قراءة وتعريف لكتاب (زُخرفُ القَولِ- مُعالَجةٌ لأبرز المقولاتِ المؤسِّسةِ للانحرافِ الفِكريِّ المعاصِرِ)
عنوان الكتاب: زُخرفُ القَولِ- مُعالَجةٌ لأبرز المقولاتِ المؤسِّسةِ للانحرافِ الفِكريِّ المعاصِرِ
اسم المؤلف: عبد الله بن صالح العجيري د. فهد بن صالح العجلان
الناشر: تكوين للدراسات والأبحاث – لندن
سنة الطبع: 1440 – 2019
عدد الصفحات: 341
التعريف بموضوع الكتاب
لم يعُدِ المجالُ الفكريُّ شأنًا خاصًّا بنُخبة هامشيَّة تجتمع في مراكزَ بحثيةٍ أو مؤتمراتٍ سنَويَّة أو جَلَساتٍ مغمورةٍ هنا أو هناك، بل أصبحت اللغةُ الفكريةُ اليوم تجسِّدُ لغةَ التواصُلِ الاجتماعيِّ التي تتصارعُ مختَلفُ القوى لضَخِّ تصوُّراتها ومفاهيمها من خلالها؛ لتُقَدِّمَ تلك التصوُّراتِ والمفاهيمَ للمُستهلِكِ النهائيِّ! ومع توسُّعِ دائرة الجدَل الفكريِّ لن تُخطئَ عينُك عددًا من المقولات التي يتمُّ صكُّها في جملةٍ مُركَّزةٍ مختصرةٍ، تُسهِّل عمليةَ تناقُلِها على الألسُن وتَسَلُّلِها إلى الأذهان، وتظهر مشكلتُها حين تتضمَّنُ مِثلُ هذه المقولاتِ معانيَ باطلةً أو مُلبِسةً يمكِنُ أن تُسهِمُ في تمرير عددٍ من الانحرافاتِ الفِكرية المنوَّعةِ بتنوُّعِ هذه المقولاتِ
هذه كلمات ناصعات من مقدمة الكتاب.
وكتابنا الذي نعَرِّفُ به اليوم: ((زخرفُ القولِ)) يُقدِّمُ مُعالجةً مُركَّزةً لإحدى وأربعين مقولةً من هذه المقولات التي اقترح الباحثان تسميتها: (المقولات المؤسِّسة للانحراف الفِكريِّ المعاصِر)، وقد قام الباحثان بمعالجتها بهدف كشْفِ ما فيها من مشكِلات، وفَحصِ كل مقولةٍ على حِدَة، وتحليلِ مضامينها الداخليةِ، والتنبيهِ على مواطنِ الإشكال والالتباس والفساد فيها.
وقد نبَّه الباحثان على أنَّ الكشفَ عن أوجه المغالطة الموجودة ضِمنَ عددٍ من المقولات الفاسدة ليس بالأمر الصَّعب، لكنَّه يستدعي قَدْرًا من دقَّةِ النَّظَر، وتَركِ العَجَلة، وامتلاكِ بعض الأدوات النقدية التي تمكِّن صاحِبَها من وضع اليد على مواضعِ الخَلَل منها؛ وممَّا ذكره الباحثان مثالًا على ذلك:
– فكُّ إجمال المقولة.
– الوعيُ بالمقدِّمات الفاسدة.
– ملاحظةُ السِّياق الذي تُوضَعُ فيه.
– إدراكُ اللوازم والمآلات.
– العنايةُ بالأصول المركزيَّة للأفكار.
– تفكيكُ الفكرة وردُّها إلى أصولها الأولى.
– كشفُ المضمَرات الفاسدة.
وقد أبان الباحثان عن منهجهما في الكتاب، وهو: الاقتصار في مناقشة هذه المقولات على تقديمِ إجابةٍ منهجيةٍ تكشِفُ عن حقيقة المقولة، ووجهِ فسادِها، مع الاستدلالِ لذلك، وبيانِ اللوازم الفاسدة.
وسوف ننتقي من هذه المقولات عددًا منها، مع عَرضٍ موجَزٍ لأهم الوَقَفاتِ التي وقفها الباحثان لعرض هذه المقولات ونقدها وتفكيكِها.
فأوَّلُ ما بدأ به الباحثان من المقولات مقولةُ: (في القرآن كفايةٌ!).
وذكر الباحثان أنَّ ممَّا يرفع إشكالَ هذه الشبهة إدراكَ ثلاثِ حقائقَ شرعيةٍ:
الحقيقة الأولى: أنَّ القرآنَ الكريمَ حُجَّةٌ، والسَّنَّةَ النبويَّةَ حُجَّةٌ أيضًا؛ إذ كلاهما وَحيٌ؛ قال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3، 4]، فهذه دَلالةٌ ظاهرةٌ على أنَّ كلَّ ما يَصدُر عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم هو وحيٌ، وهذا يعني حُجِّيتَه ولزومَه على الناس.
الحقيقة الثانية: أنَّ اللهَ تعالى أكَّد في القرآن أنَّ المنَزَّلَ على النبيِّ ليس القرآنَ وحدَه، بل أنزل معه شيئًا آخر جاءت تسميتُه فيه بالحكمةِ؛ قال تعالى: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء: 113]، وفي عدد غير ذلك أيضًا من الآيات.
الحقيقة الثالثة: ما جاء في القرآن الكريم من الأمر بلزومِ سُنَّته صلى الله عليه وسلم، وشواهدُه في كتاب الله كثيرةٌ جدًّا، وهي تكشِفُ عن دَلالة قطعيةٍ مؤكِّدةٍ على حُجِّية سُنَّة النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وقد ذكر الباحثان عددًا من هذه الدلائل، منها:
1- الأمرُ الصريحُ بوجوبِ طاعة النبيِّ صلى الله عليه وسلم، كما في قوله تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 32].
2- بيانُ أنَّ طاعةَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم من طاعة الله، كما في قوله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} [النساء: 80].
3- بيانُ الوعيدِ على من خالف أمرَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، كما في قوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63].
4- الأمرُ بالتأسِّي والاقتداء بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم، كما في قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} [الأحزاب: 21].
ثمَّ ذكر الباحثان أنَّ هذه حقائقُ قرآنيَّةٌ قاطعةٌ في وجوب الأخذ بسُنَّته، فمن يؤمِنْ بالقرآنِ حقًّا فليس له مَناصٌ من اتِّباع سُنَّة النبيِّ صلى الله عليه وسلم .
ثم أتبع الباحثان هذه الدلائلَ ببعض الدلائل العقليَّة، وأوضحا أنَّ لهذا ثلاثةَ مساراتٍ تدلُّ بالضرورةِ على كون السُّنَّة وحيًا مُحتجًّا به، ولا يصِحُّ الاستغناءُ عنها بذريعة (كفاية القرآنِ وحدَه)، وهذه المساراتُ هي:
عدمُ إمكانيةِ إقامة الدِّينِ قطعًا دون اعتبارِ سُنَّة النبيِّ صلى الله عليه وسلم.
أنَّ سُنَّةَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم هي خيرُ مُعينٍ على فهم كتاب الله.
أنَّ إنكارَ السُّنَّة يَلزم منه الطَّعنُ في النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّه تكلَّم عن أمورٍ غيبيةٍ، وسَنَّ تشريعاتٍ عِدَّةً، فمن يقول بكفاية القرآن وحده يَلزمُه الطَّعنُ في النبيِّ؛ لأنَّه صلى الله عليه وسلم تحدَّث في هذه الأمور بكلامٍ كثير ليس له مُستنَدٌ في القرآن؛ فعلى أيِّ شيء يُحمَل كلامُه في هذه الأمور ما دام قولُه فيها ليس بحُجَّةٍ؟!
هذا، وقد أطال الباحثان في عَرضِ هذه المقولة ومناقشتها وتفكيكها، ثم ختمَا بقولِهما: (الخلاصةُ التي لا ينبغي لمسلمٍ أن يُنازِعَ فيها أنَّ سُنَّةَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم هي وحيٌ مُنزَّل؛ ولأجل ذلك كانت حُجَّةً شَرعيَّةً مُعتَبَرةً، وقد انعقد إجماعُ أهل الإسلام كافَّةً على هذا؛ فمن خالف في هذا ورَدَّه فهو المتوعَّدُ بمِثلِ قولِه تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115].
ومن المقولات التي تناولها الباحثان كذلك مقولةُ (لا يقبله عَقلٌ!) ومعارضة نصوص الوحي بالعقل، وقد ذكرَا قبل الخوض في رفع ما يتعلَّق بهذه المقالة من توهُّماتٍ بعضًا ممَّا ذكره الوَحيُ، ودَلَّ به على أهميةِ العقل؛ فمن ذلك:
أنَّ الشَّرعَ جعل العقلَ مناطَ التكليف؛ فقد قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((رُفِعَ القَلمُ عن ثلاثةٍ: عن النَّائمِ حتى يستيقِظَ، وعن الصَّبيِّ حتى يحتَلِمَ، وعن المجنونِ حتى يَعقِلَ)).
الحثُّ على التفكُّر والتدبُّر في آيات الله؛ فما أكثَرَ ما ورد في القرآن من قوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} {لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}.. ونحو ذلك.
حصرُ الانتفاع بالمواعظ والذِّكرِ على أصحابِ العقول؛ يقول تعالى: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [البقرة: 269].
وبعد أن ذَكَرَا عددًا آخرَ من الدلائل على ما للعَقلِ مِن مقامٍ عالٍ في الشَّرعِ أوضَحا أنَّ المسلمَ يجبُ عليه أيضًا أن يستحضِرَ محدوديَّةَ العقلِ وعدمَ تمكُّنِه في كلِّ شيءٍ، فذكرَا على ذلك أمورًا، منها:
أنَّ العقلَ لا يُدرِكُ كلَّ شيء، وقد أرشدت الشريعةُ إلى ما يضبط فِعلَ العقل ببيان ما يمكِنُ أن يتحرَّك فيه، وما يكون فيه عاجزًا عن خوض غِمارِه؛ فلا غلُوَّ في العقل ليكونَ هو الحُجَّةَ المهيمِنةَ، ولا جفوةَ تُلغي مكانتَه ووظيفتَه.
أنَّ إدراكَ العقل للقضايا قد يكون إدراكًا مُجمَلًا لا مُفصَّلًا، وقد يكون إدراكًا بَعضيًّا لا شُموليًّا، وهو ما يفسِّرُ ذلك التفاوتَ الذي يَعرِضُ للناس في تقييم كثيرٍ من المسائل متى كان المرجِعُ للعقل وحْدَه.
تفاوتُ الناس في الإدراك العقلي؛ فالعقل ليس شيئًا واحدًا يقع لكُلِّ الناسِ على وجهٍ يتَّفِقون فيه، بل هم يتفاوتون فيه تفاوتًا هائلًا.
وبعد عَرضِ الباحثَينِ لهذه الأمور ذكرَا المنهجَ الشرعيَّ الصحيحَ في التعامل مع ما يبدو من تعارضٍ بين العقل والنقل، وهو:
إدراكُ أنَّ العقلَ الصَّحيحَ لا يمكن أن يعارِضَ النَّقلَ الصَّريحَ؛ فما ثبت في الشريعةٍ قَطعًا لا يمكن أن يخالفَ العقلَ الصَّحيحَ قطعًا، فالواجب هو النظرُ في طبيعة المخالَفة هنا: هل هي حقيقيةٌ أم لا، فإن كانت مخالَفةً حقيقيَّةً لا يمكن أن يُجمَع بين الطرفين بجامعٍ فأحد طرفَيِ المعادلة لا يَثبُت قطعًا، فيُنظَرُ فيها ويُقدَّمُ ما كان سالِمًا من الخادشِ.
ومن المقولات التي تعرَّضَا لها مقولةُ (بالمساواة يتحقَّق العدلُ!) وأبانا أنَّ من الأوهام الواقعة عند بعض الناس أنَّ المساواةَ والعدل شيءٌ واحد، فإذا جاءت الشريعةُ بالتفريق بين شيئين في الحُكم وإلغاء التَّسوية بينهما تُوهِّمَ أنَّ في هذا مخالفةً للعدل، ككثير من الأحكام المتعلِّقة بالمؤمِنين والكُفَّار، والرِّجال والنِّساء!
فأوضحَ الباحثان أنَّ العدلَ إنما يكون في إعطاءِ كلِّ ذي حقٍّ حقَّه، سواءٌ اقتضى ذلك المساواةَ أم لا؛ فليس العدلُ ملازِمًا ضرورةً للمساواةِ؛ فقد يجامعُها وقد يفارقُها.
ثم أكَّدَا على أنَّ العدلَ هو ما يمثِّلُ القيمةَ المركزيةَ في الإسلام، وهو محلُّ الثناء المطلَق فيه، وبه تمدَّحَ اللهُ تبارك وتعالى، وبه وصف نفسَه، أما المساواةُ فليست بهذا المقام؛ فالعدلُ حقٌّ كُلُّه، ومحمودٌ كُلُّه، أما المساواةُ فلا يصحُّ أن يُثنى عليها بإطلاقٍ.
ومن المقولات الشائعة التى تناولها الباحثان كذلك مقولةُ (لا أحدَ يمتلِكُ الحقيقةَ المُطلَقةَ!) ونحوها من العبارات التي تُلغِي وجودَ معيارٍ ثابت يتميَّزُ من خلاله الحقُّ من الباطل، أو الصوابُ من الخطأ، وأبان الباحثان أنَّه ليس الإشكالُ هنا في مسائِلَ محدودةٍ أو قضايا مُعَيَّنةٍ تدخُل في إطار الاجتهاد، إنَّما الإشكالُ في الإطلاق الذي تدَّعيه هذه المقولةُ، ويَلزَمُ من طردِها سَلبُ المُحكَماتِ والقطعيَّاتِ الدينيِّةِ وَصْفَها.
وقد أوضح الباحثان أنَّ هذه المقولةَ مخالِفةٌ لمُحكَماتِ الوَحيِ وقطعيَّات الشريعة؛ فالشريعةُ تقرِّرُ بوضوحٍ وجودَ عددٍ من المُحكَمات التي لا تقبَلُ المنازعةَ، وترى فيها حقًّا مُطلقًا يجبُ اعتقادُه في مقابِلِ بطلانِ ما يضادُّها من مبادئَ ومُعتقَداتٍ.
وقد ذكرَا عددًا من التقريرات القرآنية التي توضِّحُ ذلك، منها قولُه تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85] ، وقولُه تعالى: {وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ}[فاطر: 31]، وقولُه تعالى: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} [يونس: 32].
وقد أشار الباحثان إلى أنه يُمكِن نقضُ هذه المقولة بنفس هذه القاعدة؛ بأن يقال: هذا القولُ هل هو حقيقة مُطلَقةٌ أم هو قضيةٌ نِسبيةٌ؟ فإن قيل: هو حقيقة مُطلَقةٌ نَقَض دعواه، فاعترف بأنَّ الحقيقةَ ليست نسبيةً دائمًا، وإن قال: هي نسبيةٌ نَقَض دعواه أيضًا؛ فما دامت نسبيةً فلا معنى أن يتعاملَ معها كحقيقةٍ مُطلَقةٍ!
ثم كانت خاتمةُ الكتاب بمقولةٍ راجت في الآونة الأخيرة، وهي (الغلُوُّ نَبتةٌ سَلفيَّةٌ!)، وأشارا إلى أنَّ هذه المقولةَ تستندُ إلى وجود عَلاقة بين الغُلُوِّ والسَّلفيَّة، وهذه العلاقة تتجلَّى في انتساب غُلاةٍ إلى السَّلَفيَّة واستدلالهم بأدبيَّات السَّلَفيَّة.
وممَّا رد به الباحثان على هذه المقولة الإشارةُ بوضع الإسلام هنا بدلًا مِن السَّلَفيَّة، وستكون النتائجُ: أنَّ الغُلاةَ ينتَسِبون إلى الإسلامِ، ويستَدِلُّون بأصوله لغُلُوِّهم…، وهو ما له حضورٌ كبير في الأوساط الإعلاميَّة والثقافيَّة المعاصِرة!
وأرشدَا إلى أنَّه لو جرَّب من يربِطُ بين الغُلُوِّ والسَّلَفيَّة أن يرُدَّ على من يربِطُ بين الإسلامِ والغلُوِّ لوجَدَ أنَّه يقَدِّمُ أدلَّةً ترُدُّ على مُقارنتِه السَّاذَجةِ والسَّطحيَّة بين الغُلُوِّ والسَّلَفيَّة!
فهو يقولُ: وجودُ غُلاةٍ ينتمون إلى الإسلام لا يعني أنَّ الغُلُوَّ متعَلِّقٌ بالإسلام نفسِه، واستدلالُ الغُلاةِ بالإسلامِ لا يعني أنَّ هذه الأفعالَ يُقِرُّها الإسلامُ فعلًا؛ إذن، فرَبطُ الغُلُوِّ بالسَّلفيَّةِ بناءً على وجود غُلاةٍ ينتمون إلى السَّلَفيَّة، ويَستدِلُّون بمقولاتِها، ويُثنون على علمائِها: طريقةٌ ساذَجةٌ سَطحيَّةٌ هزيلةٌ لا يَليقُ بمن يحترمُ البحثَ الموضوعيَّ ويُعظِّم الحُكمَ العِلميَّ العادِلَ أن يتفوَّهَ بها؛ لأنَّ فسادَها ظاهِرٌ بأدنى نظرٍ عَقليٍّ!
وأشار الباحثان إلى أنَّ مُشكلةَ من يربِطُ بين الغُلُوِّ والسَّلفيَّة أنَّه عاجزٌ عن التمييزِ بين المقولات والأفكار والأشخاص؛ فإذا رأى أنَّ الغُلاةَ يَستدِلُّونَ بمنهجٍ سَلَفيٍّ، ويكَرِّرون مقولاتِ ابنِ تيميَّةَ، ويستندون إلى قواعِدَ سَلَفيَّةٍ معروفةٍ؛ قال مُباشَرةً: إذَن هذه فِكرةٌ سَلَفيَّةٌ، ويجب أن نُعيدَ تصحيحَ السَّلَفيَّةِ حتى لا تُنتِجَ الغُلُوَّ!
وقد ختم الباحثان ردَّ هذه المقالة بقولِهما: الخُلاصةُ التي يجبُ أن نراعيَها في نقدِ الأشخاص والاتجاهات والطوائف: الانطلاقُ في نقدِها من مقولاتِها وما تُفرِزُه تلك المقولاتُ ويلزمُ عنها، وفَرْزُ ذلك كُلِّه من الممارسات البشريَّة التي هي عُرضةٌ للخطأ والزَّلَل والتَّقصير.
وبَيَّنَا أنَّ الأصلَ ألَّا تُحاسَبَ الاتجاهاتُ والمذاهبُ بمجرَّد ممارسات أصحابها، بل الأصلُ محاسَبةُ الاتجاهاتِ بما تتبنَّاه من رؤًى وأفكارٍ وتصوُّراتٍ، ولتكُنِ الممارساتُ البشريةُ قرينةً أو أمارةً تحمِلُ الباحثَ على التفتيش عن مُوجِبِ تلك التصرُّفات؛ فقد تكون تلك الممارساتُ ناشئةً حقًّا عن مقولاتٍ مُقرَّرةٍ في المذهَبِ، وقد لا تكونُ، فيكونُ الحكمُ تابعًا للمقولاتِ لا لمجَرَّد الممارساتِ والتصَرُّفات.
هذا وقد أجاد الكاتبانِ في اختيارِ الموضوعِ ومَضمونِه.
(المصدر: موقع الدرر السنية)