قراءة التراث.. هل هو سير في حقل ألغام؟
بقلم عبد اللطيف الخراز
ما سبق وقلناه في التدوينة التي مضت لا يتعدى كونه عبارة عن إبراز الرؤى التي بيناها وكيفية تعاملها مع تراثنا الإسلامي، مبرزين صعوبة اتخاذ كل منهما طريقة مثلى لتعاملنا مع التراث، وذلك لما تخلل كل واحدة منهما من ضبابية وعدم رؤى واضحةً في ذلك، وهو ما جعل كلا من الرؤى المتعددة ترمي بحَبل اللوم والمسؤولية على نظيراتها، مما خلق نوعا من الارتياب فيما تقدمه من رؤى وحلول ومناهج يُعتمد عليها لتكون طريقة واضحة الرؤى للسائرين عليها.
وإذا كان مالك بن نبي في كتابه “شروط النهضة” ارتكز على ثلاث ركائز أساسية للنهضة وجعل أهمها الإنسان، فإنه لا بد أن الإنسان هو محور كل تقدم حضاري وثقافي، ولا يكون ذلك إلا بوقوفه على أدوات التقدم لكل حضارة حتى يتمكن من الإبداع فيها والدفع بها إلى الأمام، وكذلك أيضا هو المحور الرئيسي في تقدم أي تراث كان، وإن كان غرضنا هنا تراثنا الإسلامي، فالإنسان إذن هو قطب الرحى في كل شيء، وليكون كذلك لا بد من اعتماد منهجية معينة لهذا الانسان يتبلور عليها ليكون مؤهلا للخوض في هذا التراث والاستفادة منه استفادة تمكننا من معرفة ما ينبغي الوقوف عليه وما ينبغي تجاوزه من هذا التراث، وأول منهجية في هذا الطرح هي:
ما ينقصنا حقا هو ليس حاجتنا إلى وحي جديد، فزمن الوحي والرسل ولى ولم يعد له وجود يُنتَظر مع خاتم الأنبياء محمد عليه الصلاة والسلام، وإنما نحن بحاجة إلى إعادة إحياء ما جاء به من الوحي وما تشكل عليه من تراثنا منذ ذلك الوقت إلى يومنا هذا، فأهم شيء هو في كيفية تعريف هذا الإنسان بتراثه وإقناعه به حتى تصير له قناعة بأن لنا تراثا يشكل هويتنا الوجودية كما أن للآخر له تراث يشكل هويته أيضا.
وهذا الموضوع وإن كان طرحه محمد أركون والجابري وغيره ممن أشتغل على تراثنا بمنهج اعتمد فيه على المناهج الحديثة ليصيغ لنا معرفة معينة بتراثنا ما لبث أن تلاشى ولم يعد له وزن يذكر، لا لشيء إلا لنقصهم في الجانب المعرفي بتراثنا، فإنهم لم يتعرفوا عليه من داخله وإنما فقط بما جاءو به من منهاج حديثة متأثرين بما لدى الآخر في هذا الجانب. ليتضح بذلك أنه لا بد لنا من إعادة النظر أولاً في تراثنا نضرة الذي يود أن يتعرف عليه معرفةً حقةً والوقوف عليه وقفةً طويلة ومتأملة فيه عسى أن نتلمس فيه جانب هويتنا، ونتعرف من خلالها على أنفسنا التي بمعرفتها نكون قد وقفنا على معرفة من عرَّفنا بهويتنا وهو تراثنا.
ذكر إدوارد سعيد في كتابه “الاستشراق” أن أهم قضية من القضايا الثلاث التي ارتكز عليها الغرب لدراسة الشرق بغية إحكامه والسيطرة عليه بهدف استعماري هي قضية المعرفة التامة المفضية إلى تسهيل فرض سلطته عليه والتحكم فيه، فإنه لا تحكم في شيء إلا بمعرفته جيدا، وهذا وإن كان في الجانب السياسي والاستعماري فإن مفهومه نجد له ظِلاًّ في الجانب الذي نتحدث عنه.
وذلك أن معرفتنا بتراثنا بجميع جوانبه تمكننا من الإلمام به وفرض قُدُراتنا ومُكتسباتنا التي اكتسبناها من المعرفة به وبسطها عليه حتى يسهل علينا تتبع جانب الإبداع فيه وكذلك الوقوف على ثغور نكون عليها مرابطين من أجل حل ائتماني لكل ما يمكن أن يكون تهديداً لتراثنا من هذه الثغور، فإذا لم تقُدنا المعرفة لهذا فلا يمكننا أن نستفيد من تراثنا استفادة نطمح من ورائها إلى الإبداع وتنزيله على مجتمعاتنا، فإنه آنذاك يترتب علينا من جديد الرجوع إلى القضية المعرفية والنظر فيها لنصل من خلالها إلى الجانب الاستحكامي.
ولا يمكن أن يكون ذلك الاستحكام الناتج عن المعرفة إلا بنظرتنا وقراءتنا الشمولية والمتكاملة لتراثنا حسب ما ذهب إليه طه عبد الرحمن في كتابه “الحوار أفقا للفكر” حيث يقول “فلو أنّ الغرب أخذ بمبدأ “تفاصل” أو تباين المعارف، فالمعرفة الإسلامية تتداخل أقسامها تداخلا كاملا، بحيث يبدو الفقه موصولا بعلم الكلام، وعلم الكلام موصولا بالفلسفة، والفلسفة موصولة بأصول الفقه؛ فقد حصل في التراث الإسلامي تداخل قويّ بين المعارف إلى حدّ أنّ بعض العلماء جمعوا بين الطب والفقه أو بين الفلسفة وأصول الفقه. فلا مفرّ لنا عن التكامل، لندخل إلى الحداثة محتفظين بعلاقتنا مع التراث الذي لابدّ لاستئناف النظر فيه من البحث عن الحبل السري الذي يمكن أن يربط بين الإبداع والنهضة في لحظة من لحظات الفعل الحضاري”.
صراحة ما تفوق علينا الغرب إلا ببناء ما توصل إليه على أكاديميات وجامعات متفوقة ومتخصصة في دراسة كل ما له علاقة بالقضية التي يتم دراستها وتحليلها
صراحة ما تفوق علينا الغرب إلا ببناء ما توصل إليه على أكاديميات وجامعات متفوقة ومتخصصة في دراسة كل ما له علاقة بالقضية التي يتم دراستها وتحليلها، وهذا لا يعني إغفال باقي القضايا الأخرى وإنما للإبداع وإضافة شيء معين لا بد من الاعتماد على هذه المقاربة، وهي ما نجدها عندنا تكاد تنعدم حتى إن وجدت فهي ليست بذلك الثقل المرجوِّ منها.
فنحن بحاجة إلى تبني مثل هذه المقاربات إن أردنا إضافة شيء معين لتراثنا والإبراز فيه، وهذا لا يقتصر فقط على جهة أو دولة بحدتها – وإن كان لا بد منه أيضا- وإنما على المشاركة والاشتغال على هذه المقارنة بتبني كل من يعنه الأمر في هذا، فإنه لا بد للاشتعال على هذه المشاريع أن يكون هناك نسيق بين كل الأطراف والاشتغال على كل تخصص بعينه ضمن مشروع متكامل هدفه صك وسبك ما عندنا بهدف البناء عليه بناء جديدا يلائم والحاجة التي نحن مفتقرون إليها في جميع قضايانا المعاشة.
وقضية هذا الموضوع يكون بدراسة كل جانبٍ من شقيه الموضوعي والتاريخي، فالموضوعي يتعلق بجمع المادة والنظر فيها بكل فروعها وأصولها وفقهها فقها دقيقا، أما التاريخي فهو ما يتعلق بتاريخ هذا الجانب وتطوره والمراحل التي قطعها حتى وصوله إلينا. فإنه بهذه العملية الثلاثة بلا شك يمكننا أن نبرز ونُبدع في تقديم إضافات جديدة نحن بحاجة إليها في تراثنا لمعالجة القضايا المطروحة التي طالما لم نحسن إيجاد حلول لها، لأن القدرة على الإبداع كما ذكر طه عبد الرحمن في كتابه “الحق العربي في الاختلاف الفلسفي” لا يمكن أن ترد على ثقافة معينة بتراثها من خارجها، وإنما لا بد أن تنبعث من داخلها.
(المصدر: مدونات الجزيرة)