بقلم غازي التوبة – مدونات الجزيرة
لقد مر العالم العربي بثلاث تجارب من الحداثة، كانت الأولى بعد الحرب العالمية الأولى، والثانية بعد الحرب العالمية الثانية، أما الثالثة فهي التي بدأت بعد ثورات الربيع العربي، ونحن سنستعرض التجارب الثلاثة، ونحدد آثارها في مسيرة الأمة.
انتقلت بعض دول العالم العربي إلى الحداثة بعد الحرب العالمية الأولى، مثل: العراق، ومصر، وسورية، ولبنان والأردن، وتونس… إلخ، وجاء الانتقال بعد سقوط الخلافة الإسلامية في اسطنبول، وتفكك الدولة العثمانية، ولقد قامت الحداثة في هذه الدول على أربعة أركان، هي: الفكر القومي، العلمانية، الاقتصاد الرأسمالي، والنظام الديمقراطي الليبرالي. وقد استهدفت القيادات التي تبنت الحداثة نقل العالم العربي إلى النهضة والتقدم والارتقاء، وبناء دول ومجتمعات تساهم في العمران الحضاري.
لم تنجح تجربة الحداثة الأولى لأنها تنكرت للدين في العناصر الأربعة التي قامت عليها، فكانت نتيجة هذا التنكر للدين تفكيك الفرد والمجتمع وعدم قيام نهضة، ووقوع نكبة 1948، والتي جاءت بإسرائيل، والتي مثلت زلزالا هز كل أركان المنطقة، والذي كشف الخراب الذي أفرزته مفردات الحداثة بسبب التطبيق الحرفي لها وعدم القيام بمواءمتها مع شخصيتنا التاريخية.
ثم انتقل العالم العربي بعد الحرب العالمية الثانية إلى مجموعة أخرى من مفردات الحداثة، وهي: القومية العربية والعلمانية مرة أخرى، ولكن حلت الاشتراكية محل الاقتصاد الرأسمالي، وحلت الديمقراطية الموجهة محل الديمقراطية الليبرالية، وقد طبقت هذه المفردات قيادات مصر بعد ثورة 1952، والعراق وسورية بعد انقلاب البعث عام 1963، واليمن بعد انقلاب 1962، والجزائر بعد استقلالها عام 1962.
لكن مفردات الحداثة الجديدة لم تولد نهضة ولا تقدما، بل ساهمت مفردات الحداثة الجديدة في توليد اضطراب جديد للفرد العربي المسلم، وبنائه النفسي والعقلي وعلاقته الاجتماعية، وبخاصة عندما علت النبرة من الطرح الاشتراكي في اعتبار الدين قائما على الخرافات والأوهام، وبأنه يجب اقتلاعه من المجتمع ومن حياة الفرد المسلم، لأنه السبب في التعثر والانحطاط وعدم النهوض، ورسمت الحكومات الاشتراكية آنذاك خططا لتنفيذ تلك الآراء من أجل تحقيق التقدم، ودحر الرجعية.
ثم كانت نتيجة ذلك الطرح الحداثي انهزام ثلاثة جيوش عربية أمام إسرائيل، ووقوع نكسة حزيران عام 1967، إذ احتلت إسرائيل في ستة أيام سيناء من مصر، والضفة الغربية من الأردن، والجولان من سورية.
انطلقت أحداث الربيع العربي في كانون الثاني (يناير) عام 2011، وانطلقت دعوة جديدة إلى دخول عالم الحداثة مرة ثالثة، ولكن هذه المرة كانت الدعوة إلى دخولها من باب الديمقراطية، ونقلها إلى عالمنا العربي بشكل حرفي كامل.
من الواضح أن الديمقراطية تقوم على محورين:
الأول: الآليات، وهي انتخاب الحاكم ومحاسبته، وتداول السلطة، وحرية الرأي، والسماح بإقامة الأحزاب والجماعات إلخ…
الثاني: المبادئ، وهي نسبية الحقيقة، المادية، الحرية الفردية المطلقة، استهداف المصلحة والمنفعة في كل عمل. ومن المؤكد أن الآليات تتوافق مع ديننا والمبادئ تتعارض معه.
عقد راشد الغنوشي المؤتمر العاشر لحزب حركة النهضة، وطرح عدة أمور بهذا المؤتمر، وكان من الواضح أن كل القرارات المتخذة بالمؤتمر السابق جاءت بصورة تنازلات من أجل أن يسهّل تطبيق مبادئ الديمقراطية
لقد طبق النظام الديمقراطي في ثلاث دول هي: مصر، وتونس، والمغرب، أما مصر فقد تعثرت التجربة منذ البداية، ولم تدم إلا سنة واحدة من حزيران (يونيو) عام 2012 إلى حزيران(يونيو) عام 2013، والسبب في ذلك هو أن القيادة الإسلامية في مصر قررت أن تدخل عالم الحداثة وتطبق آليات الديمقراطية وألا تطبق مبادئها، لذلك قرر الغرب إلغاء التجربة الديمقراطية في مصر ودفع العسكر إلى الانقلاب على محمد مرسي.
أما في تونس والمغرب فإن التجربتين مازالتا مستمرتين وذلك لأن القيادات الإسلامية قبلت الديمقراطية بصورتها الغربية، ليس هذا فحسب بل قدمت تنازلات في مجال علاقة الإسلام بالديمقراطية، فقد قرر راشد الغنوشي في تونس أنه لا تعارض بين العلمانية والإسلام، وكان ذلك في مقال له نشره في (الجزيرة نت) بتاريخ 13/11/2008، بعنوان “الإسلام والعلمانية”.
كما عقد راشد الغنوشي المؤتمر العاشر لحزب حركة النهضة برئاسته في 20/5/2016، وطرح عدة أمور في هذا المؤتمر، وكان من الواضح أن كل القرارات المتخذة في المؤتمر السابق جاءت في صورة تنازلات من أجل أن يسهّل تطبيق مبادئ الديمقراطية.
وكذلك فعل سعد الدين العثماني الشيء نفسه في المغرب، فقدم تنازلات في اتجاه قبول مبادئ الديمقراطية، وجاءت في كتاب “الدين والسياسة: تمييز لا فصل” الذي قال فيه: “أن التصرفات السياسية النبوية نفسها نسبية، فمن باب أولى أن تكون التجربة الراشدية كذلك نسبية”(ص،34).
تعطي الديمقراطية الفرد حريته المطلقة في كل مجال: ذاته وماله وتصرفاته وعلاقاته وصياغة قيمه وأفكاره
وأعتقد أن هذه التنازلات في البلدين هي تمهيد لتنفيذ مبادئ الديمقراطية، فما هو الأثر الذي سيتركه هذا التطبيق على وحدتنا الثقافية، ووجودنا الاجتماعي، وكياننا الحضاري؟
يصطدم مبدأ نسبية الحقيقة مع النصوص التي تتصف بأنها قطعية الثبوت قطعية الدلالة في القرآن الكريم، وهذه النصوص تتعلق بالله وبالتوحيد والعبادة والأسرة والزواج والطلاق والحدود الخ…، وإن هذا التصادم سيؤدي إلى تدمير الوحدة الثقافية وسيؤدي إلى خلخلة وجود الأمة جميعا.
ويعني هذا المبدأ الاعتراف بعالم الشهادة فقط، والتنكر لعالم الغيب، وسيؤدي تطبيق هذا المبدأ إلى تصادم كبير مع كثير من قيمنا التي تقوم على الإيمان بالله الذي هو غيب في ذاته سبحانه وتعالى، وتقوم على الإيمان بالملائكة والجن والشياطين والجنة والنار التي هي غيوب، وسيؤدي إنكارها إلى اضطراب كبير في منظومة الأمة الثقافية، وفي البناء النفسي والعقلي للفرد المسلم.
تعطي الديمقراطية الفرد حريته المطلقة في كل مجال: ذاته وماله وتصرفاته وعلاقاته وصياغة قيمه وأفكاره، ويمكن أن نضرب مثالا على الحرية غير المقبولة: قرار الأمم المتحدة الذي أصدرته والذي دعت فيه إلى إعطاء الحرية للفرد بأن يعتبر نفسه أنثى أو ذكرا حسب رغبته. وهذا منتهى التلاعب والاستخفاف بالتنوع البشري الذي يقوم على أساس وجود الذكر والأنثى كحقيقتين أساسيتين متمايزتين في الوجود الإنساني، وأمثال ذلك كثير في تصرفات الإنسان الغربي.
اعتبرت مبادئ الديمقراطية أن أي عمل يجب أن يستهدف مصلحة أو منفعة أو لذة، وهذا أمر مشروع ومقبول، ولكن المشكلة أنه إذا تعارضت هذه المصلحة مع الأخلاق، فإن الأصل عندهم هو تقديم المصلحة على الأخلاق وليس من شك بأن هذا أمر غير مقبول في ديننا وقيمنا.
ليس من شك بأن تطبيق مبادئ الديمقراطية في عالمنا العربي سيؤدي إلى تدمير الوحدة الثقافية نتيجة اعتماد نسبية الحقيقة، وإلى تفكيك للروابط الجماعية التي نحن أحوج ما نكون لها في هذه الفترة نتيجة اعتماد الحرية المطلقة للفرد، وإلى خلخلة في البناء النفسي والمفاهيم في الفرد المسلم نتيجة إلغاء عالم الغيب والإقرار بعالم الشهادة فقط، وإلى اضطراب حياتي وخلقي نتيجة تقديم المصلحة على الأخلاق.
لذلك يجب أن تصر قيادات المنطقة على الآخذ بآليات الديمقراطية: من انتخاب، ومحاسبة الحاكم، وتداول السلطة وإقرار حرية الرأي الخ… ورفض المبادئ رفضا كليا لأنها ستؤدي إلى تدمير كياننا الثقافي والاجتماعي والجماعي.
من المؤكد أن لدينا ثقة كبيرة بأن أمتنا ستقبر كل محاولة للأخذ بمبادئ الديمقراطية في المرحلة القادمة، كما قبرت النقل الحرفي لمفردات الحداثة في التجربتين السابقتين من الفكر القومي إلى العلمانية إلى الاشتراكية وغيرها من المفردات.
لقد مر عالمنا بتجربتين حداثيتين سابقتين، وكانت نتائجهما مدمرة على مستوى البناء الثقافي والاجتماعي، وخسارة كبيرة على المستوى السياسي تمثل في قيام اسرائيل عام 1948، وتوسعها عام 1967. ونحن نعيش الآن التجربة الثالثة للحداثة بعد ربيع عام 2011، وتقوم هذه التجربة على اعتماد الديمقراطية، ويريد الغرب منا أن نطبق الديمقراطية بشكل حرفي الآليات والمبادئ، كما هي موجودة عنده، لكن علينا أن نأخذ الآليات، ونترك المبادئ لأنها تتناقض كليا مع مبادئ ديننا، وعلينا ألا نأخذ الديمقراطية بشكل حرفي لأن الأخذ بها سيؤدي إلى تدمير وجودنا الثقافي والاجتماعي والجماعي.