إعداد علي طه
عُرفتْ دمشق عبر التاريخ بأنها مركز مهم لانطلاق التصوف للمناطق المجاورة، ففيها عاش ومات الزعيم الروحي لصوفية الشام ابن عربي الطائي، وتعددت وتنوعت الطرق الصوفية من شمال إلى جنوب سورية، فظهرت الجماعات الشاذلية، والقادرية، والخزنوية، والرفاعية، والنقشبندية، وغيرها، إضافة إلى عدد من الطرق الأخرى الصغيرة متفرقةً في مناطق سورية، وعلى حين تنتشر الطرق الصوفية بين الاكراد والتركمان في الشمال السوري نراها تتراجع بين السكان العرب في الجنوب.
إن أشهر شيوخ الطرق الصوفية في دمشق ينحدرون من أصول كردية، وقد قويت وزادت شوكة هذه الطرق في سورية بعد وثوب حزب البعث إلى السلطة عام 1964م حيث استبعد الشيخ حسن حبنكة الميداني، الذي كان المرشح الأقوى لمنصب المفتي حينها، واختير للمنصب الصوفي الملقب بـ(العارف بالله) أحمد كفتارو، الذي ينحدر من أصول كردية، مفتياً عاماً للجمهورية، ورَأَسَ مجلس الإفتاء الأعلى في سورية حتى وفاته في عام 2004م.
بدأ الموسم الذهبي للصوفية في سورية باستحواذ حافظ الأسد على السلطة عام 1971م، فقوي التيار الصوفي، وحظي المفتي العام للجمهورية أحمد كفتارو بامتيازات كثيرة مكنته من إقصاء كل توجه إسلامي آخر.
وبعد أحداث الثمانينات وما حصل خلالها من صراع بين تنظيم الإخوان والنظام عمد الأخير إلى تغيير سياسته تجاه دَور الإسلام في الحياة العامة، متجهاً نحو علاقات استيعابية بدلاً من التدابير العلمانية العدوانية، فعمل على رعاية النمط الصوفي، وجرى كبت كل ما يخالفها من تيارات دينية، حتى لو لم تكن إخوانية، ولو كانت تميل إلى الوفاق أو عدم الصدام مع النظام البعثي، وأحكمت عائلة الأسد الخناق على كل توجه سني ليس صوفياً، بقبضة من حديد، فبعد عام 1982م وما أعقبه من أحداث دامية في سورية عمد النظام إلى إقامة تحالف رسمي مع الجهاز الديني الصوفي، وعمل على نشر الفكر الصوفي، وكان لأحمد كفتارو شيخ الطريقة الكفتارية – وهي أحد فروع الطريقة النقشبندية الصوفية في سورية – دور كبير في تطويع الجهات الصوفية لتعمل لمصلحة النظام، وجنّد كل جهود المؤسسات التي يديرها في سورية من خلال جهات الافتاء ومعاهد حافظ الأسد لتعليم القران الكريم ومجمع أبي النور الصوفي الذي يشرف عليه.
وتعاون كفتارو مع المجمعات الدينية الأخرى المنتشرة في دمشق وحلب وحمص وغيرها من أجل تهجينها لتقديم خطاب وعظي صوفي يتركز في أخلاق الفرد وإضفاء الشرعية على النظام البعثي في سورية، وكان لشيوخ دمشق وحلب وحمص من الصوفية الدور الكبير في تخفيف حدة الغضب الدمشقي تجاه دعوات شقيق الرئيس رفعت الأسد لنزع الحجاب في المدارس والجامعات، وقد نجحوا في ذلك عبر توجيه خطاب ديني تخديري، وجرى إقناع كثير من الناس بضرورة ما يقوم به النظام من خطوات للعلمنة في تلك المرحلة، وقد نجح النظام بشكل كبير في دمج عدد كبير منهم في المنظومة الأمنية الدينية التي عملت على تهميش كل من لا ينتمي إلى التيار الصوفي في الجهاز الديني الرسمي، ومن أشهر من تم إقصائهم وتهميشهم من مشاهير علماء دمشق الشيخ والمحدث المعروف عبد القادر الأرناؤوط السلفي التوجه والشيخ حسن حبنكة الميداني، وعمل مشايخ الصوفية يداً بيد إلى جانب النظام السوري، معتقدين أنهم يمارسون الواقعية السياسية وفق المنطق العامي الذي كانوا يرددونه، وهم يقولون: (اليد التي لا تستطيع أن تقطعها بوسها وادعو عليها بالكسر)، أو يقولون: (وإنا لنبش في وجوه أقوام وقلوبنا تلعنهم)!
بعد عام 1990م تطور الحلف الصوفي البعثي، عبر ارتباط مباشر بين رجال الدين وأجهزة الاستخبارات؛ فتحول بذلك رجل الدين الصوفي إلى مُخبر، بشكل أو بآخر، وقد اشتهر مفتي دمشق محمد عيد الباري بامتلاكه سيارة خاصة تابعة لجهاز أمن الدولة÷ وحمله سلاحاً شخصياً يرافقه أينما ذهب، والقصة نفسها تنطبق على محمود عكام في حلب ومثله صهيب الشامي وغيرهم.
إن الباحث الدكتور عبدالغني عماد يرى أن الجماعات الصوفية في سورية سيطرت على مقاليد الجهاز الديني في البلاد عقب أحداث حماة وما شكّلته من إعادة رسم للخريطة السياسية الدينية في الثمانينيات؛ واحتضان الحكومة للتدين الصوفي، الذي يسعى إلى نشر التدّين الشعبي الصامت بعيداً عن السياسة أو ميول العمل الجماعي العام؛ فبرزت مع هذا التوجه جماعات كبيرة تتمثل في جماعة أبو النور (وهم الكفتاريون)، والتيار الذي كان يمثله الشيخ رمضان البوطي، والجماعة الصوفية النسوية البارزة والناشطة والمعروفة باسم (القبيسيات).
إلى ذلك، يصف الدكتور محمد حبش زوج ابنة مفتي سورية الراحل أحمد كفتارو حال الجهاز الديني في سورية الذي يسيطر عليه الصوفية بشكل كامل بأنهم: (مجموعة موظفين يؤدون ما يطلبه منهم النظام السوري دون تردد)، ويؤكد أن (النظام السوري يعد مشايخ الصوفية في سورية الدين جزءاً لا يتجزأ من أجهزة تثبيت أركان حكمه وتشريع سياساته، فلا مكان في سورية لتوجه ديني خارج سلطة النظام، ومعظم المشايخ في سورية يمارسون ثقافة الحكمة والمداراة)، ويقول: إن هذا أسلوب برع فيه أحمد كفتارو الذي أسس موقفه على أساس أن (العين ما تقاوم المخرز)، وأن (الحكمة فعل ما ينبغي في الوقت الذي ينبغي على الشكل الذي ينبغي)، وأن (علينا أن نداري هذا النظام ما استطعنا لحماية العمل الإسلامي الذي نؤسسه، ولا بد من دفع زكاة الثناء والمديح للرئيس حتى تسلم المؤسسة)!
إن هذه السياسة التي ابتدعها كفتارو وسار عليها فيما بعد علماء الصوفية ومشايخها في الشام تطورت بشكل سلبي لتصل إلى درجة أن يتبارى كبار رموزهم على طلب الولاء للنظام والوفاء لقائد الوطن ومحاربة خصومه، وهو أمر انتهى بشيخ كبير مثل رمضان البوطي إلى مطالبة جيش بشار الأسد الذي يشبهه في الاستقامة والفداء مرتبة الصحابة الكرام! بأن يضرب بيد من حديد، كل من سماهم: (الحثالات والخونة) الذين تدعمهم (الوهابية) كما يقول! لماذا؟ وجوابه هو: (حتى ندافع عن الإسلام الحقيقي في سورية بقيادة الأسد الذي يقوم بريادة العالم الإسلامي ومواجهة المتطرفين ودعم الاعتدال والوسطية)!
أما مؤيديه (الشبيحة) أشبه الرجال بالمفتي أحمد حسون الذي قدم كل شيء للنظام ليتقلد منصب الافتاء العام في سورية فقد دعا بعد عام 2011م علانية الشبّان إلى التطوع والقتال إلى جانب جيش بشار الأسد الذي يرى فيه علناً أنه (أشبه الجيوش بجيش الرسول)، وأن (عناصر الجيش وصحابة رسول الله)! ويحلف على ذلك أمام الإعلام، ويشير إلى حزنه وأساه لأنه لا يشاركهم ملاحم البطولة التي يمارسون في قتال المجرمين والإرهابيين! والمقصود طبعاً هو هذا الشعب الثائر!
ولم يكتف حسون بذلك، فقد مد يده جهاراً للمحتل الايراني والروسي وقال علانية: (إن الجيش الروسي جيش مقدس)، لأنه بزعمه يقاتل الارهاب في سورية نيابة عن العالم كله، أما خطيب المسجد الأموي مأمون رحمة فقد أضحت خطبه مجالاً للتندر لما فيها من الشطحات والمهازل، كدعوته من فاته الحج، والوقوف بجبل عرفات هذا العام والأعوام السابقة من المسلمين والعرب والسوريين إلى الوقوف على جبل قاسيون! وقال مأمون رحمة في خطبة له: (إن التدخل الروسي في سورية مشروع)! ووصف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالقائد الفذ والعملاق والمحبوب!
(المصدر: المثقف الجديد)