قراءة معاصرة في حقيقة “الخلافات السياسية بين الصحابة” 1من2
قراءة أيوب الريمي
يعيش المسلمون ومنذ سنوات ليست بالقليلة على وقع استقطاب مذهبي وطائفي، غير مسبوق، بانتقاله من المنابر والكتب، والقنوات الإعلامية، إلى حرب حقيقية في العديد من الدول المسلمة، وصراع دموي، ترفع فيه رايات وشعارات، تعبر عن سوء الفهم الكبير لوقائع الخلافات التي حدثت بين صحابة النبي عليه السلام، منذ يوم السقيفة المشهود.
هذا الواقع يحيلنا إلى إشكالية تعامل المسلمين مع تراثهم الديني والسياسي والثقافي، التي ترافع حولها الكثير من المثقفين العرب لعل أبرزهم المفكر المغربي المرحوم محمد عابد الجابري، في مشروعه نقد العقل العربي، وفي إطار المجهودات التي يقوم بها عدد من الباحثين الجادين، لإعادة صياغة آلية ومنهجية التعامل مع التراث السياسي لما بعد يوم السقيفة وتفكيك العقد النفسية والفكرية في تناول هذا الموضوع، يمكن أن نضع مؤلَف “الخلافات السياسية للصحابة” لصاحبه الأكاديمي الموريتاني محمد المختار الشنقيطي.
ينطلق الكتاب من تبني فكرة “الإمكان التاريخي”، وهي فكرة مفادها أن الحركة التاريخية هي نتاج الفعل البشري
صدر الكتاب في نسخته الأولى سنة 2011 وهي سنة انطلاق الشرارات الأولى للربيع العربي، ثم صدر في نسخة ثانية، تضمنت تصديرا للشيخ العلامة يوسف القرضاوي، وتقديما للنسخة الأولى بقلم الشيخ راشد الغنوشي، ومنذ تاريخ إصدار الكتاب إلى كتابة هذه المقالة، جرت مياه كثيرة تحت جسر الدول العربية على وجه الخصوص، وبلغ الصراع الطائفي أوجه، وباتت ثنائية (سني ـ شيعي)، هي الشعار السياسي الذي تحمله دول إسلامية في صراعاتها وحروبها المباشرة أو بالوكالة.
ولا جدال أنه لا مجال للتخفيف من وطأة الطائفية في العالم الإسلامي، دون التصالح أو لنقل إعادة قراءة الفترة التي بدأت بيوم السقيفة لاختيار خليفة على المسلمين بعد وفاة النبي، إلى يوم ضرب الحجاج ابن يوسف الثقفي للكعبة بالمجانيق، بسبب صراع مرير على السلطة.
مكانة الأشخاص وقدسية المبادئ
وكان اختيار المؤلف أن يضع المبدأ الذي على أساسه، بنى مشروعه العلمي هذا، موفقا، وهو مبدأ التمييز بين مكانة الأشخاص والمقصود بهم الصحابة، وقدسية المبادئ، التي وضعها الإسلام باعتباره منظومة قيم ومبادئ، وبهذا التمييز المهم، يكون الكاتب، قد وضع يده على مكمن الداء، فالكثير من المتكلمين في الموضوع، يخلطون بين الشخص والمبدأ، ويضعون الكثير من القداسة على الأشخاص ولو كان ذلك على حساب أحكام ثابتة في الدين، وهذا ما يجعل كل تحليلاتهم لهذا الموضوع الشائك والحساس، منقوصة ومخرجاتها محرفة.
ويندرج الكتاب في إطار الفقه السياسي أكثر من كونه كتابا للتأريخ لتلك المرحلة، ولن يجد فيه القارئ الباحث عن التفاصيل التاريخية لأحداث ما يعرف في التراث الإسلامي بأحداث الفتنة الكبرى، سردا روائيا لتلك الوقائع، بل يتعلق الأمر بوضع إطار منهجي، يتضمن واحدا وعشرين قاعدة، مستلهمة من مؤلفات ابن تيمية، تمكن القارئ أو الدارس لهذه الفتنة، من الإبتعاد عن السقطات والزلات العلمية.
وينطلق الكتاب من تبني فكرة “الإمكان التاريخي”، وهي فكرة مفادها أن الحركة التاريخية هي نتاج الفعل البشري، وبالتالي فهي تقبل العديد من الاحتمالات بعيدا عن الحدية، وهو بهذا الاختيار يحاول الخروج من ثنائية الجبرية الأموية والمظلومية الشيعية، التي تحكمت في طريقة التفكير والتحليل ودراسة التاريخ، فهذان المنهجان في التحليل وإن كانا على طرفي النقيض إلا أنهما ينتهيان إلى نفس المحصلة، وهي أنه لم يكن بالإمكان أفضل مما كان، ما يجعل باب مراجعة وحتى نقد تلك الأحداث، مغلقا أمام الجميع.
الاستبداد والردّة السياسية
ويربط الدكتور الشنقيطي، بطريقة منطقية وذكية، بين الاستبداد الذي نعيشه في أغلب الدول الإسلامية والعربية على وجه الخصوص، وبين ما يسميه الردة السياسية، التي بدأت مع تحويل النظام السياسي من خلافة إلى ملك، هذا التغيير الذي مازال يتحكم في حياة المسلمين إلى الآن، ولم يولد إلا حالة مزمنة من الاستبداد، مع بعض الاستثناءات، وفي نظر الكاتب لا يستقيم الحديث عن الاستبداد الحالي دون العودة إلى الانزلاقات السياسية في عصر الصحابة، وكل من ينبري لانتقاد المستبد في عصرنا الحالي ويتغافل عن الاستبداد القديم، فهو بهذا يقع في تناقص فكري، فلا محيد إذن عن العودة الهادئة الرصينة والعلمية، لتلك المرحلة التي أسست للعديد من الممارسات السياسية التي يعاني منها المسلمون اليوم بعد ألف وأربعمائة سنة.
وينادي بضرورة تمكن المسلمين من الوعي التاريخي، خصوصا وأن الحضارة الإسلامية مرتبطة بنص قرآني، أي بما هو مقدس، وهو ما يعقد من مهمة أبناء الأمة المسلمة، لضرورة وضع خط فاصل بين الوحي والتاريخ، وبين المبادئ كقيمة وبين تجسيدها من طرف البشر، وأخيرا الحد الفاصل بين مكانة الأشخاص وبين قدسية المبادئ.
ويقدم الكاتب تفسيره لاختياره الاستمداد مما كتبه شيخ الإسلام ابن تيمية، بكون الشيخ كتب في موضوع الخلافات بين الصحابة، ما لم يكتبه غيره، وألف في هذا الموضوع كتاب “منهاج السنة النبوية” بمجلداته التسعة، كما أن الشيخ ميز بين الخلافة والملك، بشكل صريح واعتبر أن الملك “متضمن لترك بعض الدين الواجب”، ويمكن قراءة ما هو أبعد من ذلك في اختيار إرث الشيخ ابن تيمية، بالرغبة في إنصافه بعد ما طاله من إلصاق تهمة التنظير للتطرف والتشدد من جهة، وأيضا تحريره من بعض “أتباعه” في عصرنا الحالي، الذين يريدون احتكار فكر ابن تيمية وتطويعه على مزاجهم، أو لنقل حسب ما يفترضه السياق الحالي من تشدد طائفي، وهكذا نجد أن كثيرين ممن يقولون إنهم يتبنون فكر ابن تيمية، بالغوا في جدالهم المتشنج مع الشيعة، ودافعوا عن الحق بالباطل في بعض الأحيان، وهو ما ينتقده ابن تيمية ويرفض من “قابلوا باطلا بباطل وردوا بدعة ببدعة” حسب كلمات الشيخ.
وفي استعراض القواعد التي يضعها كمنهاج للتعامل الفكري، يتحدث المؤلف عن ضرورة اعتماد منهج أهل الحديث في النقل، لأنه حسبه منهجا موضوعيا، فهو لا يأخذ بعين الاعتبار ترجيحها لكفة أي فريق، بقدر ما يهمه أن يكون السند صحيحا، منتقدا بعض المنتسبين لأهل الحديث الذين يهاجمون الكذابين في النقل وفي الوقت ذاته يعطون لأنفسهم الحق في التساهل في الروايات إن كانت تعضد رأيهم.
(المصدر: عربي21)