الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، واتّبع هداه.
أمّا بعدُ،
فبين أيدينا سِفرٌ جليلُ القدر، يطرق باباً من أبواب العلم الشّرعيّ، رفيعِ المكانة، ذلكم هو كتابُ “فقه التّعامل مع النّاس” لفضيلة الشيخ الدكتور عبد العزيز بن فوزان الفوزان، أستاذ الفقه المقارن في المعهد العالي للقضاء، والمشرف العام على شبكة قنوات ومواقع رسالة الإسلام.
بهذا الكتاب الجليل، يُذكّرنا الدكتور عبد العزيز الفوزان، بمفهوم الفقه في دلالاته الأصيلة الأولى، حيث كان يعني ضرباً من الفهم العميق المرتبط بتلك الصّلة الوثيقة التي جعلها الله تعالى بينه وبين عباده، ثمّ أمر عباده بأن يجعلوها بينهم، ألا وهي صلة الرّحمة، يدلُّ على ذلك قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 2، 3]، ثمّ قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمْ الرَّحْمَنُ, ارْحَمُوا مَنْ فِي الْأَرْضِ, يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ))1، فعلى قاعدة الرَّحمة ينبني “فقه التّعامل” في وعي المسلم، سواءٌ مع الله تعالى، أو مع عباده.
وبهذا الكتاب الجليل في “فقه التّعامل”، يستجيش فضيلة الشيخ عبد العزيز الفوزان كلّ دلالات الرحمة وما تقتضيه من حسن التعامل بين المسلمين، بل بين الناس أجمعين، ليُنزِّلها على واقع العصر الّذي نعيشه، حيث اشتدّت حاجةُ النّاس إلى فقه التّعامل، ونشأت بناءً على هذه الحاجة علومٌ وفنونٌ عصريّةٌ، يجتهد مؤلّفوها في بيان طرائق العيش الصحيح، وأساليب المعاملة اللائقة بالآخرين، وكيفية تحقيق السعادة والنجاح عبرها في الحياة، وما إلى ذلك من هذه المعاني، التي يلحظ قارئ هذا الكتاب أنّه يتضمّن أصولها ويُحدّد منهجيّتها الرّبّانيّة، ويوجِّهها إلى اتّجاه القبلة.
وقد كان من الدوافع الأساسيّة التي دفعت الكاتب إلى وضع هذا الكتاب: ما لحظه من وجود تناقضٍ ظاهرٍ (بين ما أوصاهم به ربُّهم من رعاية حقوقه وحقوق عباده، وبين ماهم عليه من تفريطٍ في جنب الله، وعدم رعاية لحقوق عباد الله. بل كثير من الناس يظنون أن التقوى هي القيام بحقوق الله تعالى دون حقوق عباده، وأن الدين قاصر على معاملة الخالق دون المخلوق، فيُهملون حقوق العباد بالكلية أو يقصرون فيها، ويستهينون بظلم الناس وبخسهم حقوقهم)، هذا رغم أنّ (حقوق العباد مبنية على المشاحة والمقاصة، وحقوق الله ـ تعالى ـ مبنية على المسامحة والمساهلة، ومن فرَّط في جنب الله كان بإمكانه أن يستعتب ربه متى شاء، لكنه إذا ظلم الناس لم يضمن أن يحلوه ويسامحوه في ظلمه لهم وتعديه)2.
إنّ أبرز ما يتميّز به هذا الكتاب الّذي بين أيدينا: أنّه يقوم على قاعدة جهدٍ استقرائيٍّ واسع، اجتهد فضيلة الشيخ المؤلف في أن يجعله مستغرقاً لمعظم الدلالات الشرعيّة الواردة فيما يخصُّ فقه التّعامل مع النّاس، سواءٌ في آيات القرآن الكريم أو في نصوص السنّة المطهرة، أو في أقوال سلف الأمة وعلمائها.
قسم المؤلف كتابه هذا إلى عشرة فصول، استوعب بها أصول وفصول فقه التعامل مع الناس في الشريعة الإسلاميّة.
أمّا أربعة الفصول الأولى فقد خصّصها المؤلف لقضايا تُعتبر أصولاً لفقه التعامل، حيث جاء الفصل الأول منها تحت عنوان: “وجعلنا بعضكم لبعض فتنة”، والفصل الثاني تحت عنوان: “الدين المعاملة”. والفصل الثالث تحت عنوان: “شؤم الظلم”. والفصل الرّابع تحت عنوان: “إيَّاكم والحسد”.
أمّا ستة الفصول الباقية من العشرة، فقد استوعب بها فضيلة الشيخ المؤلف أنواع العلاقات أو الأطراف التي يدور حولها فقهُ التعامل تأصيلاً وتفصيلاً، وهي على التوالي: “معاملة الزوج لزوجه”، ثم: “معاملة الوالد لولده”. ثمّ: معاملة الولد لوالده. ثمّ: معاملة القريب لقريبه. ثمّ “معاملة الجار لجاره”، ثمّ “معاملة المسلم للمسلم”، فهذه ستة كاملة.
أمّا الفصل الأول من هذا الكتاب، والذي جاء بعنوان: “وجعلنا بعضكم لبعض فتنة”، فإنّه يشُدّ فصول الكتاب كلها إلى الغاية الكبرى التي خلق الله من أجلها العباد، ألا وهي أن يتوجّهوا إليه بالعبوديّة الخالصة، (ولكنَّ هذه العبودية لا تتحقَّق وتظهر إلا بالابتلاء بأنواع الخير والشر، فالابتلاء ليس مقصودًا لذاته، وإنما لما يترتب عليه من حصول العبوديَّة أو عدمها، وقوتها أو ضعفها)3، كما قال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} [الملك: 1، 2] فعلى قاعدة الابتلاء يقوم فقه التعامل، ليُبيّن حقوق الناس (بعضهم على بعض، وابتلاء بعضهم ببعض، وأنَّ كل إنسانٍ مبتلىً بمن يُقابله ويُعامله من الأقربين والأبعدين، هل يتَّقي الله تعالى فيهم، وينصحُ لهم، ويقومُ بحقوقهم، ويتورع عن ظلمهم)4. هذا وقد تناول فضيلة الشيخ المؤلف في هذا الفصل أربعة مباحث تتميّز بكونها جامعةً مستوعبةً للمعاني التي تؤكد أنّ ابتلاء الناس بعضهم ببعضٍ هو أساس فقه التعامل، وهي على التوالي: “الابتلاء سنة إلهية”، و”ابتلاء الخلق بعضهم ببعض”، و”أشدُّ الناس بلاءً”، و”لن يسلم أحدٌ من الابتلاء”.
أمّا الفصل الثّاني من كتاب “فقه التّعامل”، والذي جاء تحت عنوان “الدّين المعاملة”، يُسلّط الضوء على جزئيّةٍ مهمّة تضمّنها الفصل الأصوليُّ الأول، فإذا كان الناس مُبتلّون بعضُهم بمعاملة بعضٍ، فذلك لأنّ حقيقة الدين إنّما تتمثّل في هذه المعاملة، ذلك أنّ (حياة الإنسان في هذه الدنيا دائرةٌ بين معاملة الحق ـ سبحانه ـ ومعاملة الخلق من الإنس والجن والحيوانات والنباتات والجمادات وغيرها. وعلى حسب هذه المعاملة يكون جزاء الإنسان في الدنيا والآخرة)5.
أمّا الفصل الثّالث وعنوانه “شؤم الظلم”، فإنّه يدلُّ على الهمّ المسلكي الذي دفع الشيخ المؤلف لوضع كتابه، أي أن يكون دليلاً واقعيّاً يُرشد المسلم إلى الاجتهاد في ترقية أسلوب تعامله مع النّاس، فلذا بعد أن رسم فضيلة الشيخ المؤلف عبر الفصلين الأوّلين الهدف والغاية اللتين يسعى المسلم إليهما من وراء فقه التعامل، ألا وهي تحقيقُ النجاح والفلاح لدى ابتلائه بمعاملة غيره، كان من المناسب إذا التفت المسلم عن تلك الغاية قليلاً أو كثيراً، أن يرى من ورائه شؤم الظلم وعاقبته يكاد أن يُحيط به، فإن كان به مسكة من عقلٍ، جدّ في الهرب واللجوء إلى الله تعالى، قياماً بحقوق عباده، وفي هذا الفصل كذلك يُبيّنُ فضيلة الشيخ المؤلف أنّ الظلم هو المعنى الجوهريّ الذي ينبغي للمرء أن يتجنّب الوقوع فيه لدى تعامله بالآخرين، فلذا عرّفه وبيّن حقيقته وأنواعه وصوره وعواقبه، وذلك عبر خمسة مباحث هي على التوالي: “الظلم طبيعة بشرية”، “تعريف الظلم وأنواعه”، “من صور الظلم الشائعة”، “عاقبة الظالم”، “عاقبة المظلوم”.
أمّا الفصل الرَّابع، فقد جاء تحت عنوان: “إيّاكم والحسد”، وربّما يعتري القارئ تساؤلٌ عن مناسبة إيراد هذا الفصل ضمن الفصول الأصوليّة المتعلّقة بفقه التّعامل، وكيف أنّه من بين الرّذائل اختصّ الحسد بالتّحذير؟ ويجيء الجواب عن هذا التساؤل ليؤكّد ما يتميّز به هذا الكتاب من دقّةٍ بالغةٍ في تقسيم فصوله، ففي الفصل السّابق حذّر فضيلة الشيخ المؤلفُ من عاقبة الظلم وشؤمه، وكعادته لم يكتفِ المؤلف بالتحذير والنّكير، بل أراد أن يُرشد القارئ كذلك إلى الطريق التي إذا سلكها سهُل عليه تجاوزُ عواقبِ الظلم، ألا وهي أن يجتهد في تزكية نفسه، خاصّةً من داء الحسد الذي هو أُسُّ البلاء، فـ (إذا كانت الخمرة أمَّ الخبائث، فإنَّ الحسد هو أبو الخبائث، وسيِّد الكبائر، فهو دافعٌ لكل شرٍّ، وطريقٌ لكل جريمة ومنكر. وكم حصل بسببه من المظالم والجرائم، والموبقات والعظائم، والهجر والصدود، والقطيعة والعقوق، وسفك الدماء، وهتك الأعراض، وانتهاك الحرمات، وإتلاف الأموال والمممتلكات، ومنع الحقوق والواجبات)6. فإذا تخلّص المرء من الحسد، تمكّن بفضل الله عزّ وجلّ من تأسيس قاعدةٍ راسخةٍ لتعامله الرّاشد مع الآخرين، فلذا اهتمّ المؤلّف بالتّحذير من الحسد، وذلك عبر ستة مباحث، هي على التوالي: “خطورة الحسد”، و”فضل سلامة الصدر”، و”أنواع الحسد”، و”أسباب الحسد”، و”علاج الحسد”، و”الأسباب الواقية من الحسد”.
وبانتهاء الفصل الرابع، تنتهي الفصول الأصوليّة المتعلٌّقة بفقه التعامل، والتي تبني قاعدةً راسخةً، على أرضيّتها يتم تأسيسُ فقه التّعامل عبر مسالكه الواقعيّة، بتنمية المبادئ والأحكام والآداب المتعلّقة بأنواع العلاقات المختلفة، وذلك عبر ستّة الفصول اللاحقة، من الفصل الخامس إلى الفصل العاشر.
أمّا الفصل الخامس، فقد خصّصه فضيلة الشيخ المؤلف لتناول العلاقة الزوجيّة، فجاء تحت عنوان: “معاملة الزوج لزوجه”، أو بعبارةٍ أخرى: معاملة أحد الزوجين للآخر، ولعلّ القارئ يتساءل: لِمَ قدّم فضيلة الشيخ المؤلفَ هذه الرابطة الزوجيّة على غيرها من العلاقات والروابط، بما فيها رابطة الأبوّة؟ والجواب يتضمّن دليلاً إضافيّاً على ما يتميّز به كتاب الشيخ الدكتور الفوزان من الدّقّة في الترتيب، فإذا كانت العلاقة الإنسانيّة الأولى هي علاقة المرء بذاته، المستندة إلى علاقته بربّه جلّ في علاه، وهي العلاقة التي كانت في الحقيقة محلّ النظر في الفصول الأصوليّة لهذا الكتاب، فإنّ العلاقة التالية لعلاقة الإنسان بذاته، هي علاقتُه بزوجه، وذلك مصداقاً لقول الله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم: 21]، فلذا كانت العلاقة الزوجيّة أولى العلاقات الإنسانيّة، فخصص لها فضيلة الشيخ المؤلف أربعة مباحث، جاءت تباعاً على النحو التالي: “الحقوق المشتركة بين الزوجين”، “الحقوق الخاصة بالزوجة”، و”الحقوق الخاصَّة بالزَّوج”، و “نصائح أبويَّة غالية”.
أمّا الفصل السَّادس، فقد جاء تحت عنوان: “معاملة الوالد” أي سواءٌ كان أباً أو أمّاً “لأولاده”، فقد تناولها فضيلة الشيخ المؤلف عبر ثلاثة مباحث: الأول: “الأولاد أمانة”. الثَّاني: “حقوق الأولاد”. الثَّالث: “الوسائل المُعينة على تربية الأولاد”.
ويلتئم بالفصل السادسِ الفصلُ السابع: “معاملة الولد لوالده”، والّذي تناوله فضيلة الشيخ المؤلف عبر خمسة مباحث: الأول: “عظم حق الوالدين”. والثاني: “ثمرات بر الوالدين”، والثالث: “حقوق الوالدين”، والرّابع: “تحريم عقوق الوالدين”، والخامس: “برُّ الوالدين بعد موتهما”.
ورغم ما بين الفصلين من قاسمٍ مشترك، كان يُسوّغ أن يتمّ تناولهما في سياقٍ واحد، تحت عنوان “العلاقة بين الوالد وولده” مثلاً، إلا أنّ فضيلة الشيخ المؤلّف بناءً على منهجه التطبيقيّ، اختار أن يخُصّ كُلاً من العلاقتين بفصلٍ خاصّ، ينطلق كلٌّ منهما من أحد الطرفين نحو الآخر: “معاملة الوالد لأولاده”، و”معاملة الولد لوالده”، وتظهر من وراء ذلك سمةٌ ميّزت هذا الكتاب، وهي اهتمام فضيلة الشيخ المؤلف بالجانب العمليّ الواقعيّ المحدّد، يصوغه بعباراتٍ دقيقة محكمة، بيد أنّ إدراكها يظلُّ في متناول عامّة القراء، بأسلوبٍ سهلٍ ممتنع.
أمّا الفصل الثّامن، فقد انطلق من الفصول الثّلاثة السابقة، التي أسّست بنيان القاعدة الرّاسخة للعلاقات الإنسانيّة، وهي العلاقة ما بين الوالدين (الزوج وزوجه) وأولادهما، التي تتفرّع منها سائرُ علاقات القرابة، والتي تناولها الفصل الثامن، تحت عنوان: “معاملة القريب لقريبه”، والذي ساقه المؤلف عبر تسعة مباحث، تحيط بأطرافها وتسبر غور أعماقها، وذلك عبر تسعة المباحث التّالية: “الولاء بين القرابة غريزة فطرية”، و “المراد بالرّحم”، و”أحقُّ الأرحام بالصلة”، “كيفية صلة الرحم”، و”أثر اللقاءات العائلية العامة في صلة الرحم”، و”مراتب الناس في صلة الرحم”، و”ثمرات صلة الرحم”، و”عقوبات قطيعة الرحم”، و”أسباب قطيعة الرحم”.
ولئن تعلّقت الفصولُ السابقةُ من الخامس إلى الثامن، بالعلاقات التي سببها القرابة الرّحميّة، فإنّ الفصل التاسع قد اهتمّ بما وراء ذلك، وهو: “معاملة الجار لجاره”، ذلك أنّ أقربَ (الناس إلى الإنسان، وأكثرهم ملابسةً له، ومعرفة بأحواله ـبعد أهله وقرابتهـ هم جيرانه. بل لربَّما كان الجار في حالات كثيرة، أقرب إليهم، وأكثر إعانةً لهم من القرابة والأصهار، فإنَّ أهل البيت حين يفاجؤون بمشكلة، أو تحل بهم نازلة، ويحتاجون فيها إلى إغاثة عاجلة، فإنهم يُهرعون مباشرة إلى جارهم، بحكم قربه منهم، وملاصقة داره لدارهم)7. وقد نبّه فضيلة الشيخ المؤلف إلى أنّ النّاس بداعية التعصب لأنفسهم ولقرابتهم ، قد أهملوا هذه الصلة الوثيقة التي تربط بين المسلم وجاره، فلذا تناولها بمنهجيّته الجامعة المانعة، والسّهلة الممتنعة، والفقهيّة بكلا الدلالتين الظاهرة والباطنة، وذلك عبر ستة مباحث: الأول: “حاجة الجار إلى جاره”. والثاني: “أنواع الجيران”، والثالث: “حدُّ الجار”. والرابع: “عظم حق الجار”. والخامس: “مراتب حق الجار”. والسادس: “أهمية الاجتماعات بين الجيران”.
أمّا الفصل الأخير، من الفصول التّفصيليّة، من هذا السّفر الجامع، فهو الفصل العاشر، الّذي أحاط فيه فضيلة الشيخ المؤلف بضروب العلاقات التي تخرج عن دائرتي القرابة والجوار، وذلك تحت عنوان “معاملة المسلم للمسلم “، فتناولها بما يكشف حقيقتها التي قد يُغطي عليها كونها قد وردت في المرتبة الأخيرة من مراتب علاقات التعامل مع الناس، فلذا في المبحث الأول من مباحث هذا الفصل، والّذي جاء تحت عنوان: “إنما المؤمنون أخوة” يؤكد المؤلف على أنّ الرابطة المعنويّة بين المسلم والمسلم تصل إلى مقام الأخوّة القائمة على أساس الإيمان، ثمّ في المبحث الثاني: “قوة الأخوة الإسلامية” يؤكد المؤلف أنّ هذه الأخوّة المستندة إلى الإيمان، قد ترقى حتّى تعلوَ على أخوَّة الدم والعرقن بيد أنّ ذلك الهدف لن يتحقق بالأمانيّ ورفع الشعارات، فلا بد من تيسير أسبابه، فلذا تناول المؤلف أهمّ هذه الأسباب التي تعمق الشّعور بالأخوّة الإيمانية في نفوس المؤمنين، ألا وهو الاجتهاد في التّعبد، فلذا كان موضوع المبحث الثالث عن “أثر العبادات في تحقيق الأخوة بين المسلمين”، ومن ثمّ في المبحث الرابع وبحسب ما يتميّز به أسلوب الكاتب، فقد انتقل من أفق الأخوة الإيمانية وأسباب تحقيقها، إلى بيان “حق المسلم على المسلم”، استقراءً من نصوص الشرع، راصداً لها، ومبيّناً الدلالات الشرعية والتطبيقية المتعلّقة بها، ذاكراً ما يُعين على القيام بها، وهو موضوع المبحث الرابع والأخير من مباحث هذا الكتاب المبارك.
ثم في ختام هذا السّفر الجامع، وتوكيداً لطبيعته التطبيقيّة والعمليّة، وبعد هذا التطواف المبارك في جنبات هذا البحث الماتع، يقول فضيلة الشّيخ المؤلف:
(ينبغي أن يقف كلُّ واحدٍ منّا مع نفسه محاسبًا، ولها سائلاً:
-هل نجحتُ في هذا الامتحان؟
-وهل خالقتُ الناس بما يرضاه الرحمن؟
-وهل أديت ما يجب علي تجاه والديَّ، وأولادي، وزوجي، وأرحامي، وجيراني، وإخواني المسلمين؟)8.
وفي ختام هذه الجولة المباركة، في أرجاء هذا السفر الجامع الماتع، وقد لمسنا ما تميّز به من ميزاتٍ فريدة اتّسم بها، من حيث عبقريّةُ البناء، ودقّة الترتيب بين فصوله، وأسلوبه الجامع بين دقّة النظر الفقهيّ، ورزانة التوجيه التربويّ والخُلقي، ومن حيث شموله واستغراقه لشتّى المسائل المتعلّقة بفقه التعامل، بيدَ أنّ هذه السّعة والامتلاء تجعلاننا نفتقد موضوعاتٍ نشعر بأنّها كانت تستحقُّ أن يُفرد لها فصولٌ تستوعب مسائلها، وهي ثلاثة موضوعات تُضاف بعد الفصل العاشر، أولها: “تعامل المسلم مع غير المسلم”، وثانيها: “تعامل المسلم مع الحيوان”، وثالثها: “تعامل المسلم مع النّبات والجماد”.
الحقُّ يُقال: إنّه قد أُلّفت في هذا البابِ عديدٌ من الكتب والمؤلفات، سواءٌ ضمن باب الآداب الشرعيّة أو في ختام بعض الدواوين الفقهيّة، أو في غيرها، وسواءٌ في القديم أو الحديث- بيد أنّ هذا الكتابَ يتميّز بميزاتٍ فريدة، إذ إنّه يجمع في آنٍ واحد بين الطابع الموسوعيّ من حيث استيعابه لمختلف الدلالات الشرعية بأسلوبٍ سهل ٍ ممتنع، وبين الطابع المسلكيّ العمليّ التطبيقيّ، فهو من هذه الناحية بمثابة الدليل المرشد للمسلم المعاصر، في شتّى شؤون المعاملة التي هي جوهر الدّين، سواءٌ (معاملة الحق ـسبحانه ـ ومعاملة الخلق من الإنس والجنِّ والحيوانات والنَّباتات والجمادات وغيرها)9. كلُّ ذلك في كتابٍ لا يتجاوز الأربعمائة صفحة من القطع الكبير10.
فجزى الله فضيلة الشيخ المؤلِّف على ما بذله من جهدٍ موسوعيّ في استقراء مادّة هذا الكتاب، وعلى ما أبدع فيه من جودة السّبك والتأليف.
الفهرس
1- رواه الترمذي (1924) وأبوداو (4941) وأحمد (6494), وصحَّحه الشيخ الألباني في صحيح الجامع (3522) والصحيحة (925).
2- ص4 من مقدمة الكتاب.
3- ص10
4- ص6
5- ص34
6- ص93
7- ص332
8- ص412
9- ص34
10- صدرت الطبعة الأولى للكتاب، في الرّياض، بدون ذكر دار نشر، عام 1424هـ- 2004م.
(المصدر: الملتقى الفقهي)