تتنوَّع قرائن الجمع بين الأحاديث المتعارضة، ومما استخدمه الإمام الخطابي من قرائنَ في الجمع بين ما درسه من الأحاديث المتعارضة في كتابه “معالم السُّنَن” ما يلي:
أ- الجمع بين الأخبار باعتبار حقيقة اللفظ.
من قرائن الجمع بين الأحاديث المتعارضة: النظر في حقيقة اللفظ ومدى تطابقها مع نص الحديث ومعناه العام، فلكل لفظ حقيقة، إما أن تكون شرعية أو لغوية أو عرفية، فنجد الإمام الخطابي رحمه الله يجمع بين الأحاديث المتعارضة بالنظر إلى حقيقة اللفظ، ومن ذلك قوله – رحمه الله -: “هذا ليس بمخالف للأخبار التي جاءت في أخذ اللقطة؛ وذلك أن اسم الضالة لا يقع على الدراهم والدنانير، والمتاع ونحوها، وإنما الضالة اسم الحيوان التي تضل عن صاحبها؛ كالإبل والبقر والطير وما في معناها”[1].
وقال – رحمه الله -: “وتأولوا حيث رافع بن خديج على أنه إنما أراد بالإصباح والإسفار أن يصليها بعد الفجر الثاني، وجعلوا مخرج الكلام فيه على مذهب مطابقة اللفظ اللفظ”[2].
ب- الجمع باحتمال تكرار الفعل.
فمن أجل الحذر مِن رد السنة وإسقاط الأحاديث، يلجأ العلماء حين لا يجدون قرينة للجمع بين الروايات إلى القول بتعدد الواقعة، فالجمع بهذا عندهم أولى من الترجيح؛ لما يترتب عليه من توهين الأخبار، وتغليط الحفاظ الثقات، وبالتالي يكون لكل واقعة حكمها، قال رحمه الله في حديث الجهر بالقراءة في صلاة الكسوف: “وقد يحتمل أن يكون قد جهر مرة، وخفت أخرى، وكل جائز”[3].
ت- الجمع بين الروايات باعتبار اختلاف الأحوال.
فحين يتعارض حديثان بحكمين مختلفين في شيء واحد، فيجمع بينهما بتنزيل كل واحد منهما على حال غير حال الآخر، فيرتفع التعارض بين الحكمين المختلفين؛ لاختلاف موضع كل واحد منهما، ويعمل بالحديثين كل في موضعه[4]، قال رحمه الله في اختلاف الروايات في صلاة الكسوف: “وقد اختلفت الروايات في هذا الباب….ويشبه أن يكون المعنى في ذلك أنه صلاها مرات وكرات، فكانت إذا طالت مدة الكسوف مد في صلاته وزاد في عدد الركوع، وإذا قصرت نقص من ذلك وحذا بالصلاة حذوها، وكل ذلك جائز؛ أن يصلي على حسب الحال ومقدار الحاجة فيه”[5].
ومثل قوله في الاختلاف الحادث من تعارض النهي والإباحة في الاستلقاء على الظهر في المسجد: “يشبه أن يكون إنما نهى عن ذلك من أجل انكشاف العورة؛ إذ كان لباسهم الأُزُر دون السراويلات، والغالب أن أُزُرهم غير سابغة، والمستلقي إذا رفع إحدى رجليه على الأخرى مع ضيق الإزار لم يسلم أن ينكشف شيء من فخذه، والفخذ عورة، فأما إذا كان الإزار سابغًا أو كان لابسه عن التكشف متوقيًا فلا بأس به، وهو وجه الجمع بين الخبرين، والله أعلم”[6].
ث- الجمع بتخصيص العام.
فعند ورود حديثين في أمر واحد أحدهما عام والآخر خاص، فيجمع بينهما بحمل العام على الخاص؛ أي: بتخصيص العام، فيعمل بكلا الحديثين، فيعمل بالخاص فيما تناوله، والعام فيما تناوله، ما عدا الحالة التي ورد فيها التخصيص[7].
قال – رحمه الله -: “ويشبه أن يكون معناه – لو ثبت – أنه نهاه أن يتخذ أرض باب وطنًا ودارًا للإقامة؛ فتكون صلاته فيها إذا كانت إقامته بها، ومخرج النهي فيه على الخصوص”[8].
وقد يأتي الخاص لتأكيد أمر في شيء عام، فلا تعارض حينئذٍ، قال رحمه الله في حديث النعمان بن بشير في تعداد الأصناف التي يكون منها الخمر، وفي حديث أبي هريرة الذي خص الخمر من النخلة والعنبة: “هذا غير مخالف لما تقدم ذكره من حديث النعمان بن بشير، وإنما وجهه ومعناه أن معظم ما يتخذ من الخمر إنما هو من النخلة والعنبة، وإن كانت الخمر وقتئذ تتخذ أيضًا من غيرهما، وإنما هو من باب التأكيد لتحريم ما يتخذ من هاتين الشجرتين لضراوته وشدة سورته”[9].
ج- الجمع باختلاف الحكم في الحديثين.
فقد يقع الاختلاف بين حديثين فيما يؤديه إليه كل واحد منهما من حكم تكليفي، فيجمع بين الحديثين بتنزيل كل حديث على الحكم التكليفي المناسب له.
مثل قوله رحمه الله في الحديثين المتعارضين في تقدم شهر رمضان بالصيام: “ووجه الجمع بينهما أن يكون الأول إنما هو شيء كان الرجل قد أوجبه على نفسه بنذره فأمره بالوفاء به، أو كان ذلك عادة قد اعتادها في صيام أواخر الشهور فتركه لاستقبال الشهر، فاستحب له صلى الله عليه وسلم أن يقضيه”[10].
ومثل قوله: “وفي الحديث دليل على أن النهي عن أن تسافر المرأة إلا مع ذي محرم إنما جاء في الأسفار المباحة دون السفر الواجب اللازم لها بحق الدين”[11].
ج- الجمع بين الحديثين بحمل أحدهما على الإباحة والآخر على التنزيه.
فعند ورود حديثين أحدهما بالنهي عن أمر، وآخر يدل على إباحته، فيحمل النهي على الكراهة، وتحمل الإباحة على التنزيه، وفي هذا يقول الخطابي – رحمه الله -: “يمكن أن يوفق بين الحديثين من الروايتين بأن يجعل حديث أبي ثعلبة أصلًا في الإباحة، وأن يكون النهي في حديث عدي على معنى التنزيه دون التحريم”[12].
(المصدر: شبكة الألوكة)