قراءة في الفعل المقاوم للداخل الفلسطيني على هامش عملية سيف القدس
بقلم ياسر عبد العزيز
لماذا مدينتي تحترق؟
(في الأيام الأخيرة اشتعلت النيران في مدينتي. خرجت مظاهرة لسكان المدن العربية تهدف إلى التماهي مع أهالي الشيخ جراح ، وإلحاق الأذى بالأقصى ، لتصبح مظاهرة عنيفة هي عملياً نتاج كل إحباط ناجم عن الجروح المفتوحة للسكان العرب في بلدنا) هذا ما قالته إحدى المستوطنات في مدينة اللد المحتلة في مقابلة مع موقع Ynet الذي يعد موقعا إخباريا رائدا في كيان الاحتلال منذ إطلاقه في عام 2000، فهو الأكثر متابعة من شرائح مختلفة من المستوطنين غير العرب في المدن المحتلة، هكذا ينظر المستوطنين إلى المدينة التي يعيشون فيها منذ سنوات والتي كانت مضرب المثل في التعايش بين العرب وغيرهم من المستوطنين في الكيان المحتل، بينما قالت أخرى في نفس المقابلة (إن مدينتنا تحترق، بلدنا في دائرة خطر الانقراض، لا أحد منا، لا اليهود ولا العرب، يريد ولا ينوي مغادرة هذا البلد، لذلك ليس لدينا خيار سوى التحدث مع بعضنا البعض).
فيما يرى عربي من نفس المدينة أن العرب في اللد يعانون منذ سنوات من تدهور في الأوضاع الأمنية في ظل تجاهل كامل من جانب الشرطة والبلدية، ويرجع الظاهرة إلى إهمال التعليم العربي في المدينة، وعدم وجود حلول للبنية التحتية للأحياء العربية، مشيرا إلى أن كل ما قاله إنما هو محاولة لوصف الواقع لإيجاد حل، مؤكدا أن كل هذه الأوضاع رغم ذلك لا تدعو لاستدعاء العنف.
الشيخ جراح له رأي آخر
كان لأحداث الشيخ جراح والصمود البطولي للمقدسيين، والذي تحول إلى دفاع أسطوري عن المسجد الأقصى دفع العشرات من المقدسيين من دمائهم وحريتهم فيه، دورا كبيرا في التحول الكبير في مواقف المقدسيين جميعا، وعرب الداخل كافة، إلا شرذمة، ولعل الانتفاضة التي يشارك فيها فلسطينيو الداخل والممتدة والمستمرة والمتنوعة حتى وصل الحال لاستخدام المقاومة الخشنة ضد قوات الاحتلال في عدد من المناطق أهمها مدينة اللد، تلك الانتفاضة وما شملته من مقاومة أربكت قيادة الكيان المحتل، فلقد عمل الاحتلال الصهيوني ومنذ بدايات الاحتلال على مشاريع دمج العرب أصحاب الأرض مع المستوطنين، وتنوعت أشكال الدمج، كما تنوعت أشكال الرشا والوعود، وبالتوازي كانت منهجية سلخ العرب من أمتهم جارية على قدم وساق، إذ أن اللغة العربية همشت في المناهج التعليمية لضمان تنشئة أجيال لا تعرف العربية؛ ومن ثم لا تستطيع الرجوع للمصادر العربية في البحث عن هويتهم أو حتى الوجه الآخر للقضية، وعليه وبالنتيجة فإن التاريخ له وجه غير ذلك الذي يراه الفلسطينيون في باقي الأراضي الفلسطينية وتفسير الأحداث من ثم مختلف، ناهيك عن عمليات الدمج المجتمعي من خلال الجمعيات أو الخدمات المقدمة لكل من لم يشارك في برامج الدمج أو امتنع، ولعل ثمرة هذه الخطة شهدت أوج نجاحها في شخص عبد الوهاب دراوشة المواطن العربي المولود في الجليل الذي انضم لحزب العمل قبل أن يؤسس حزبا باسم الحزب الديمقراطي العربي، وهو النموذج الذي طالما ضرب به المحتل المثال على التعايش والاندماج بين العرب وغيرهم ممن أتوا من كل حدب وصوب لصناعة الكيان المحتل، لكن الأحزاب الصهيونية هي الأخرى لم تتوقف عن محاولات استقطاب العرب ودغدغة مشاعرهم من خلال إدراج برامج لمساواة العرب بغيرهم من مستوطني الأرض في برامجها وإطلاق الوعود بخدمات ومميزات للعرب في الحملات الانتخابية، بل وأدخلت الأحزاب مرشحين من العرب سكان الأرض الأصليين على قوائمها، ولعل حزب كاديما من أشهر الأحزاب التي دأبت على صناعة هذه الحالة، ولا يمكن إنكار أن المحتل الصهيوني استطاع إلى حد كبير دمج غالبية السكان العرب، لكن ومع تصاعد نشاط الحركة الإسلامية في الداخل بقيادة الشيخ رائد صلاح تأثرت عمليات الدمج إلى حد بعيد.
التهميش والهوية ونشأة الحركة الإسلامية
بحسب تقارير المراكز الصهيونية نفسها فإن حالة التهميش التي يعيشها فلسطينيو الداخل ظاهرة لم تستطع المراكز البحثية تجاوزها، كما أن عمليات طمس الهوية الممنهجة سواء في التعليم أو التثقيف أو حتى في طريقة العيش واضحة حتى أنه لا يمكن تجاوزها في أي بحث يتحدث عن الحالة الفلسطينية داخل الخط الأخضر وأراضي 48 ولعل هذه حالة التهميش وطمس الهوية تلك يضاف عليها هزيمة 1967 والانتهاكات المستمرة من الاحتلال والتي تجسدت في أحد أمثلتها في الدوريات الخضراء وما كان لها من أثر في نفوس فلسطينيي الداخل وليس النقب وحدهم، واقتلاع الزيتون من حدائق الفلسطينيين وغيرها من المشاهد التي تخالف عمليات الدمج المزعوم، مهدت لنشأة الحركة الإسلامية في الداخل بقيادة عبد الله نمر درويش، والتي يقود جناحيها في الشمال الآن كل من الشيخ رائد صلاح والشيخ كمال الخطيب، بعد خلافهما مع درويش إثر توقيع اتفاقية أوسلو، ولقد كان للعمل المجتمعي والثقافي والدعوي الذي اضطلعت به الحركة منذ اليوم الأول دورا في انتشارها، لكن مشاهد المقاومة السلمية للحركة بجناحيها في الشمال للدفاع عن الأقصى والمقدسات وعن الحقوق المشروعة للفلسطينيين ومحاولات منع تهجيرهم أو اغتصاب أراضيهم ومنازلهم دور كبير في ترسيخ هذه الشعبية وتقويم ما أفسدته مشاريع الاندماج التي أنفق عليها الاحتلال ملايين الدولارات وكشفت عشرات الوعود التي لم ينفذ منها شيء، والتي في الغالب تصاحب موسم الانتخابات، وأسهمت مؤسسة الأقصى التي أسستها الحركة الاسلامية (الجناح الشمالي) في ترميم العديد من المساجد، وأولها المسجد الأقصى، وفضح السياسات الإسرائيلية ومخططات تهويد المعالم العربية والإسلامية خاصة في مدينة القدس، كما دعمت الحركة المرابطين في الأقصى كخط دفاع متقدم لمحاولات التهويد والتغيير، ما جعل فلسطيني الداخل مع كل هجمة للمستوطنين على الأقصى يهبون لنصرة الأقصى ودعم المرابطين، ولعل المشهد المتكرر للقبض على الشيخ رائد صلاح وإيداعه السجن أو إبعاده عن القدس، وهو المشهد الذي جاوز نصف عمر الرجل، له أثر كبير في نفوس الشباب تحديدا، الأكثر حماسة وأكثر وعيا بعد أن نمت داخلهم القضية، ولعل تجليات عمل الحركة الإسلامية ظهرت إبان انتفاضة الأقصى الثانية في 2001
لم يكن فلسطينيو الداخل بنفس ردة الفعل التي نراها الآن عندما تقصف غزة، إذ أن كل المعطيات سواء من الاحتلال أو السلطة وهو ما يرسخه الواقع قد قسم القضية إلى غزة وضفة وداخل فلسطيني، ولكل مشاكله ولكل نظرته في حلها، لكن ومع انطلاق عملية سيف القدس من غزة لتخفيف الضغط عن المقدسيين والأقصى تغيرت النظرة كثيرا، وهو ما يمكن فهمه من استجابة كامل الأراضي الفلسطينية لدعوة الإضراب العام منذ أيام والتي شارك فيها فلسطينيو الداخل، وتجاوزت الاستجابة فعل الإضراب إلى حراك في تظاهرات بل ومواجهات مع جنود الاحتلال في عدد من الأحياء والبلدات، ما يعني أن فعل المقاومة تراكم إلى حد لم يعد فلسطينيو الداخل هم من عرفهم الاحتلال ونمطهم.
ماذا بعد انتهاء العمليات العسكرية؟
طال الأمد أو قصر ستنتهي العمليات العسكرية، ولعل طلب نتنياهو من الرئيس الأمريكي بايدن بمد العمليات لثلاثة أيام قبل يوم من كتابة هذه السطور يؤكد أن العمليات ستنتهي ويرغب نتنياهو أن يحقق شيء ما لم يستطع تحقيقه حتى الآن رغم مئات الشهداء في غزة والضفة وعشرات المساكن المدمرة في غزة ومئات المعتقلين في الضفة والداخل، لكن يبقى السؤال ماذا بعد انتهاء العلميات العسكرية؟
في كل مرة يتم الاتفاق الشفهي بين أطراف الصراع يقوده وسطاء للتهدئة ووقف إطلاق النار ويعود كل طرف من حيث أتى وتبدأ حملة إعادة الإعمار التي في الغالب تقودها قطر وتركيا وعلى استحياء كل من ماليزيا والكويت خلال السنوات الأخيرة، بعد أن انسحبت السعودية وتوابعها في الخليج من مشهد إعادة الإعمار لأسباب لا مجال لذكرها، لكن هذه المرة هناك معطيات جديدة دخلت على الخط وهي الفعل المقاوم سواء السلمي أو الخشن خلال عملية سيف القدس في الداخل الفلسطيني والضفة الغربية، فإن كان الشاباك سيتكفل بمساحات عمله فإن على السلطة وأجهزتها الأمنية أن تضطلع هي الأخرى بمهامها وضبط الأمن في مساحات عملها، وهو ما يعني أن كل من خرج نصرة للأقصى والقدس ورفضا لسياسة التهجير والتغيير وسرقة المقدسات بات هدفا للأجهزة الأمنية سواء في الداخل أو الضفة، ولعل حالة التضافر التي يعيشها الفلسطينيون الآن منعت كثيرا من عمليات الاعتقال لكنها لم تلغها فالقوائم ما زالت موجودة، وديدن الأجهزة الأمنية أن تمرر الموجة ثم تصطاد عندما تهدأ الموجة.
شروط حماس المنقوصة
منذ الأيام الأولى للعدوان تدخل الوسطاء لوقف إطلاق النار لاسيما وأن المشهد الأول من مسلسل العملية كان مفجعا من قبل الصهاينة وكل المراقبين، فالكثافة النيرانية والتنسيق الدقيق بين فصائل المقاومة، أرسلت رسالة فهمها الجميع، لكن مع ذلك لم تقبل حماس وفصائل المقاومة وقف إطلاق النار وكان لهم طلبات بينها خالد مشعل في لقاء تلفزيوني تمثلت في: ( الخروج من المسجد الأقصى والسماح بحرية الصلاة والوجود فيه، والتوقف عن جريمة تهجير أهالي الشيخ جراح، والإفراج عن المعتقلين في التصعيد الأخير، ووقف العدوان على غزة)
لكن شروط حماس هذه جاءت قبل أن تتحرك الجماهير في الضفة والداخل بهذا الشكل الكبير والعفوي راكنة على المقاومة ومستندة إليها، ومن ثم فإن هذه الشروط لن تحمي من خرج في الضفة والداخل حتى ولو بمظاهرة دعما للمقاومة ورفضا لانتهاكات الاحتلال والسلطة تجاه مقدساتهم وأملاكهم وحرياتهم، ما يضع الآلاف على المدى البعيد والمئات على المدى القريب تحت مطرقة التنسيق الأمني بين أجهزة السلطة في رام الله وبين استخبارات كيان الاحتلال، ويضع المقاومة في غزة وحماس تحديدا على المحك إن هي لم تجد صيغ مبتكرة لحماية فلسطينيي الداخل والضفة، كما أن عدم استفادة المقاومة من الزخم الشعبي من خلال تنسيق أكثر عمقا وتطورا مع الداخل والضفة سيفقد القضية بمنظورها الشامل ورقة مهمة يمكن الضغط بها، ومن ثم عدم الاستفادة منها سيسبب ارتداده كبيرة في القضية وستؤثر بالنتيجة على المقاومة وحاضنتها الشعبية التي هتفت باسم قيادات القسام في عمق الداخل الفلسطيني، ولعل الفرق بين الدول الجماعات هو المؤسساتية وطول النفس وعلى المقاومة أن تقدم أوراق اعتمادها سياسيا بعد ان نجحت عسكريا على الأقل حتى الآن وكسبت ثقة الشعب الفلسطيني ووحدته من جديد حول قضيته.
(المصدر: ترك برس)