والإماراتي والدعم البحريني لهذا المؤتمر تهديداً كبيراً للقضية الفلسطينية، وبداية طريق واضح للاتفاق مع “تل أبيب” وبناء دولة لهم تقوّض حقوق الفلسطينيين.
وتعتبر “صفقة القرن” مجموعة سياسات تعمل الإدارة الأمريكية الحالية على تطبيقها، رغم عدم الإعلان عنها، وهي تتطابق مع الرؤية اليمينية الإسرائيلية لحسم الصراع، وتهدف إلى حل القضية الفلسطينية والإقرار بسيادة “إسرائيل” على القدس والضفة الغربية.
– مراحل الاستيلاء
في 15 مايو 2019، مرت على أكثر من 12 مليون فلسطيني موزَّعين في بقاع مختلفة من العالم، الذكرى الـ71 لفقدان الفلسطينيين والعرب والمسلمين فلسطين عام 1948، بأرضها وبيوتها وزرعها وإرثها الثقافي كاملاً. لكن كيف كانت البداية؟
كان الــ15 من مايو عام 1948 يوماً استثنائياً بالنسبة للفلسطينيين والعرب عموماً؛ فقد شهد ثلاثة أحداث كبرى هي: زوال اسم فلسطين عن الخريطة السياسية والجغرافية، وقيام دولة “إسرائيل”، وبدء الحرب العربية-الإسرائيلية الأولى.
وفي حين استولت العصابات الصهيونية، وسط صمت عالمي متواطئ، على 78% من أرض فلسطين في تلك الفترة، استمر مشروع الاحتلال الإسرائيلي إلى ما بعد 15 مايو 1948.
فمع مرور الوقت، تغيّرت أساليب الاحتلال الإسرائيلي بالاستيلاء على ما تبقى من فلسطين؛ فاستمر عام 1967 باحتلال ما تبقى منها -الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس- وانتهاك حقوق أهلها واستباحة دمائهم، وفي المقابل استمر الكفاح المسلّح من الجانب الفلسطيني والنضال بأشكال عدة ضد الاحتلال.
وفي عام 1993، بعد إنشاء السلطة الفلسطينية واعتبارها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني وتوقيع اتفاقية “أوسلو”، استمر الاحتلال في محاولات الاستيلاء على الأرض الفلسطينية عن طريق فرض سياسة “الأمر الواقع” بالتوسع في الاستيطان بالضفة الغربية وشرقي القدس.
– كم تبقى منها؟!
في 13 مايو 2019، قال مركز الإحصاء الفلسطيني إن المتبقي من مساحة فلسطين التاريخية هو 15%، وبناءً على هذه المعطيات فإن “إسرائيل” تستغل أكثر من 85% من المساحة الكلية لفلسطين التاريخية (البالغة 27,000 كم2).
وقال المركز إن ما يزيد على مئة ألف استشهدوا دفاعاً عن الحق الفلسطيني منذ نكبة 1948، كما وثق نحو مليون حالة اعتقال منذ العام 1967.
وبلغ عدد المواقع الاستعمارية والقواعد العسكرية الإسرائيلية في نهاية العام 2017 في الضفة الغربية 435 موقعاً، منها 150 مستوطنة و116 بؤرة استيطانية يقيم فيها 653,621 مستوطناً، 47% من المستوطنين يسكنون في محافظة القدس حيث بلغ عـددهم نحو 306.529 مستوطناً منهم 225.335 مستوطناً في القدس.
وفيما يخص المواقف الرسمية والفصائلية من أي سبل حل، قال الرئيس الفلسطيني محمود عباس، من نيويورك، في 25 نوفمبر 2014: إننا “مستعدون للوصول إلى حل للصراع مع إسرائيل ينسجم مع القرارات والمبادرات الدولية على مساحة 22 في المئة فقط من أرض فلسطين التاريخية، وعاصمتها القدس المحتلة، وإيجاد حل عادل ومتفق عليه لقضية اللاجئين الفلسطينيين، وفقاً لقرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة”.
وردَّت حركة “حماس”، على لسان القيادي فيها محمود الزهار، على ذلك بالقول: “إن قبول الرئيس الفلسطيني بإقامة الدولة على 22% من مساحة فلسطين التاريخية يمثل تنازلاً عن مدينة القدس وأكنافها؛ كانوا يطالبون بدولة فلسطينية على حدود عام 1967، والآن يقولون: إنهم يقبلون بـ22% من الأرض!”.
ولا تقبل حركة حماس والفصائل الفلسطينية سوى بـ”فلسطين من البحر إلى النهر، ومن رفح حتى رأس الناقورة”.
– قضية القدس
وحدود فلسطين عام 1967 تمثل 22% من مساحة فلسطين التاريخية، ولا تشمل هذه المساحة القسم الغربي لمدينة القدس، إذ تطالب السلطة الفلسطينية بالقسم الشرقي فقط من المدينة عاصمة للدولة الفلسطينية، وهو الأمر الذي ترفضه حركة “حماس” وتؤكد ضرورة أن تكون المدينة المقدسة بالكامل عاصمةً لفلسطين.
وتشكِّل القدس “الكبرى” أو “الموسَّعة” (تسميات إسرائيلية) من حيث المساحة أضعاف مساحة ما يطلق عليه “القدس الشرقية”.
وللتعريف بالقدس وفق هذا المصطلح، تجدر الإشارة إلى تحولات واقع المدينة على امتداد عقود من الزمن.
فعقب حرب 1948 واتفاقية الهدنة الإسرائيلية-الأردنية في 3 أبريل 1949، توزعت أو تقسَّمت المساحة الكلية للقدس، التي بلغت آنذاك نحو 19331 دونماً، إلى ثلاث مناطق هي:
1. المنطقة الإسرائيلية: أو ما أُطلق عليه “القدس الغربية”، مساحتها 16261 دونماً، أي نحو 84.12% من مساحة القدس.
2. المنطقة العربية: أو ما أُطلق عليه “القدس الشرقية”، التي خضعت للحكم الأردني بعد توحيد الضفتين: الشرقية والغربية لنهر الأردن، ومساحتها 2220 دونماً، نحو 11.48%.
3ـ المنطقة الدولية: وهي منطقة منزوعة السلاح من القدس، وُضعت تحت سيطرة الأمم المتحدة، وتبلغ مساحتها 850 دونماً، أي نحو 4.39% من مساحة القدس.
وفي السابع من يونيو 1967 احتلت “إسرائيل” الجزء الشرقي من مدينة القدس وشكلت لها إدارة عسكرية، وبعدها بيوم واحد أقام حاخام جيش الاحتلال الإسرائيلي آنذاك شلومو غورين شعائر الصلاة اليهودية قرب الحائط الغربي للحرم القدسي الشريف، معلنا في ختامها “أن حلم الأجيال اليهودية قد تحقق.. فالقدس لليهود ولن يتراجعوا عنها وهي عاصمتهم الأبدية”.
وفي 30 يوليو 1980 صوت نواب الكنيست على قرار “قانون أساس.. القدس عاصمة إسرائيل” القاضي باعتبار مدينة القدس بشطريها عاصمة موحدة لإسرائيل ومقرا لرئاسة الدولة والحكومة والكنيست والمحكمة العليا. ويدعو القرار إلى اتخاذ الإجراءات التي من شأنها تنفيذ نصوصه.
وجاء في قرار الكنيست أن “القدس الموحدة كاملة هي عاصمة إسرائيل”، وأن “القدس مقر رئيس البلاد والكنيست والحكومة والمحكمة العليا”، وهو الأمر الذي لاقى رفضاً دولياً كاملاً.
غير أن الكونغرس الأمريكي انقلب على الموقف الدولي في 23 أكتوبر 1995 عندما أصدر قانوناً ينص على نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس ووجوب الاعتراف بـ”القدس عاصمة لدولة إسرائيل”.
ورغم أن الرؤساء الأمريكيين السابقين دأبوا على تأجيل تنفيذ قرار الكونغرس بحجة “حماية مصالح الأمن القومي”، فإن الرئيس دونالد ترامب أعلن في خطاب من البيت الأبيض في 6 ديسمبر 2017 الاعتراف بالقدس عاصمة موحدة لإسرائيل، وقال إنه وجّه أوامره إلى الخارجية الأمريكية للبدء بنقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس.
ومنذ ذلك الحين عملت إدارة ترامب جاهدة للبدء بحل قضية فلسطين، وكانت البداية الفعلية من دولة عربية هي البحرين!
(المصدر: الخليج أونلاين)