مقالاتمقالات مختارة

قضايا وإشكاليات حول كورونا بين العلم والدين

قضايا وإشكاليات حول كورونا بين العلم والدين

بقلم أحمد التلاوي

كما في كل موقف مماثل نشهد فيها ظاهرة على قدر من العموم في الانتشار والتأثير، تصاعدت حدة الجدل حول وباء “كوفيد 19” الذي تسبب فيه فيروس جديد من عائلة فيروسات الأنفلونزا، عُرِف بفيروس كورونا المستجد، بين أصحاب الاقتراب الديني ونظرائهم من أصحاب الاقتراب العلمي لتناول الأمر.

وبطبيعة الحال، كما هي عادة النقاشات في مجتمعاتنا العربية؛ فقد تبادل الطرفان الاتهامات، ما بين الدروشة وتغييب العقل والعلم، وبين العلمنة المفرِطة.

وفي حقيقة الأمر؛ فإن المسألة ليست بهذا التعقيد، فالموقف الذي يتعلق بالوباء، إنما هو موقف مختلط ما بين سياق علمي وطبي، وبين سياق مجتمعي وإنساني، وفي هذه المناطق المختلطة؛ فإن الطبيعة المتعددة، هي أساس الأمور.

أي أن التناول الأرشد والأجدر للوباء وما يرتبط به من تأثيرات، إنما ينبغي أن ينطلق من الطبيعة المتعددة هذه للموقف، بين الطب وعلم النفس وعلم الاجتماع، وغير ذلك.

وهنا نقف أمام منطق غريب من الذين ينفون الاقتراب الديني من المسألة؛ حيث الكثير منهم يعترفون بهذه الطبيعة المتنوعة للقضية، ربما بكل جوانب الموقف، إلا الجانب الديني؛ فهم لا ينكرون أهمية علم النفس في درء أثر العزلة والتباعد الاجتماعي وفقدان الأعمال وكذا، ضمن بوتقة النقاش الشامل الصحيح لموضوع كورونا، لكنهم يصابون بالكثير من “الأرتكاريا” والتحسس إذا ما جئنا بالجانب الديني، بالرغم من بداهة ذلك.

فعلى أبسط تقدير؛ فإن الجانب الديني مهم في النواحي النفسية هذه، وهذا ليس لدى المسلمين فحسب؛ حيث هو شديد الأهمية في المعالجات النفسية والتلقِّي السوي من جانب المؤمنين من أتباع كل الديانات، سواء المنزَّلة أو الوضعية.

والدين في جوهره، وفي معناه الشامل، لا ينفصل عن أي شيء في حياتنا في واقع الأمر، سواء آمن الناس بذلك أم لم يؤمنوا.

فالدين هو القواعد التي ارتضاها اللهُ تعالى لنا لكي نحيا بها، ونظَّم بها علاقاتنا في دوائرها المختلفة، بدءًا بعلاقتنا به هو سبحانه، وحتى علاقتنا بأنفسنا وبالكون من حولنا، وتصوراتنا عن الدنيا والخَلْق .
والله تعالى هو الخالق، وبالتالي؛ فإن أية قواعد حاكمة، سواء في مجال الطبيعة ومفرداتها، أو في المجال الإنساني؛ هي خلقٌ من خلقه، وهو واضعها.

ووفق هذه النظرة للأمور؛ فإنه حتى قوانين الفيزياء في أبسط صورها، هي خلق من خلق الله، وبالتالي؛ فحتى العلم المادي، هو مجرد أداة لاكتشاف القوانين التي خلق اللهُ تعالى الأشياء عليها . اكتشاف الإنسان لسرعة الضوء وقوانين الحركة، هي فهم بشري بأدوات معينة للقوانين التي وضعها اللهُ تعالى في الضوء وفي الحركة، وهكذا.

وبالتالي؛ فإنه ليس من قبيل “الدروشة” أو الجهل إطلاقًا أن نتناول الوباء وتطوراته وآثاره من وجهة نظري دينية.

والقرآن الكريم فيه الكثير من التوضيحات حول تساؤلات الحائرين بشأن كورونا المستجد، كسياق طبي علمي، وكسياق ديني.

وبداية؛ فإننا عندما نقول “سياق ديني”؛ فإننا نعني بذلك معانٍ عديدة، مثل العقاب أو الابتلاء أو اختبار الثقة والتسليم والإذعان من العبد لربِّه تبارك وتعالى، ولا نقصد العقاب فحسب؛ حيث هذه النقطة من أكثر الأمور التي تدور حولها الخلافات.

فلو أن البعض تكلم عن أن الفيروس وما ترتب على انتشاره الوبائي، وآثار ذلك العميقة، يأتي في إطار آيات اللهِ أو ابتلائه أو عقابه؛ فإنه في بعض المواضع من القرآن الكريم؛ نجد الكثير من العلامات التي تؤكد أن هذا الفهم للأمور، سليم ولا مشكلة فيه، بحيث يمكن أن نقول بكل ثقة واطمئنان، أنَّ اللهَ تعالى لو أراد أن يعاقب البشر على ظهور الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس؛ بصاعقةٍ من السماء، أو أراد إن يريهم آياته في خلقه؛ لألبس ذلك كله ثوب العلم.

والقضية منطقية في الكيفية التي يقوم بها اللهُ تعالى على إدارة شؤون الكون وتوجيه الدنيا. فهو سبحانه لو أوضَحَ لنا بما لا يدع مجالاً للشك، آياته وقدراته وعقابه؛ فأين الاختبار في الدنيا للإنسان والمخلوقات المُكَلَّفة الأخرى في مسألة الإيمان والتسليم والإذعان. لو فعل اللهُ تعالى ذلك؛ لانتفت حكمته من خلق الدنيا؛ حيث سوف يؤمن الناس، وهو حاشاه العبث أو النقصان في التدبير والحكمة.

ومن بين الآيات التي تقول بذلك بوضوح، قوله تعالى في سُورَة “الأنعام”: {وَقَالُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَّقُضِيَ الأَمْرُ ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ (8) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ(9)}.

وفي القرآن الكريم آيات كثيرة تتكلم عن إمهال الناس، وعن أن اللهَ تعالى شاء ألا تكون آياته في خلقه قاطعة بفكرة وجود رب وإله واحدٍ لهذا الكون، لا شريك له، لتحقيق سُنَنِه من خلق الدنيا، ولو فعل غير ذلك – كما قلنا – لانتفت الكثير من هذه السُّنَن التي يعجز عقلنا القاصر عن إدراك مثقال ذرَّةٍ منها.

في القرآن الكريم آيات كثيرة تتكلم عن إمهال الناس، وعن أن اللهَ تعالى شاء ألا تكون آياته في خلقه قاطعة بفكرة وجود رب وإله واحدٍ لهذا الكون، لا شريك له، لتحقيق سُنَنِه من خلق الدنيا، ولو فعل غير ذلك لانتفت الكثير من هذه السُّنَن التي يعجز عقلنا القاصر عن إدراك مثقال ذرَّةٍ منها

ولا يتضاد ذلك مع إهلاكه سبحانه للأمم الأولين بذنوبهم، مثل قوم عادٍ وثمود، فهؤلاء حقَّت عليهم الآيات والهَلَكَة بعد أن تجاوز بهم المدى والموقف، التوبة والإيمان لو رآوا الآيات، فحقَّ عليهم حكم اللهِ تعالى.

وهي سُنَّة توقفت قبل بعثة الرسول الكريم، محمد “صلَّى اللهُ عليه وسلَّم” بفترة، إفساحًا للمجال أمام الدعوة لدينه الخاتم، الإسلام، للانسياح بين الناس، وتحقيقًا لسُّنَّة أنه إنما محمدٌ “عليه الصلاة والسلام”، بُعِثَ رحمةً للعالمين، ثم سوف تعود سُنَّة إهلاك الأمم إلى الأرض بعد أن يشاء اللهُ تعالى ويرفع الإيمان من أهل الأرض في آخر الزمان.

وفي سُورة “يُونُس”، يقول تعالى: {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ (99) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ (100) قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ (101) فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِهِمْ قُلْ فَانتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ (102)}.

فهكذا ببساطة. لو ابتلانا اللهُ تعالى بذنوبنا فورًا، وبصورة واضحة؛ لآمن الناس كلهم أجمعون، وقلنا إن حكمته سبحانه شاءت غير ذلك، ولكنه يفعل ذلك بصورة مختلفة، تنبِّه الناس، وتدفعهم إلى التفكير فيما يفعلون لعلهم يرشدون.

لو ابتلانا اللهُ تعالى بذنوبنا فورًا، وبصورة واضحة؛ لآمن الناس كلهم أجمعون، وقلنا إن حكمته سبحانه شاءت غير ذلك، ولكنه يفعل ذلك بصورة مختلفة، تنبِّه الناس، وتدفعهم إلى التفكير فيما يفعلون لعلهم يرشدون

أما عن عدم تقدير البعض لسوء ما وصلت إليه الإنسانية بحيث تستحق ألف ألف كورونا كعقاب، وألف ألف وباء؛ لنرَ ما قاله اللهُ تعالى في كتابه العزيز: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَابَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} [النَّحل:61].

وكما قلنا في مواضع سابقة من الحديث؛ نحن لا نعلم عِظَم الأمانة الموكولة لنا، وبالتالي عِظَم التقصير في أداء حقِّها. يقول تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا} [الاحزاب:72].

وبالمثل؛ نحن لا نعلم قيمة العبادة التي نضيعها، وبالتالي؛ لا نقدِّر عِظَم ذلك الخطأ، ولا وطأة الذنب الفلاني.

ألم يقُل الرسول الكريم “صلَّى اللهُ عليه وسلَّم”، للسيدة عائشة (رَضِيَ اللهُ عنها): “لقد قلتِ كلمة لو مُزجت بماء البحر لمزجته” (أخرجه أبو داوود)، وذلك لمجرَّد أن السيدة عائشة قد أشارت إشارة يُفهَم منها أنها تسخر من أن أم المؤمنين صفية بنت حُيَي (رضي اللهُ عنها)، قصيرة القامة.

وللعلم. فإن اللهَ تعالى يجازي الإنسان على ذنوبه في حق الناس، قبل أن يجازيه على ما أتاه الإنسان المذنب في حقِّ اللهِ تعالى ؛ لأن اللهَ تعالى هو القوي العزيز، ولو اجتمعت الإنس والجن وسائر الخلق ما أضرُّوا اللهَ تعالى في شيء، ولكن الإنسان؛ هو مخلوق ضعيف لا يرى سنتمترًا واحدًا أبعد من مجال إبصاره، ولو خلفه بمترٍ واحد!

من هذه الزاوية كيف نرى العالم الآن؟!.. سرقة حقوق، وعقوق، وقتل وتشريد واحتكارات (تقتل بدورها) واستغلال. بل إن العالم لا تزال فيه العبودية، سواء الصريحة الواضحة، أو في صورة عقود الإذعان الرأسمالية، في الوقت الذي يطنطنون فيه أمام الكاميرات والميكروفونات، بأننا في عصر حقوق الإنسان!

ومن القراءات الأخرى ذات الاقتراب الديني لموضوع كورونا بعيدًا عن قضية العقاب أو الابتلاء، ما رأيناه من أثر طغيان الثقافة الاستهلاكية في أوقات الرفاه على مناعة الناس المالية والنفسية في أوقات أزمة طاغية مثل هذه.
هنا نقول ألم تكن من وصايا عمر بن الخطَّاب (رضيَ اللهُ عنه)، أنْ قال: “اخشَوْشِنُوا؛ فإنَّ النعمةَ لا تدوم”.

هي عبارة وجيزة، لكنها تعكس حكمةً وفهمًا عميقَيْن للدنيا وتقلباتها، وواجبات الإنسان إزاء نفسه وحفظًا لكرامته. وصيةٌ لو التزم بها الناس؛ لوَقَوْا أنفسهم شرَّ ذُلِّ الحاجة، وقذارة هيمنة أصحاب رؤوس الأموال، وتفادوا مذلَّات أوقات الفقر والفاقة والأوبئة والحصار.

وفيها أن تتعلَّم الزهد في الدنيا، لأنها بدورها زائلة ومؤقتة، وغادرةٌ غير مأمونة، لكي نحفظ كرامتنا، وما أهان الناس وانحطَّ بقيمتهم كآدميين؛ إلا أنهم تحولوا إلى عبيدٍ للدنيا، ولشهواتها الزائلة.

رحم اللهُ عمرًا، وصدق اللهُ العظيم إذ قال عن الدنيا: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد:20].

نعم. كورونا المستجد وباء، له جوانبه الطبية والعلمية في المجالات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ولكن من ناحيةٍ أخرى، بالتأكيد هو ابتلاء واختبار للبعض، وعقاب للبعض الآخر بما كسبته أيدينا ونوايانا، ولعلنا نستفيق ونرجع؛ لا يتعارض الأمران.. يقول تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَمَا هِيَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْبَشَرِ} [المُدَّثِّر:31].

(المصدر: موقع بصائر)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى