مقالاتمقالات المنتدى

قبسات من سير أولي العزم من الرسل (8) – نشأة موسى عليه السلام.. بين اليقين بوعد الله والخوف من بطش فرعون

قبسات من سير أولي العزم من الرسل (8)

نشأة موسى عليه السلام.. بين اليقين بوعد الله والخوف من بطش فرعون

 

بقلم د. علي محمد الصلابي (خاص بالمنتدى)

 

تكلمنا في المقال السابق عن ولادة موسى عليه السلام التي خلد ذكرها القرآن الكريم والأوضاع الشديدة التي ولد فيها موسى، إذ ولد والخطر يحدق به والموت يتلفت حوله، وتكلمنا عن آيات سورة القصص التي ذكرت تفاصيل ولادة موسى وأقوال العلماء حولها والعبر المستنبطة منها، ونتابع في هذا المقال الكلام في أحداث وقوع موسى بيد فرعون وامتحان أمه الكبير والحِكم العظيمة من هذه الحادثة، مستنيرين بما ورد في كتاب الله تعالى في ذلك.

قال تعالى: ﴿فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ﴾ ]القصص:٨[

﴿فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ﴾: أهذا هو الأمن؟ أهذا هو الوعد؟ أهذه هي الإشارة؟ وهل كانت المسكينة تخشى عليه إلا من فرعون؟ وهل كانت ترجف إلا أن ينكشف أمره لآل فرعون؟ وهل كانت تخاف إلا أن يقع في أيدي آل فرعون؟ نعم؛ ولكنها قدرة الله التي تتحدى فرعون وهامان وجنودهما.

إنهم يتتبعون الذكور من مواليد قوم موسى خوفاً على مُلكهم وعرشهم وذواتهم ويبثون العيون والأرصاد على قوم موسى كي لا يفلت منهم طفل ذكر، فها هي يد القدرة الربانية تلقي في أيديهم بلا بحث ولا كدّ بطفل ذكر، وأي طفل؟ إنه الطفل الذي على يديه هلاكهم جميعاً، وها هي ذي تلقيه بين أيديهم، مجرداً من كل قوة ومن كل حيلة، عاجزاً أن يدفع عن نفسه أو حتى يستنجد، ها هي تقتحم به فرعون على حصنه وهو الطاغية، السفّاح المتجبر، ولا تتعبه في البحث عنه في بيوت بني إسرائيل، وفي أحضان نسائهم الوالدات، ثم ها هي ذي تعلن عن مقصدها سافرة متحدية.

  • ﴿لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا﴾: ليكون لهم عدواً يتحداهم وحزناً، يُدخل الهم على قلوبهم.
  • ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ﴾: ولكن كيف يكون؟ وها هو ذا بين أيديهم، مجردٌ من كل قوة، مجرداً من كل حيلة؟ لندع السياق يجيب. (السيد قطب، في ظلال القرآن، (٥/٢٦٧٩).
  • قال ابن القيم: إنه تعليل لقضاء الله سبحانه بالتقاطه وتقديره له، فإن التقاطهم له إنما كان بقضائه وقدره، فهو سبحانه قدّر ذلك وقضى به، ليكون لهم عدواً وحزناً وذكر فعلهم دون قضائه لأنه أبلغ في كونه حزناً لهم وحسرة عليهم، فإن من اختار أخذ ما يكون هلاكه على يديه إذا أصيب به كان أعظم لحزنه وغمه وحسرته من ألا يكون فيه صنع ولا اختيار، فإنه سبحانه أراد أن يظهر لفرعون وقومه ولغيره من خلقه كمال قدرته وعلمه وحكمته الباهرة، وأن هذا الذي يذبح فرعون الأبناء في طلبه هو الذي يتولى تربيته في حجره وبيته باختياره وإرادته، ويكون في قبضته وتحت تصرفه، فذكر فعلهم به في هذا أبلغ وأعجب من أن يذكر القضاء والقدر، وقد أعلمنا سبحانه وتعالى أن أفعال عباده كلها واقعة بقضائه وقدره.
  • قال السعدي: في قوله تعالى: ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ﴾ أي مجرمين، فأردنا أن نعاقبهم على خطئهم ونكيد لهم، جزاء على مكرهم وكيدهم. (تفسير السعدي، (٣/١٢٧٣)
  • وقال الدكتور زغلول النجار: في قوله تعالى: ﴿فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا﴾: وهذا النص الكريم يسجل واقعة تاريخية مؤداها أن أعوان فرعون التقطوا مهد الرضيع موسى الذي حملته تيارات ماء النيل إلى قصر فرعون حتى يكون مصدر عداوة وحزن لهم، وسبب بلاء وقضاء عليهم، واللام في ﴿لِيَكُونَ﴾ هي لام العاقبة والصيرورة؛ لأنهم إنما أخذوه ليكون لهم قرة عين، فكان عاقبة ذلك أن صار لهم عدواً وحزناً.

وقد ختمت الآية بقول ربنا تبارك وتعالى: ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ﴾ ]القصص:٨[؛ أيّ أنهم كانوا متعمدين الكفر بالله أو الشرك به وعصيان أوامره واقتراف المظالم والآثام والإفساد في الأرض، وهذا أيضاً حقيقة تاريخية تشهد للقرآن الكريم بالصدق. (من آيات الإعجاز الإنبائي والتاريخي، (٢/٦٢٣)

وفي وصف القرآن الكريم حاكم مصر أيام موسى عليه السلام في أربعة وسبعين آية قرآنية كريمة، فهو يوصف بفرعون في زمن موسى بينما ينعت في زمن يوسف عليه السلام بـ ﴿الْمَلِكُ﴾ في خمسة مواضع مختلفة من سورة يوسف، وهو وجه من أوجه الإعجاز الإنبائي والتاريخي في كتاب الله الكريم، وذلك لأن يوسف عليه السلام لم يعمل لدى أحد من فراعنة مصر، الذين كان ملكهم في زمن وجوده بمصر قد انحسر إلى جنوب البلاد وكانت عاصمتهم طيبة “الأقصر”، وكانت لغتهم “الهيروغليفية” أي المصرية القديمة التي لم يكن يوسف عليه السلام يعرفها.

وهذه اللمحة التاريخية على بساطتها هي من جملة البراهين على أن القرآن الكريم لا يمكن أن يكون صناعة بشرية، بل هو كلام الله الخالق الذي أنزله بعلمه على خاتم أنبيائه ورسله وحفظه بعهده الذي قطعه على ذاته العليّة في نفس لغةِ وحيه “اللغة العربية” على مدى يزيد على أربعة عشر قرناً، وتعهّد بهذا الحفظ تعهّداً مطلقاً ليَبقى القرآن الكريم شاهداً على الخلق أجمعين إلى يوم يبعثون؛ بأنه كلام رب العالمين وشاهداً للرسول الخاتم الذي أكرمه الله بالنبوة والرسالة. ومن الثابت أن رسول الله ﷺ بُعث خاتماً للأنبياء والمرسلين في سنة ٦١٠ه أيّ بعد أكثر من ٢٢٠ سنة من وفاة أخيه يوسف بن يعقوب عليه السلام، وبعد أكثر من ١٧٠٠ سنة من وفاة أخيه هارون بن عمران عليه السلام، فالله الخالق الحكيم العليم هو الذي أخبر رسول الله بقصّة هذين النبيين الكريمين.

ملاحظة هامة: اعتمد المقال في مادته على كتاب: “موسى عليه السلام كليم الله”، للدكتور علي محمد الصلابي، واستفاد أكثر مادته من كتاب: “في ظلال القرآن”، للأستاذ سيد قطب.

المراجع:

  • علي محمد الصلابي، موسى كليم الله. عدو المستكبرين وقائد المستضعفين.
  • سيد قطب، في ظلال القرآن.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى