قدوات غائبة: صور مشرقة لعالمات مسلمات أتقَنّ العلم
بقلم منّة حمدي
تحدّث المؤرخ صلاح الدين الصفدي -رحمه الله- في كتابه «الوافي بالوفيات» عن العالمة الفقيهة ⁽فاطمة بنت عيّاش البغدادية⁾ فقال عنها:
الشيخة المُفتية العالمة الزاهدة العابدة، كانت تصعد المنبر وتعِظ النساء، فينبنَ لوعظِها، وانتفع بها نساء أهل دمشق، ثم انتقلت إلى القاهرة، وارتفع قدرها وبعُد صيتها، وكانت قد تفقهت عند المقادسة، فكانت تعرف الفقه وغوامِضه الدقيقة ومسائله العويصة، وكان شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- يستعد ليجيب على أسئلتها ويتعجب من عملها، ويثني على ذكائها وخشوعها وبكائها.
قدوات غائبات!
من يتتبع سير جحافل علمائنا وكبار أئمتنا، قد يتفاجئ أن كثيرًا منهم، كالإمام البخاري وابن تيمية وابن عساكر والسيوطي وغيرهم الكثير، قد تلقوا العلم على يد نساء عالمات فقيهات، بيد أن كبار العلماء هؤلاء لم يجدوا حرجًا قط من ذكر شيخاتِهم، فقد اشتُهر أن العلامة جلال الدين السيوطي -رحمه الله- قد تلقى العلم عن شيخات بلغ عددهن اثنتين وأربعين شيخة، كما عُرف المؤرخ الشهير ابن عساكر بكثرة شيخاته، فأخذ العلم عن ثمانين شيخة، ونال إجازته في «الموطأ» للإمام مالك على يد العالمة زينب بنت عبد الرحمن.
وكان لابن تيمية أربع شيخات، روى عنهنّ بعض أحاديثه، وهنّ (زينب بنت مكـيٍّ الحرانيّة، أم محمد زينب المقدسيَّة، أم العرب فاطمة بنت أبي القَاسم، أم الخير ست العـرب)، وكان لا يلبث أن يذكرهنّ في مسنده.
فقال ابن تيمية -رحمه الله-:
أخبرتنا الشّيخة الصَّالحة أم الخـيـر ست العرب التاجية الـكنـدية؛ قراءةً عليها وأنا أسمع في رمضان سنة 681…
وكذلك كان ابن الجوزي -رحمه الله- فقد ذكر في مشيخته أنه سمع من ثلاث نسوة، وأورد بسنده ثلاثة أحاديث عن كل واحدة منهن حديثًا، وهن: فاطمة بنت أبي حكيم الخبري، وشهدة بنت أحمد الإبري، وفاطمة بنت محمد الرازي، وهي التي قال عنها: كانت شيختنا فاطمة واعظة متعبدة، لها رباط تجتمع فيه الزاهدات، سمعت أبا جعفر بن المسلمة، وأبا بكر الخطيب وغيرهما.
كما ذكر ابن حزم الأندلسي، أكبر علماء الأندلس، عن تلقيه للعلم على أيدي النساء، فقال:
تربيتُ في حجورهنّ، ونشأتُ بين أيديهنّ، ولم أعرف غيرهنّ، ولا جالستُ الرجال إلا وأنا في حد الشباب.. وهنّ علمنّني القرآن وروينّني كثيرًا من الأشعار ودربنّني في الخط.
في الواقع، لم يكن ذلك بالأمر الفذ المقتصر على فترةٍ بعينها، أو جماعة من العلماء بعينهم، ولكن زخّت مصادر التاريخ الإسلامي والتراجم على المئات، بل الآلاف من العالمات الفقيهات على مر الأزمنة، مثل كتب الإمام النووي «تهذيب الأسماء»، وخالد البغدادي «تاريخ بغداد»، وأورد ابن حجر العسقلاني في كتابه «الإصابة» ذكر أكثر من خمسمائة امرأة، وفي كتابه «تقريب التهذيب» ما يقرُب من ثمانمائة امرأة ممن تلألانّ في الرواية والحديث، كما ذكر في كتابه «المعجم المؤسس للمعجم المفهرس» كثيرًا من شيخاته اللاتي أخذ عنهنّ العلم.
وعلى هذا الدرب، أقدمَ العلامة السخّاوي في كتابه «الضوء اللامع لأهل القرن التاسع الهجري» على ترجمة سير أكثر من ألف امرأة ممن بزغ صيتُهنّ في سماء العلم والحديث، كما خصّص ابن الأثير جزءًا كاملًا للعالِمات المُحدّثات الفقيهات في كتابه «أسد الغابة»، بيد أنه لم يغفل صاحب «الطبقات الكبرى» ابن سعد من ذكر العديد من المحدثات من الصحابيات والتابعيات، وذكر صاحب «معجم الشيوخ» عبد العزيز بن عمر، من بين ألف ومائة اسم عالم في عصره، ذكر مائة وثلاثين امرأة عالمة، بعضهن كنّ شيخات له.
اقرأ أيضًا: صُنّاع الأبطال؛ كيف تصنع بطلًا يغير التاريخ؟
صور مشرقة لعالمِات مسلمات
فاطِمة بنت عياش البغدادية
الواعظة، الزاهدة، الفقيهة، العالمة، المسندة، المفتية، الخاشعة، الواحدة في عصرها، والفريدة في دهرها، المقصودة في كل ناحية، قل من أنجب من النساء مثلها.
هي العالمة الفقيهة الحنبلية، أم زينب، تلميذة ابن تيمية، كانت جليلة القدر، وافرة العلم، تسأل عن دقائق المسائل، وتتقن الفقه إتقانًا بالغًا.
عمرة بنت عبد الرحمن النّجارية
هي عمرة بنت عبد الرحمن بن سعد بن زرارة بن عدس، الأنصارية، المدنية، الفقيهة، ترعرعت في بيت أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها، وتعلمت منها الحديث، وحدّثت أيضًا عن السيدة أم سلمة، وأم هشام بنت حارثة الأنصارية، وحبيبة بنت سهل، وأم حبيبة، رضي الله عنهن، وحدّث عنها ولدها أبو الرجال محمد، وابناه، والقاضي أبو بكر بن حزم وابناه، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وآخرون.
نقل ابن سعد في طبقاته عن عبد الله بن دينار، قال:
كتب أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز إلى أبي بكر بن محمد بالمدينة رسالة يقول له فيها انظر ما كان من حديث رسول الله، أو سنةٍ ماضية، أو حديث عمرة فاكتبه، فإني خفت دروس العلم وذهاب أهله. كما قال أيضًا: ما بقي أحد أعلم بحديث عائشة من عَمرة.
خديجة بنت سحنون التنوخي
هي خديجة القيروانية، بنت الإمام سحنون التنوخي، حامل لواء مذهب مالك بالمغرب. قال القاضي عيّاض في ترتيب المدارك:
كانت خديجة عالمة، عاقلة، ذات صيانة ودين، وكان أبوها يحبها ويستشيرُها في مهمات أموره، حتى أنه لما عُرض عليه القضاء، لم يقبله إلا بعد أخذ رأيها، وكذا كان يفعل أخوها محمد -فقيهًا مالكيًا مناظرًا، كثير التصانيف- بعد وفاة أبيه.
ست الوزراء التنوخية
هي ست الوزراء بنت عمر التنوخية، الدمشقية الحنبلية، فقيهة محدثة، مسندة الوقت، قال الإمام الذهبي: كانت طويلة الروح على سماع الحديث، وهي آخر من حدّث بالمسند بالسماع عاليًا. وكان يُرحل إليها من الآفاق في القرن السابع الهجري للأخذ منها، وقال عنها ابن تغري بردي:
صارت رحالة زمانها، ورُحِل إليها من الأقطار.
كريمة بنت أحمد المُرزوية
فقيهة وعالمة فاضلة، وكانت من المحدثات الشهيرات، أُطلق عليها «أم الكرام»، وإليها انتهى علو الإسناد لصحيح البخاري، وتلقى عنها الحديثَ جماعةٌ من الأعلام الكبار، منهم: الخطيب البغدادي إمام علوم الحديث، وأبو المحاسن المصري المؤرخ المعروف، والسمعاني المحدّث المشهور، وآخرون.
وترجم لها الحافظ الذهبي في سير أعلام النبلاء، وابن الأثير في الكامل، وابن الجوزي في المنتظم، وابن كثير في البداية والنهاية، وابن العماد في شذرات الذهب، والزركلي في الأعلام، وغيرهم.
شُهدة بنت أبي نصر الإبري
قال عنها الذهبي: هي فخر النساء، مُسندة العراق. وقيل أيضًا أنه قد انتهى إليها إسناد بغداد، وروى عنها كبار المحدّثين مثل ابن عساكر، أبو سعد السمعاني، ابن الجوزي، والقاضي أبو صالح الجيلي، وشيخ الشيوخ بن حمويه. وقال عنها ابن الدبيثي:
امرأة جليلة صالحة، ذات دين وورع، سمعت الكثير، وصارت أسند أهل زمانها.
ستيتة بنت المحاملي
العالمة الفقيهة المفتية، كانت مستشارة فقيهة في محكمة بغداد، وهي ابنة القاضي أبي عبد الله الحسين بن إسماعيل المحاملي، وأم القاضي أَبي الحسين محمد بن القاسم. وقال عنها البرقاني:
كانت تفتي مع أبي علي بن أبي هريرة على المذهب الشافعي.
عائشة الباعونية
هي عائشة بنت القاضي يوسف بن أحمد، الأديبة الشاعرة الفقيهة المتصوفة، وأُجيزت بالإفتاء والتدريس، قال عنها النجم الغزي في موسوعته الكواكب السائرة:
أحد أفراد الدهر، ونوادر الزمان فضلاً، وعلمًا، وأدبًا، وشعرًا، وديانةً، وصيانةً.
فاطمة بنت محمد السمرقندي
العالمة الفقيهة المُفتية، تصدرت الفتوى والتدريس، والدها محمد بن أحمد السمرقندي، من كبار الفقهاء، وكانت الفتوى تصدر مشتركة بينها وبين أبيها، ثم بعد ذلك مشتركة بينها وبين زوجها علاء الدين الكاساني، الملقب بملك العلماء، وهو أحد أكابر فقهاء المذهب الحنفي في عصره، وكانت كثيرًا ما ترده في آرائه، فيرجع إلى قولها.
وكان الملك العادل، نور الدين محمود، كان يستفتِيها في الدين ويستشِيرها في أمور الدولة والحكم.
قريش بنت عبد القادر الطبرية
العالمة الفاهمة، ذات الشيم المرْضية، والأخلاق الرضية.
هي قريش بنت الإمام عبد القادر الطبري، ذكرها تلميذها الشمس البديري فقال: قرأت عليها في بيتها طرفًا من الكتب الستة، والموطأ، ومسند الشافعي، وأحمد، وباقي المسانيد، وأجازتني حسب روايتها من أبيها، وعن الشيخين الرملي والحافظ البابلي، بل تروي عن شيخ والدها المحدّث الطيب المسند عبد الواحد الحِصاري.
فاطمة بنت أحمد، ابنة المهدي لدين الله
عالمة فقيهة، ولها من والدها مراجعات في عدة مسائل. كان زوجها الإمام المطهر يرجع إليها فيما يشكل عليه من مسائل، وإذا ضايقه التلامذة في بحث دخل إليها، فتفيده الصواب، فيخرج به إليهم، فيقولون: ليس هذا منك، بل من خلف الحجاب.
اقرأ أيضًا: أُمهات خالدات في التاريخ الإسلامي بآلاف الرجال – الجزء الأوّل
خاتمة
وهذا القبس من سير أعلام المسلمات الرائدات في العلم والاجتهاد، يعكس دور المرأة العظيم في مسيرة هذه الأمة وبناء حضارتها وتحقيق تفوقها، وإنه لمؤسف بشدة أن تبتعد الأضواء عن مثل هذه النماذج الراقية؛ فتغيّب مكارمهن وإنجازاتهن وتسلط بدلًا من ذلك الأضواء على نماذج فاشلة ومدمرة لمقومات هذه الأمة وأسباب نبوغها.
وإنه لجدير بكل مسلم ومسلمة أن يحيي ذكر هذه النجوم ليقتدي بها وتضيء أنوارها ظلمة طال مكوثها بسبب الجهل والانهزامية والركون للدعاوى التغريبية البائسة التي تستهدف أحد أهم مصادر القوة في أمتنا، “المرأة”، لتفسد، وتنهار معها آمال أمة تنشد النهوض.
فأيتها المسلمة لا يؤتيَّنّ الإسلام من قِبَلك! وتزوّدي بمثل سير هؤلاء المسلمات السابقات في مضمار المسابقة لمراتب النجاح والفوز العظيم.
(المصدر: موقع تبيان)