قصة موسى – عليه السلام – في سورة الزخرف.. عظات موجزة وعبر بليغة
بقلم د. علي محمد الصلابي (خاص بالمنتدى)
جاءت قصة موسى مع فرعون في سورة الزخرف والتي ذكر فيها قصص بعض الأنبياء من أولي العزم كإبراهيم الخليل وموسى وعيسى عليهم السلام ليعتبر الناس بها ويتعظوا بأحداثها ونتائجها، وفيما يتعلق بموسى عليه السلام بدأت السورة بإرسال موسى عليه السلام إلى فرعون وملئه وقوله لهم ﴿إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ وحينما يجيئهم بالآيات فإنهم يفاجئونه بضحكهم وسخريتهم منها وهزئهم بها؛ مع أن الآيات التي جاء بها موسى عليه الصلاة والسلام كانت كل واحدة منها كافية لإيمانهم، فليس هناك آية إلا وهي أكبر من أختها؛ لأن في كل آية ميزة لا توجد في غيرها وقد أخذوا بالعذاب عليهم يرجعون عن غيهم الذي هم فيه سادرون، ولما رأوا العذاب قد أحاط بهم هرعوا لموسى -عليه الصلاة والسلام- قائلين له ﴿يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ﴾ ومناداتهم له بهذا الوصف قد يكون وصفاً له بالعلم والمهارة، فلم يكن السحر صفة نقص عندهم هذا ما قاله بعض المفسرين، ولكن الذي نرجحه أنهم إنما نادوه بذلك لأنهم كانوا عازمين على عدم الإيمان في قلوبهم، ونستأنس لهذا بقولهم ﴿ادْعُ لَنَا رَبَّكَ﴾ ولو كان إيمانهم صادقاً لقالوا “ربنا”، سألوه أن يدعو لهم ربه بما عهد عنده من إجابة الدعوة أن يكشف عنهم الرجس حتى يهتدوا ولكنهم -وقد كشف عنهم الرجس- نكثوا ولم يؤمنوا.
وتحدثنا الآيات بعد ذلك عن غرور فرعون واعتداده بنفسه، وهم حديث لا نجده إلا في سورة الزخرف، فها هو ينادي في قومه: أليس في ملك مصر، وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون ذلك أن تبصرونه؟ ثم يبين اعتداده بنفسه وسخريته بموسى عليه الصلاة والسلام بقوله: ﴿أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ﴾ فهو لا يملك شيئاً من أسباب القوة وعلامات الملك فضلاً على أنه لا يحسن الإبانة في قوله، ولو كان موسى عليه السلام صادقاً فهلا ألقيت عليه أسورة من ذهب، أو جاءت معه الملائكة مصدقة له؟ ولكن شيئاً لم يكن لهم، نجد شيئاً من أسباب النعمة ظاهراً عليه، ولم يجيء أحد من الملائكة يصدقه فيما يقول، وهكذا استخف فرعون قومه، استخف عقولهم فلعب بها، وهذا شأن كل رعية ضعيفة ومن هنا كان من أهل النار، كما أخبر الرسول ﷺ في الحديث الذي أخرجه الإمام مسلم: الضعيف الذي لا زَبرَ له -أي لا عقل- الذين هم فيكم تبعاً لا يبتغون أهلاً ولا مالاً.
هكذا كان قوم فرعون، وهذا ما يجعل الشعوب تنحدر فتستمرئ الذل، ومرجع ذلك كله: الفسق والخروج عن منهج الله، فلما أغضبوا الله تبارك وتعالي انتقم منهم، وجعلهم قدوة لمن بعدهم من أهل الضلال، كما جعلهم مثلاً يمكن أن يتعظ به الآخرون، هذا ما جاء في سورة الزخرف وهو إن تدبرناه نجده يتسم بالجدة في كل جزيئاته. (قصص القرآن الكريم، فضل حسن عباس، ص٥٤٩)
وقد جاء الحديث عن موسى وصراعه مع فرعون في سياق تسلية الرسول ﷺ عما يعترض به المعترضون من كبراء قومه على اختياره واعتزازهم بالقيم الباطلة لغرض هذه الحياة الدنيا، وقد بينت سورة الزخرف اعتزاز فرعون بمثل ما يعتز به من يقولون: ﴿لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ﴾، وتباهيه بما له من ملك من سلطان وتساؤله في فخر وخيلاء: ﴿أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾، وانتفاخه على موسى -عبد الله ورسوله- وهو مجرد من الجاه الأرضي والعرض الدنيوي ﴿أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ﴾، واقتراحه الذي يشبه ما يقترحه: ﴿فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ﴾ وكأنما هي نسخة تكرار أو أسطوانة تعاد.
ثم يبين كيف استجابت لفرعون الجماهير المستخفة المخدوعة على الرغم من الخوارق التي عرضها عليهم موسى عليه السلام، وعلى الرغم مما أصابهم من ابتلاءات واستغاثتهم بموسى ليدعو ربه فيكشف عنهم البلاء، ثم كيف كانت العاقبة بعدما ألزمهم الله الحجة بالتبليغ: ﴿فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (٥٥) فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ (٥٦)﴾، وها هم أولاء الآخرون لا يعتبرون ولا يتذكرون، ومن خلال هذه الحلقة تتجلى وحدة الرسالة، ووحدة المنهج ووحدة الطريق كما تتبدى طبيعة الكبراء والطغاة في استقبال دعوة الحق، واعتزازهم بالتافه الزهيد من عرض هذه الأرض، وطبيعة الجماهير التي يستخفها الكبراء والطغاة على مدار القرون. (في ظلال القرآن، ٥/٣١٩٢)
استفاد المقال مادته من كتاب: ” موسى – عليه السلام – كليم الله “، للدكتور علي محمد الصلابي.
المراجع:
- قصص القرآن الكريم، فضل حسن عباس.
- في ظلال القرآن، سيد قطب.
- موسى عليه السلام كليم الله عدو المستكبرين وقائد المستضعفين، د. علي محمد الصلابي، دار ابن كثير، الطبعة الأولى، 2020م.