بقلم أ. محمد فتحي النادي
ـ جعل الله من البشر فئة قائمة على الحق في كل زمان يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر
ـ قانون الصيانة في ماديات الدنيا يكون للمؤمن والكافر أما في معنويات الحياة فيكون للمؤمن خاصة
ـ لو أن أهل الحق والعدل خلت من أيديهم القوة لتحكم في العالم أهل الظلم
ـ ظاهر قانون الصيانة فيه بعض الشر لكن المتأمل يرى أنه يمنع شراً أكبر مستطيراً يأكل الأخضر واليابس
ـ الإنسان الذي يبحث عن قانونٍ غير قانون السماء مهلكٌ نفسه وموردها إلى حتفها
ـ الحدود تصون المجتمع من عبث العابثين فنوازع الشر لا تفارق البشر ولو تُركوا لعمّ شرهم الجميع
إن الله عزّ وجل خلق هذا الكون وهيأه للإنسان وفق نظام دقيق مودع فيه؛ (صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) (النمل: 88)، هذا النظام لا ينخرم من تلقاء نفسه، وقد رأيت أن الثقلين هما من يفسدان هذا النظام ويخرقانه بجهل أو عمد، لا المخلوقات الأخرى المسخرة لهما المجبرة على خدمتهما، فالحرّ المكلف حامل الأمانة يفسد في الكون، والمخلوقات الأخرى غير المكلفة تبقى مقيدة بقيود النظام المودع في الكون.
قد عاينت الملائكة فساد الجنّ الذين سكنوا الأرض قبل البشر، فخشيت أن يسير البشر سيرة الجنّ، فقالت في حوارها مع الله تعالى: (أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء) (البقرة: 30).
ولصيانة الأرض من الفساد، وللإبقاء على النظام فيها، أرسل الله تعالى الملائكة لمحاربة الجن، قال ابن عباس رضي الله عنهما: «قد كان في الأرض قبل أن يخلق آدم بألفي عام الجن بنو الجان، فأفسدوا في الأرض، وسفكوا الدماء، فلما أفسدوا في الأرض بعث عليهم جنوداً من الملائكة، فضربوهم حتى ألحقوهم بجزائر البحور»(1).
وكذلك البشر فقد ساروا سيرة سكان الأرض من قبلهم فنسوا أنهم جاؤوا لاستعمار الأرض، فقتلوا النفس، وأهلكوا الحرث، فكانت العاقبة أن (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ) (الروم: 41).
لكن البشر ميزهم الله عن سابقيهم بأن جعل منهم فئة قائمة على الحق، لا يخلو منهم زمان، يدعون الناس للخير، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر؛ (فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ {116}) (هود).
وقانون الصيانة الإلهي للكون والإنسان يتمثل في المنهج الرباني؛ فما دام الله سبحانه هو الخالق لكل شيء، وهو الباقي؛ فهو الأحق بالعبادة؛ لأن العبادة معناها طاعة الأمر وطاعة النهي.
وما دام الله سبحانه هو الذي خلق فهو الذي يضع قانون الصيانة للإنسان والكون، وإن خالفت المنهج يفسد الكون والإنسان، وإذا فسد الكون أو الإنسان فأنت تلجأ إلى منهج الخالق لتعيد لكل منهما صلاحيته(2).
وقانون الصيانة الإلهي يشمل الإنسان والكون، فكلاهما من مخلوقات الله، والكون لا يفسد من تلقاء نفسه، بل يُدخل الإنسان عليه الفساد، أو يكون الفساد نتيجة لازمة للذنوب والمعاصي، وأعظم أسباب الفساد الإشراك بالله تعالى، ويكون قانون الصيانة في ماديات الدنيا للمؤمن والكافر، أما في معنويات الحياة فيكون للمؤمن خاصة(3).
وقانون الصيانة على مستويات ثلاثة:
1- صيانة الإنسان:
وذلك بتعبيده لله تعالى، وتقويمه بالمنهج الرباني، والأخذ بيده إذا انحرف أو ضلّ أو حاد، يقول الله تعالى: (إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً {9}) (الإسراء).
والإنسان الذي يبحث عن قانونٍ غير قانون السماء فإنه مهلكٌ نفسه، وموردها إلى حتفها، وكم تضلّ البشرية باتباع الأهواء، واتخاذها رؤوساً جهّالاً فضلوا وأضلوا.
2- صيانة المجتمع:
إن نوازع الشر لا تفارق البشر، ولو تُركوا وهذه النوازع لعمّ شرها الجميع، لكن لو تم مواجهتها والوقوف أمامها لانحسر الشر والفساد، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالْوَاقِعِ فِيهَا كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ، فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلاَهَا وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنَ الْمَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقاً، وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا، فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعاً، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعاً»(4).
فالحدود لصيانة المجتمع من عبث العابثين؛ فالقصاص يمنع تفشي جرائم القتل، والرجم يمنع جرائم الزنا ويجعلها في أضيق الحدود وأخفاها، وقطع السارق يردع اللصوص.. إلخ.
يقول الله تعالى: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ {179}) (البقرة)؛ فالقصاص قتل، لكنه قتل يقيم نظام المجتمع، ويصونه ويحميه ويحفظه، وكما قيل: رحمة القاتل ظلم للمقتول.
وقطّاع الطرق والخارجون على القانون لو تُركوا لأصبح الأمر فوضى، ولأذاقوا الناس العذاب ألواناً، ولأهلكوا الحرث والنسل والضرع؛ لذلك كان قتالهم واجباً من قِبل الحاكم، يقول الله تعالى: (إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ {33}) (المائدة).
3- صيانة نظام العالم:
لكل دولة في العالم مصالحها ومطامعها التي قد تتعارض مع مصالح الآخرين ومطامعهم، وينشأ عن ذلك تكتلات وتحالفات وحروب ومنازعات، ولفض هذه الحروب والمنازعات يحتاجون لدولة قوية تفرض النظام، وتبسط العدل، وتحفظ للإنسان حقوقه، وتنتصر للمظلوم، وتوقف الظالم.
ولو أن أهل الحق والعدل خلت من أيديهم القوة لتحكم في العالم أهل الأهواء والظلم، كما نرى الآن، فلا ينتصف المظلوم من الظالم، وتضيع الحقوق.
فأهل الغرب يظهرون دعاوى حق لكن الحقيقة أنهم أبعد الناس عنها؛ فيقولون بنشر الديمقراطية وهم أعداء الشعوب التي تبحث عن حكم نفسها بنفسها، ويزعمون أنهم دعاة لتحرير المرأة وهم جعلوها سلعة رخيصة أسوأ من بيعها في أسواق النخاسة، ويزعمون أنهم دعاة لحقوق الإنسان وهم يستعبدون الإنسان ويستنزفونه ولا يبالون بمصيره إن خالفهم في الدين أو العرق، وسيادتهم للعالم أفسدته.
وقانون الصيانة يستدعي أن يقوم أهل الحق بواجبهم تجاه أنفسهم ومجتمعاتهم والعالم أجمع.
ولمنع الفساد ينجم الصراع، فنرى من خلال الصراع أن ظاهر قانون الصيانة للعالم فيه بعض الشر، لكن المتأمل يرى أن هذا الشر البادي للأعين يمنع شراً أكبر مستطيراً يأكل الأخضر واليابس.
الهوامش:
(1) أخرجه الحاكم في «المستدرك»، (2/287)، وقال: «هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه»، ووافقه الذهبي.
(2) تفسير الشعراوي، (6/3839).
(3) انظر: السابق، (6/3847).
(4) أخرجه البخاري في «الشركة»، باب: «هَلْ يُقْرَعُ فِي الْقِسْمَةِ وَالاِسْتِهَامِ فِيهِ»، ح(2493) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما، وموضع آخر.
(المصدر: مجلة المجتمع)