بقلم الشيخ أحمد البان – إسلام أون لاين.
يعتبر كتاب :”المسلم في عالم الاقتصاد” من أهم كتب المفكر الجزائري مالك بن نبي. بيدَ أني ألاحظ أن هذا الكتاب المهم جدا، لم يأخذ نصيبه الطبيعي من الدراسة والشهرة عند القراء والمهتمين بتراث مالك بن نبي على الأقل، مقارنة ببعض كتبه الأخرى التي أشبِعَت دراسة ونقدا.
ولعل ذلك يعود إلى جملة أسباب منها موضوع الكتاب، فالكتاب يتحدث عن “علاقة المسلم بالاقتصاد”، تلك العلاقة التي لا يهتم بها العرب والمسلمون كثيرا، كما أنها ـ في نظر الكثيرين ـ تحتاج إلى وضع أساس عمليّ أكثر مما هو نظريّ، من أجل بناء اقتصاد إسلامي ناجح ينهض بالأمة، ويرفع من مكانتها بين الأمم الساعية إلى التقدم.
معركة تحدي عالم الاقتصاد
قسم مالك بن نبي كتابه هذا، إلى ثلاثة عناوين رئيسية، وسماها: أجزاء. تحدث في الجزء الأول عن صور العلاقات الإقصادية في العالم، وحدود الاختيار الإسلامي، أما في الجزء الثاني فتحدث عن خريطة توزيع الإمكانات الاقتصادية في العالم والأسس الحضارية لعالم الاقتصاد، وفي الجزء الثالث والأخير تحدث عن شروط الانطلاق، وتحقيق الديناميكا الاقتصادية.
يدعو مالك من خلال هذا الكتاب الفكرَ الإسلامي إلى “خوض معركة كبرى لمواجهة تحدي عالم الاقتصاد، بصفته رجلا حرا لا يطأطئ الرأس أمام عجل الذهب، ولا أمام زخرف القول الماركسي” ص:106}، كما يدعوا أيضا إلى اعتماد “أسلوب إنشاء المفقود، لا أسلوب وصف الموجود”. ص:60.
المسلم وصدمة الاستعمار
بدأ مالك ابن نبي كتابه بتقديم صورة محزنة عن الواقع الذي كان المسلم يعيشه في العقود المنصرمة، وقال إن المسلم:”لم يكن عندما فتح عينيه في عالم الاقتصاد بعد أن نالته الصدمة الاستعمارية سوى قنّ يسخَّرُ لكل عمل يريده المستعمر، فينتج المطاط في حقول الهند الصينية (فيتنام) والفول السوداني في إفريقيا الاستوائية، والأرز في بورما، والكاكاو في جاو (إندونيسيا) والخمور في الشمال الإفريقي”ص:7.
إن المسلم في تلك اللحظة كان مجرد يد عاملة مُسترَقَّة من طرف المستعمر، لذلك ظل يبذل كل طاقاته وقدراته المختلفة من أجل تلبية طلبات المستعمر، وتوفير حاجياته في مجال الاقتصاد، وعلى ما يبدو أن المسلم حينها لم يعمل على بناء اقتصاد إسلامي يحقق اكتفاء ذاتيا يعود على الأمة بالتقدم والازدهار.
ولعل تلك الهمّة الضعيفة هي التي تسببت في تجاهل دوره تماما، فأصبح لا يُنظرُ إليه باعتباره “المنتج الذي يرعى حقه، ولا المستهلك الذي ترعى حاجته”، وهنا ظهر مستوى ضعف وعيه الاقتصادي، وافتقاره إلى القناعة بقدراته الذاتية، التي كان بإمكانه أن يؤسس من خلالها اقتصادا قويا، ينافس في السوق العالمية.
إن قناعة الدول بقدرتها على تحقيق الاكتفاء الذاتي في المستقبل، تعتبر من أهم المسائل المساعدة على بناء الاقتصاد، لأن القناعة بالقدرات الذاتية هي التي ستدفع الدولة إلى الأمام، لتجعل منها دولة قوية اقتصاديا، ومتطورة علميا. وعندما نقارن بين تجارب الدول نجد أن الدولة التي عملت بشجاعة على تحقيق الاكتفاء الذاتي، هي الدولة التي استطاعت أن تتقدم في مجال الاقتصاد بخطى واثقة.
وأكبر مثال على ذلك، الصين التي استطاعت أن تتقدم “بسرعة مرموقة، لأنها طبقت منذ اللحظة الأولى في خطط تنميتها، مبدأ الاتكال على الذات، أي بالتعبير الاقتصادي: مبدأ الاستثمار الاجتماعي من الإنسان الصيني، والتراب الصيني..” ص:76.
ثقافة التبعية وغياب التخطيط
ينتقد بن نبي على النخب المثقفة تقليدها للعادات والأذواق، الذي يؤدي بدوره إلى تقليد الأفكار، كما عاب عليها تبعيتها المطلقة للغير في مجال الحلول الاقتصادية، حيثُ يرى أن هذه النخب “تقف مجرد موقف اختيار بين لبيرالية (آدم سميث) ومادية (ماركس)، كأنما ليس للمشكلات الاقتصادية سوى الحلول التي يقدمها هذا أو ذاك..” ص:8.
لقد آنَ لنخبتنا المثقفة أن تفهم الأدوار المنوطة بها، فتعمل على إخراج الشعوب من مربع التخلف والتبعية، وتعتمد على أسس حضارتها وأفكارها وعاداتها وأذاوقها وقيمها، في بناء اقتصادها، من خلال قناعة راسخة، وتخطيط واضح.
إن تخلف الشعوب تعود أسبابه إلى جملة عوامل من بينها: عوامل اقتصادية، فنحن نحتاج اليوم أن “نتدارك التخلف الناشئ عن اقتصاد ما زال في مرحلته الابتدائية، فلكي يصل إلى المرحلة الثانوية أي مرحلة التصنيع، فليس له ما يعتمد عليه سوى الزراعة من ناحية، والمواد الأولية (الخام) من ناحية أخرى، وهذان هما ثديا الاقتصاد الإسلامي على العموم ووسيلتا بعثه..” ص:25.
يعتبر ابن نبي أن العجز الاقتصادي الذي تتعلل به بعض الدول الإسلامية، لا يعود بالدرجة الأولى إلى:”قصورا في الإمكان بل إلى قصور في التصرف والسياسية والتخطيط، والكساد الفكري الذي يجب رفعه لتحريك الطاقات المعطلة”ص:81. ويمكن هنا أن أسوق مثالا حديثا على هذه الحقيقة، حيث أعلنت حكومة هشام قنديل عن قرارات اقتصادية أبرزها: زيادة الصادرات، ودعم الطاقة، وإعفاء الفلاحين من الديون، ووُصِفَتْ الحكومة حينها بـ”حكومة الخبراء الاقتصاديين”. ولو قدر لتلك الخطة أن تطبق لما أعلنت مصر بعد ذلك عجزها وطالبت بقروض من البنك الدولي لإنعاش اقتصادها المحتضر.
تغيير الوضع الاقتصادي
إن الدول الإسلامية العربية مطالبة اليوم أكثر من أي وقت مضى بالعمل بجد من أجل تغيير وضعها الاقتصادي إلى الأحسن، لأن الاقتصاد أصبح من أدوات البناء، بل أدوات الدفاع عن السيادة التي لا غنى عنها لأي دولة. فكما أن التعليم والقيم الدينية يؤديان دورا فعالا في تأسيس الحضارات الإنسانية، فإن الاقتصاد يقدم هو الآخر دورا كبيرا في بناء الدول واستقرارها وازدهارها.
والحقيقة المرة التي يتجاهلها الكثير منا هي أن “العالم الإسلامي يواجه اليوم “حالة طوارئ” تفرض عليه أن يتخذ قرارات صارمة في المجال الاقتصادي، كما تتخذ قيادة عسكرية قراراتها لمواجهة ظروف استثنائية..”.ص:96. ولكن عالمنا الإسلامي “ليس بيده أن يغير أوضاعه الاقتصادية إلا بقدر ما يطبق خطة تنمية تفتق أبعاده النفسية وتخلِّصه من تركة عصر ما بعد الموحدين، من خرافاتها وعقدها ومسلماتها الوهمية..” ص:77.
بقي أن أقول إن التحديات المختلفة التي تواجه العالم الإسلامي، ينبغي أن تكون دافعا له إلى العمل بجد من أجل بناء اقتصاد إسلامي يَنتُجُ عنه اكتفاء ذاتيٌّ، يدعو إلى العمل، ويُسهِمُ في توسيع دائرة الإنتاج، ويفتح الباب على مصراعيه للاستفادة من “الإمكانيات الاقتصادية المهملة” ـ كما يسميها ابن نبي ـ، والأسئلة التي تطرح نفسها في الختام: متى نؤمن بإمكانياتنا الخاصة، ومتى نحرك طاقاتنا المعطلة، ومتى نمتلك اكتفاءًا ذاتيا، ووعيا اقتصاديا؟.