مقالاتمقالات مختارة

قراءة سياسية في حديث السفينة

قراءة سياسية في حديث السفينة

بقلم التهامي مجوري

فحديث السفينة هو قوله صلى الله عليه وسلم: “مَثَلُ القائِمِ علَى حُدُودِ اللَّهِ والواقِعِ فيها، كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا علَى سَفِينَةٍ، فأصابَ بَعْضُهُمْ أعْلاها وبَعْضُهُمْ أسْفَلَها، فَكانَ الَّذِينَ في أسْفَلِها إذا اسْتَقَوْا مِنَ الماءِ مَرُّوا علَى مَن فَوْقَهُمْ، فقالوا: لو أنَّا خَرَقْنا في نَصِيبِنا خَرْقًا ولَمْ نُؤْذِ مَن فَوْقَنا، فإنْ يَتْرُكُوهُمْ وما أرادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا، وإنْ أخَذُوا علَى أيْدِيهِمْ نَجَوْا، ونَجَوْا جَمِيعًا” [رواه البخاري عن النعمان بن بشير].

وهو حديث يعتبر من أدق الأحاديث في تصوير حركة المجتمع وعلاقة أفراده ببعضهم البعض، فيما يتعلق بالقضايا الجماعية، ونشاط الأفراد في إطار المجتمع، وهي قضايا وعلاقات مبنية على التعاقد الجماعي الذي له طابع سياسي؛ لأن مبناه على الحقوق والواجبات المترتبة على التعاقد المبرم، فإن قراءة الحديث لا يمكن أن تكون إلا سياسية.

فالحديث له خمسة أركان.

  1. السفينة وهي تمثل الحيز الذي يضم الجماعة
  2. حدود الله وتمثل المنظومة القانونية التي تحكم الجماعة
  3. الاستهام وهو الاقتراع، أي أن الجماعة تجري القرعة في بعض الأمور لتحديدها وضبطها وواجب الأفراد فيها
  4. ميولات جزئية للأفراد في الجماعة
  5. واجب الجماعة تجاه تلك الميولات الفردية والجزئية

فالسفينة إذن هي الوطن أو الدولة أو المدينة أو القرية. ومن طبيعة هذه الساحات أنها تجمع في أحضانها مجموعة من البشر، وتشمل الكثير من القناعات والتوجهات والطبائع لأولئك الأفراد الذين احتضنتهم الساحات، ففيهم الشاب والشيخ والكهل والرجل والمرأة. وهؤلاء بمجموعهم لا يمكن أن يكونوا نسخا من بعضهم البعض، مهما كان هؤلاء الأفراد متقاربين، نسبا وفكرا وأيديولية؛ لأن الله خلقهم بطبيعتهم مختلفين (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً ۖ وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ، إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ ۚ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ ۗوَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ)  [هو 118-119].

وسنة هذا الاختلاف تفرض قيما أخرى وآليات لضبطه، لتحويل آثار ذلك الاختلاف الفطري الجبلي، من الإختلاف المفضي للتنازع والتناحر والاحتراب، إلى الالتقاء والتحاور والتوافق، فكانت القوانين والشرائع لتهذيب سلوك الأفراد وجانب من سلوك المجموعات.

والاستهام في قوله صلى الله عليه وسلم ” قَوْمٍ اسْتَهَمُوا علَى سَفِينَةٍ”، أي اقترعوا من القرعة..،  والاقتراع على السفينة، لا يكون إلا على المواقع فيها؛ لأن السفينة شأن عام يهم كل من على ظهرها، فأنتج الاقتراع أن كان “بَعْضُهُمْ أعْلاها وبَعْضُهُمْ أسْفَلَها”، وهذا المشهد وإن كان المراد المباشر منه هو أن بعضهم في الأعلى وبعضهم في الأسفل، فإن دلالة الحديث أعمق من ذلك بكثير، وهي أن عملية الاقتراع عندما تجرى في مجتمع ما، فإنها تفرز مواقع ومختلفة ومتباينة متفاضلة، وليس مجرد الوجود المكاني أعلى وأسفل، وإنما علو ودنو معنوي أيضا؛ لأن نتائج الاقتراع على سفينة يحتمل أكثر من جانب ومعنى.

ومن نتائج ذلك شعور البعض بالفضل عن البعض الآخر، فتظهر بعض السلوكات الخارجة عن الصالح العام، فتكون أحيانا من قبل المفضول حتى يلحق بالفاضل، وأحيانا تكون من الفاضل شعورا منه بالاستعلاء عن غيره، فيكون ذلك يمثابة القناعات والميولات والخصائص الفردية، التي لا تراعي مصلحة الجماعة بقدر ما تنظر إلى ما تبين لها من حق في الإطار الضيق، من غير شعور بالسلبيات التي تترتب عن الفعل القاصر عن رأي الفرد وموقفه.

فالذي اقترح الخرق في السفينة لم يلتفت إلا إلى مصلحة مجموعته الضيقة “لو أنَّا خَرَقْنا في نَصِيبِنا خَرْقًا ولَمْ نُؤْذِ مَن فَوْقَنا”، فهو لم يرد أن يؤذي غيره، على اعتبار أن الخرق الذي سيقوم به هو في نصيبهم، وأيضا لا يريد أن يؤذي من فوقهم، ولكنه لم ينتبه إلى أن الخرق سيدخل الماء إلى السفينة فيغرقها.

فواجب الجماعة –كلها- في مثل هذا الحال أن تقوم بواجب منع من يقوم بالخرق، مهما كانت نيته ومهما كانت مبرراته؛ لأن فعله وإن كانت فيه مصلحة جزئية، فمضاره الكلية أكبر؛ لأن المصلحة الجزئية ذاتية تتعلق بفرد أو بمجموعة أفراد، أما المصلحة الكلية فعامة ومتعلقة بالمجموع.

على أن الفرد إذا ترك ليفعل ما يريد وما يرى، حتى وإن كانت له مصلحة شخصية، فإن مصلحته مرهونة بمصلحة الجماعة، ومتى كان الرأي والفعل مضرا بالجماعة، لا يمكن السماح به، ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم “فإنْ يَتْرُكُوهُمْ وما أرادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا، وإنْ أخَذُوا علَى أيْدِيهِمْ نَجَوْا، ونَجَوْا جَمِيعًا”.

قد يبدو منع الفرد في مثل هذه الحالات حدّ للحريات الفردية، ولكنه في الواقع ليس كذلك؛ لأن الحكم في ذلك هو التعاقد الاجتماعي المشار إليه آنفا عند الكلام عن الاقتراع. فكل فرد ملزم بما اتفقت عليه الجماعة، في إطار ما يسمى بالعقد الاجتماعي الذي يعد من مسلمات الفكر السياسي، وهو ما من جماعة إلا وهي مسلِّمة بأن مصلحة الجماعة مقدمة على مصلحة الفرد.

(المصدر: صحيفة البصائر الالكترونية)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى