مقالاتمقالات مختارة

قضايا وإشكالات في فهم الإسلام عند الحركيين المعاصرين

بقلم أحمد التلاوي

ضمن استحقاقات قضية يراها الكثير من العلماء والمفكرين في هذه المرحلة، هي من أهم الأولويات أمام الحركة الإسلامية، والمشروع الإسلامي برمته، وهي قضية تصويب المفاهيم والتصورات العامة حول الدين، وحول دور المسلم في هذه الحياة، وكيف يقوم به، حيث أكبر الجبهات التي ينال منها خصوم الدين والحضارة الإسلامية، ضمن ذلك، تبرز مجموعة من الإشكاليات المتعلقة بفهم الإسلام وقواعده ومتطلباته وما يرسيه من أمور في المجالات السياسية والاجتماعية، عند الكثير من الحركيين المعاصرين.

وتتصل هذه القضية بوضع أصحاب هذه النظرة الخاطئة الإسلام في إطار خاطئ مخالف لطبيعته، أو على أقل تقدير، هو فهم مجتزأ للدين، حيث يضعونه في سياق (صراعي/ تعبوي)، يقوم على أساس نظرة ثنائية قاصرة للإنسانية، يفندها القرآن الكريم، من أنها إما دار إيمان وسلم أو دار كفر وحرب.

أَوْجَبَتْ هذه النظرة على أصحابها، خوض صراع دائم ضد العالم كله تقريبًا، مع إظهار سَمْتٍ معين لـ”المجتمع الإسلامي” مجازًا، حيث المقصِد المجتمعات التي تؤسسها حركات وتنظيمات تنسب نفسها للدين وللمشروع الإسلامي، وتقول بأن هذه هي الصورة البيوريتانية للمجتمع المسلم -قاد إلى إسناد غير مسبوق لحملات التشويه والصورة الذهنية الملوثة التي تصدرها الحكومات والأنظمة والجماعات المعارضة والمعادية للمشروع الإسلامي الحقيقي، سواء في عالمنا العربي والإسلامي، أو على مستوى العالم.

وفي حقيقة الأمر، فإنه من البساطة بمكان، إثبات أن هذه الرؤية في مجملها العام، تخالف أبسط قواعد الدين الحنيف.

وأول الأدلة العقلية على ذلك، هو النمط الذي أسسته الدول الإسلامية المتعاقبة لصورة الحياة في مجتمع مسلم، وفي صورة العلاقات مع الآخر، سواء في المجتمع المسلم ذاته، أو في المجتمعات الأخرى خارج نطاق الدولة الإسلامية.

وفي هذا المجال هناك شيء خطير يتم في موضوع تصنيف المجتمعات، حيث في الإسلام الأمر لا يقف إطلاقًا، ووفق النص القرآني الكريم عند حد التصنيف الثنائي، ديار إسلام وسِلم، وديار كفر وحرب. فقد تكون هناك ديار إسلام ولكن هناك حالة من اللاسلم، كما في سُورة “الحُجُرات”، يقول الله تعالى: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9)}.

في المقابل، فإن ديار الكفر لا تعني ديار الحرب، حيث لم ينهنا اللهُ تعالى عن البر والقسط مع غير المسلمين، من المسالمين والمعاهدين وغيرهم من الفئات غير الحربية، وسمح لنا الله تعالى بإقامة المعاهدات مع المجتمعات غير المسلمة، وأوجب علينا الوفاء بها.

ديار الكفر لا تعني ديار الحرب، حيث لم ينهنا اللهُ تعالى عن البر والقسط مع غير المسلمين، من المسالمين والمعاهدين وغيرهم من الفئات غير الحربية، وسمح لنا الله تعالى بإقامة المعاهدات مع المجتمعات غير المسلمة، وأوجب علينا الوفاء بها

وعندما نقول “المجتمعات”، فإن الأمر صنو الدول بالمعنى السياسي المعاصِر.

وسورتا “النساء” و”الأنفال” بها ثلاث آيات تبرز ذلك، وفي آية “الأنفال” على وجه الخصوص. القرآن الكريم يشير إلى جواز “تعدد” المجتمعات المسلمة، حيث لا فريضة بشأن “دولة إسلام واحدة”، وكذلك حفظت الآية للمجتمعات -الدول بالمعنى المعاصِر- غير المسلمة حقوقها على دولة الإسلام، حتى على حساب مجتمع مسلم آخر.

يقول تعالى في الآية (72) من هذه السُّورة: {وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}.
ولكن، وبالصورة التي يتداولها البعض في الوقت الراهن، فإن ذلك يعني خروج غالبية المسلمين وحُكَّام دولهم عبر التاريخ عن الإسلام.

الأمر الآخر المهم هنا، هو أن الإسلام لم ينزل بدعًا مما سبقه من الرسالات السماوية. يقول الله تعالى: {قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنْ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ}[سُورة “الأحقاف”، الآية: 9]، ونزل الإسلام متمِّمًا لما قبله من رسالات، فالرسول الكريم “صلَّى اللهُ عليه وسلَّم” يقول: (إنما مثلي ومثل الأنبياء قبْلي كمثل رجل بنى بناء فأحسنه وأكمله وأجمله إلا موضع لبنة فجعل الناس يطيفون به فيقولون: ما رأينا بناء أحسن من هذا إلا موضع هذه اللبنة ألا وكنت أنا تلك اللبنة” [أخرجه “البُخاري” و”مسلم”].

وهذه الرسالات، أسست بدورها مجتمعات وكيانات لها وزنها التاريخي، وكانت مسلمة بنص القرآن الكريم، قبل تحريف بعض أتباعها لدين الله تعالى الذي نزل عليها، مثل مملكة إسرائيل الموحدة التي قادها نبي الله داوود وابنه نبي الله سليمان “عليهما السلام”، ودامت حوالي سبعة عقود.

وكانت هذه الدول تقيم بدورها هذه الصورة السوية من المجتمعات، سوية في شكلها، العمران كما نعرفه، وفي علاقاتها مع المجتمعات الأخرى غير المسلمة.

فإذًا، الإسلام لم ينزل لكي يقيم لأتباعه معسكرًا كبيرًا، وأبديًّا، حيث الإسلام دين عمران وحضارة، واستطاع بناء أنظمة اجتماعية واقتصادية وسياسية صمدت مئات السنين، ولفترات تفوق الكثير من الحضارات الغربية.

كما أن الإسلام يدعو إلى الحفاظ على الحياة، وعلى العمران، وعلى إقامة العلاقات مع الآخر غير المسلم. يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [سُورة “الحُجُرات”، الآية: 13].

و ما شُرِع الجهاد في الإسلام إلا لردع الأعداء، وأخذ الحقوق  . وهذا ثابت في السيرة النبوية، والتي هي دليل شرعي أكيد؛ لأنها تدخل في السُّنَّة النبوية، والتي هي المصدر الوحيد الملزِم للمسلم مع القرآن الكريم.

فليس هناك غزوة واحدة للنبي “صلَّى اللهُ عليه وسلَّم”، إلا لرد عدوان أو إرجاع حق.

ولما دعا النبي “صلَّى اللهً عليه وسلَّم” للغزو والدعوة إلى الله تعالى، وضع شروطًا لا ينبغي تجاوزها تحفظ العمران والحياة، وتحفظ على الآخر كرامته ودينه وماله وعرضه وكل مقاصد الشريعة، ومتى لم تتوافر هذه الشروط، وفق كُلِّيَّة فقهية معروفة وبمثابة البديهية، فلا مجال لأي غزو أو فتح.

كذلك لا مجال في الإسلام لقتل أو معاداة الآخر لأي سبب يخص أنه “آخر”، فلو هاجمني مسلمٌ أو غير مسلم، لا يختلف الأمر في وجوب رد عدوانه  .

والمسلم غير مأمور بمهاجمة غير المسلمين لمجرد أنهم “غير مسلمين”.

الأمر الآخر المهم هنا، أن البعض نسي أو ربما تناسى أنه لا توجد الآن شرعية جامعة للمسلمين، وبالتالي، فلا يملك أي أحد أن يتحدث باسم المسلمين، أو باسم “الجماعة المسلمة”   ، لكننا نجد الآن أن هناك الكثيرين يقتلون المسلمين؛ لأنهم “مرتدون، وخارجون عن الجماعة”، بينما في الحقيقة هم يقتلونهم؛ لأنهم خارجون “عنهم”، لا عن الدين! وهؤلاء ما يفعلون ما يفعلونه إلا لمشروعات سياسية خارجية تم توظيفهم لها من جانب أعداء الأمة، أو أمور تخصهم، لا تخص الجماعة المسلمة وعموم المسلمين.

نجد الآن أن هناك الكثيرين يقتلون المسلمين؛ لأنهم “مرتدون، وخارجون عن الجماعة”، بينما في الحقيقة هم يقتلونهم؛ لأنهم خارجون “عنهم”، لا عن الدين

نقطة أخرى مهمة هنا، وهي أن الإسلام نزل شديد العمومية في أحكامه؛ لكي يحقق مُراد الله تعالى في أن يكون صالحًا لكل زمان ومكان، وبالتالي، فهو لم يفرض أي شكل من أشكال العمران وصياغة المجتمعات على النحو الذي نراه من البعض حاليًا.

فهذا البعض فرض نمط “الإمارة الإسلامية” وفق ما يراه، وحرَّم الدولة القومية بالمطلق، بينما هذا أمر غير سليم، وغير شرعي، فعلى أبسط تقدير هو يخالف قاعدة كُلِّيَّة مهمة، وهي أنه “لا ضرر ولا ضرار”، بينما في تثبيتهم لهذه الرؤية كبير ضرر على مئات الملايين من المسلمين، وعلى مصالحهم التي نزلت الشريعة لحفظها، بينما النبي الكريم “صلَّى اللهُ عليه وسلَّم” -مرجعيتنا كمسلمين- عندما هاجر إلى المدينة المنوَّرة، احترم البنيان الأساسي للمجتمع وشكله، وهو القبيلة، والتي تطورت وصارت هي الدولة الآن.

هذا نجده في القرآن الكريم وسُنَّة النبي “صلَّى اللهُ عليه وسلَّم”، وخلاف ذلك ليس من الإسلام في أي شيء وباطل.

وفي حقيقة الأمر، فإن الحديث يطول في مجال إبراز خطر ما يقوم به هؤلاء، ومدى تهافته، وتتبعه هو واجب الوقت في ظل حرب شاملة على الدين ذاته.

(المصدر: موقع بصائر)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى