“قاتل القُدس”: إدانة صهيونيَّة للتَّشدُّد “الإسلامي” وإشادة بالمطبّعين – 4 من 6
إعداد د. محمد عبد المحسن مصطفى عبد الرحمن
وكما تنقل وكالة القُدس للأنباء، تتبادل إسرائيل والإمارات الزّيارات العلنيَّة حديثًا، تحت ستار التَّعاون في مكافحة كورونا، وقد هبطت طائرة إماراتيَّة في مطار اللُّد في إسرائيل في 20 مايو 2020م، وتلك أوَّل زيارة إماراتيَّة يُكشف عن زيارتها لإسرائيل علنًا، وكانت بحجَّة نقْل المساعدات الطّبيَّة إلى الفلسطينيين. غير أنَّ وكالة القُدس قد أشارت إلى أنَّ تبادُل الزّيارات لم يتوقَّف منذ مايو 2020م، حتَّى أنَّ 3 طائرات إسرائيليَّة هبطت في مطارات أبو ظبي ودبي خلال ثاني أسابيع شهر يوليو/تمُّوز 2020م.
هذا وقد أعلن الرَّئيس الأمريكي، دونالد ترامب، في 13 أغسطس 2020م، إبرام “اتّفاق سلام تاريخي” بين دولة الإمارات العربيَّة المتَّحدة والكيان الصُّهيوني، هو الأوَّل من نوعه بين الكيان المغتصب للأراضي العربيَّة وإحدى دول المنقطة، منذ معاهدة السَّلام الأردنيَّة-الإسرائيليَّة، المبرمة في 24 أكتوبر 1994م، والمعروفة باسم معاهدة وادي عَرَبة. وقد ادَّعت الإمارات أنَّ دفعها لإبرام اتّفاق التَّطبيع مع إسرائيل إيقاف الاستيطان الإسرائيلي لأرض فلسطين وحماية حقوق الفلسطينيين.
وقد أشار البيان المشترك الصَّادر عن الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة وإسرائيل والإمارات العربيَّة المتَّحدة إلى أنَّ من بين نصوص اتّفاق السَّلام توقُّف إسرائيل عن ضمّ مستوطنات الضَّفَّة الغربيَّة.
غير أنَّ رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، قد نفى توقُّف مشروع الضَّمّ، مشيرًا إلى تأجيله “مؤقَّتًا”.
هذا وقد تردَّد فور الإعلان عن تطبيع الإمارات مع إسرائيل، المشار إليه بـ “اتّفاق السَّلام”، أنَّ دولًا عربيَّة أخرى ستلحق بركب الإمارات، ومن بينها المملكة العربيَّة السَّعوديَّة، وقد صرَّح جاريد كوشنر، كبير مستشاري البيت الأبيض وصهر الرَّئيس الأمريكي، فور إعلان التَّطبيع الإسرائيلي-الإماراتي، بأنَّ توصُّل السَّعوديَّة إلى تطبيع كامل مع إسرائيل “حتمي”، مضيفًا أنَّ الاتّفاق الثَّلاثي، بين أمريكا وإسرائيل والإمارات، من شأنه أن “يتيح لجميع المسلمين الصَّلاة في المسجد الأقصى”.
أمَّا عن الموقف السَّعودي الرَّسمي حيال ما يتردَّد عن نيَّة المملكة إعلان التَّطبيع مع إسرائيل، فقد صرَّح وزير الخارجيَّة السَّعودي، الأمير فيصل بن فرحان، في 19 أغسطس 2020م، خلال مؤتمر صحافي مع نظيره الألماني في العاصمة الألمانيَّة برلين، بأنَّ بلاده تجنح إلى السَّلام وتفضّل الخيار الدّبلوماسي فيما يتعلَّق بالقضيَّة الفلسطينيَّة، مشترطًا التوصُّل إلى حلّ يرضي الفلسطينيين قبل التَّطبيع مع إسرائيل.
وبرغم التَّحفُّظ الواضح في تصريح وزير الخارجيَّة السَّعودي بشأن تطبيع العلاقات بين بلاده وإسرائيل، فقد أدلى دونالد ترامب بتصريح ناري أكَّد فيه إمكانيَّة التَّطبيع بين إسرائيل والسَّعوديَّة، والمفارقة أنَّ تصريح الرَّئيس الأمريكي جاء بعد ساعات من تصريح وزير الخارجيَّة السَّعودي.
ولم يمر على تصريح وزير الخارجيَّة السَّعودي سوى يومين، حتَّى خرج الأمير تركي الفيصل، مدير المخابرات السَّعوديَّة الأسبق والسَّفير السَّعودي الأسبق في واشنطن ونجل العاهل السَّعودي الأسبق الملك فيصل بن عبد العزيز، بتصريح جديد يشير إلى إمكانيَّة إبرام اتّفاق سلام بين المملكة وإسرائيل، بشرط “قيام دولة فلسطينيَّة ذات سيادة وعاصمتها القدس”، كما جاء في مقال له نشرته صحيفة الشَّرق الأوسط السَّعوديَّة في 21 أغسطس 2020م.
هذا وقد نشر موقع Axios الأمريكي، نقلًا عن مصادر إسرائيليَّة مطَّلعة، أنَّ جاريد كوشنر سيزور منطقة الشَّرق الأوسط مطلع سبتمبر من عام 2020م، بهدف تشجيع بعض دول منطقة الخليج العربي على تطبيع العلاقات مع الكيان الصُّهيوني.
جدير بالإشارة أنَّ بنيامين نتنياهو كان قد أعلن نهاية يونيو 2020م أنَّ خطَّة ترامب للسَّلام (صفقة القرن) قد قضت على ما أطلق عليه “أوهام حل الدَّولتين”، ممَّا يوحي بأنَّ حلَّ الدَّولة الواحدة ثنائيَّة القوميَّة هو الخيار القائم.
2.كيف يبرّر المعتَقد اليهودي احتلال الأرض المقدَّسة؟
عند تناوُل ادّعاء اليهود أحقّيَّتهم في الأرض المقدَّسة دون سائر الأمم، لا يمكن تفادي التَّطرُّق إلى دور التَّمييز العنصري المستمدّ من المعتقَد اليهودي في التَّكوين الذّهني لليهود، وبخاصَّة في زعْم اليهود تفوُّقهم العرقي عن سائر الأمم، ممَّا يشرعِن سيادهم على سائر البشر أجمعين، ما نفاه العالم اليهودي رافائيل باتاي في كتابه The Myth of the Jewish Race-أسطورة العرق اليهودي (1975م)، وأكَّد على كذبه آرثر كوستلر في كتابه السبط الثالث عشر-Thirteenth Tribe (1976م). استغلَّ اليهود، المفترَض انحدارهم من سلالة أسباط بني إسرائيل الاثني عشر الَّذين هم من سلالة سامّ بن نوح، مزاعم تميُّزهم العرقي في صراعهم مع عرب فلسطين، المنحدرين من سلالة كنعان بن حامّ بن نوح، وكان لتلك المزاعم دورها في تبرير الاستيطان والتَّهجير القسري والإبادة الجماعيَّة للفلسطينيين. أمَّا عن أصل تحقير الفلسطينيين، فهو مستمدٌّ من تعاليم التَّوراة، أو أسفار موسى الخمسة. يتناول سفر التَّكوين حال الأرض بعد انتهاء طوفان نوح، ونجاته مع ثلاثة من أبنائه من الغرق على ظهر الفُلك، وتأسيسهم حياة جديدة “وَكَانَ بَنُو نُوحٍ الَّذِينَ خَرَجُوا مِنَ الْفُلْكِ سَامًا وَحَامًا وَيَافَثَ. وَحَامٌ هُوَ أَبُو كَنْعَانَ” (سفر التَّكوين: إصحاح 9، آية 18).
تبدأ مزاعم التَّمييز العرقي بين بني إسرائيل والعرب من خلال قصَّة يرويها سفر التَّكوين عن لعْن نوحٍ لسلالة ابنه حامّ واعتبار ابنه كنعان عبدًا لإخوته. أمَّا عن السَّبب، فترويه القصَّة “وَابْتَدَأَ نُوحٌ يَكُونُ فَلاَّحًا وَغَرَسَ كَرْمًا. وَشَرِبَ مِنَ الْخَمْرِ فَسَكِرَ وَتَعَرَّى دَاخِلَ خِبَائِهِ. فَأَبْصَرَ حَامٌ أَبُو كَنْعَانَ عَوْرَةَ أَبِيهِ، وَأَخْبَرَ أَخَوَيْهِ خَارِجًا. فَأَخَذَ سَامٌ وَيَافَثُ الرِّدَاءَ وَوَضَعَاهُ عَلَى أَكْتَافِهِمَا وَمَشَيَا إِلَى الْوَرَاءِ، وَسَتَرَا عَوْرَةَ أَبِيهِمَا وَوَجْهَاهُمَا إِلَى الْوَرَاءِ. فَلَمْ يُبْصِرَا عَوْرَةَ أَبِيهِمَا” (سفر التَّكوين: إصحاح 9، آيات 20-23). يخبرنا الكتاب المقدَّس أنَّ نوحًا زرع العنب، ثمَّ أعدَّ من ثماره الخمر، وبعدها “سَكِرَ وَتَعَرَّى دَاخِلَ خِبَائِهِ“، وحينها “أَبْصَرَ حَامٌ أَبُو كَنْعَانَ عَوْرَةَ أَبِيهِ“، ثمَّ أخبر سامًا ويافث. لم يسلك ابنا نوح الآخريْن مسلك أخيهما؛ فسارعا بستر عورة أبيهما دون النَّظر إليها “سَتَرَا عَوْرَةَ أَبِيهِمَا وَوَجْهَاهُمَا إِلَى الْوَرَاءِ. فَلَمْ يُبْصِرَا عَوْرَةَ أَبِيهِمَا“. أمَّا عن موقف نوح ممَّا حدث، فما كان منه إلَّا أن لعَن سلالة حام، واعتبر ابنه كنعان “عَبْدَ الْعَبِيدِ” لأخويه وسلالتيها، بينما بارَك سامًا ويافث ومنحهما السّيادة على كنعان وذريَّته، كما تقول الآيات التَّالية:
فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ نُوحٌ مِنْ خَمْرِهِ، عَلِمَ مَا فَعَلَ بِهِ ابْنُهُ الصَّغِيرُ. فَقَالَ: «مَلْعُونٌ كَنْعَانُ! عَبْدَ الْعَبِيدِ يَكُونُ لإِخْوَتِهِ». وَقَالَ: «مُبَارَكٌ الرَّبُّ إِلهُ سَامٍ. وَلْيَكُنْ كَنْعَانُ عَبْدًا لَهُمْ. لِيَفْتَحِ اللهُ لِيَافَثَ فَيَسْكُنَ فِي مَسَاكِنِ سَامٍ، وَلْيَكُنْ كَنْعَانُ عَبْدًا لَهُمْ» (سفر التَّكوين: إصحاح 9، آيات 24-27).
يعلّق توماس إنمان في كتابه Ancient Pagan and Modern Christian Symbolism Exposed-كشف رموز الوثنيَّة القديمة والمسيحيَّة الحديثة (1875م) على هذه القصَّة بقوله إنَّ احترام عورة نوح مستمدٌّ من العقيدة الإيمانيَّة الَّتي كُتبت في ضوئها أسفار الكتاب المقدَّس بعد السَّبي البابلي، والَّتي تقوم على تقديس العضو الذَّكري، باعتباره مصدر التَّكاثر وإنجاب الذّريَّة. جدير بالذّكر أنَّ مفهوم الخلق وفق معتقَد القبَّالة، وهي العقيدة السّريَّة لبني إسرائيل، يقوم على أساس اقتران ثنائي إلهي من ذكر وأنثى، كما يثمر الاتّصال الجنسي بين الذَّكر والأنثى من المخلوقات عن ذريَّة جديدة تدبُّ فيها الرُّوح. وهناك تعليق آخر على القصَّة ذاتها للباحث في مقارنة الأديان والمذيع على قناة صفا الفضائيَّة، محمود داود، حيث تناول القصَّة في مقطع تفصيلي تحت عنوان “فتحوا خيمة النَّبي نوح فماذا وجدوا؟ لن تصدّق” لإيضاح علاقتها بـ “الشُّذوذ الجنسي واضطهاد اليهود للعرب والعنصريَّة ضدَّ السُّود في أمريكا”، بثَّه عبر قناته الَّتي تحمل اسمه الشَّخصي عبر موقع مشاركة المقاطع، يوتيوب، بتاريخ 10 يونيو 2020م.
يقف محمود داود عند سبب لعْن نوح لكنعان، ابن حامٍ، دون أبيه، برغم أنَّ الَّذي نظر إلى العورة هو حام نفسه، مشيرًا إلى تفسير القُمُّص تادرس يعقوب ملطي لسفر التَّكوين (ص142)، الَّذي ينقله عن عالم اللاهوت أوريجانوس، وهو أحد أوائل آباء الكنيسة، والذَّي يفترض أنَّ كنعان رأى عورة نوح استهزأ به هو وأبوه حام. ويؤكّد القُمُّص أنطونيوس فكري في تفسيره للقصَّة ذاتها على أنَّ كنعان اشترك مع أبيه في السُّخرية من نوح، ولكن لم يستطع نوحٌ أن يلعن حامًا، لأنَّ الرَّب باركه، لمَّا بارَك نوحًا وذريَّته، لمَّا قال لهم “وَبَارَكَ اللهُ نُوحًا وَبَنِيهِ وَقَالَ لَهُمْ: «أَثْمِرُوا وَاكْثُرُوا وَامْلؤوا الأَرْضَ” (سفر التَّكوين: إصحاح 9، آية 1) (ص103). ويتعجَّب الباحث من عدم معاقبة الرَّب لحامٍ بن نوح، برغم أنَّه هو الَّذي نظر إلى عورة أبيه، مثيرًا الشُّكوك حول صحَّة تلك القصَّة، الَّتي تعني أنَّ ثلث شعوب الأرض ملعونون، وقد اعتبر أنَّها “غير صحيحة” و “محرَّفة من اليهود لأغراض في غاية الدَّناءة“. بعد الإشارة إلى تفسيرات علماء المسيحيَّة للقصَّة، يجد الباحث في المراجع اليهوديَّة تفسيرًا للعن نوحٍ لكنعان دون أبيه، وهو ما تكشف عنه عبارة “مَا فَعَلَ بِهِ ابْنُهُ الصَّغِيرُ” في الآية ” فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ نُوحٌ مِنْ خَمْرِهِ، عَلِمَ مَا فَعَلَ بِهِ ابْنُهُ الصَّغِيرُ” (سفر التَّكوين: إصحاح 9، آية 24). يدَّعي اليهود أنَّ “الابن الصَّغير”، سواءً كان المقصود به حامٌ أو ابنه كنعان، لمَّا رأى النَّبي نوحًا في ذلك الوضع، بأن “سَكِرَ وَتَعَرَّى دَاخِلَ خِبَائِهِ“، مارَس مع نوحٍ اللُّواط ثمَّ خصاه، وهذا ما دفع نوحًا إلى لعنه!
ينقل داود عن كتاب A Handbook of Genesis–دليل سفر التَّكوين (1997م)، الصَّادر عن United Bible Societies (UBS)، أو اتّحاد جمعيَّات الكتاب المقدَّس، قول مؤلّفيه وليام رايبيرن وإيوان ماكجي. فراي، في تفسير القصَّة أنَّ “السّياق يوضح أنَّ التَّعبير”، يقصد “مَا فَعَلَ بِهِ ابْنُهُ الصَّغِيرُ“، “يشير إلى زنا المحارم أو إقامة علاقة جنسيَّة مع الشَّخص” (ص218). يشير الباحث إلى تفسير القصَّة ذاتها في كتاب The JPS Torah Commentary: Genesis-تفسير جمعيَّة النَّشر اليهوديَّة للتَّوراة: سفر التَّكوين (1989م)، الَّذي يقول إنَّ المصادر الحاخاميَّة تنقسم ما بين إذا ما كان حامٌ بن نوح أخصى أباه أو مارَس مع اللُّواط. يتوافق ذلك التَّفسير مع ما يقوله الرَّبَّاني الراباي شلومو يتسحاقي، أو الرَّاباي راشي، في التُّلمود في تفسير الآية “فَأَبْصَرَ حَامٌ أَبُو كَنْعَانَ عَوْرَةَ أَبِيهِ” أنَّ حامًا إمَّا خصى أباه أو ارتكب معه الفاحشة (سنهدرين 70أ). من هنا، وكما يشير الباحث، بدأ تحقير كنعان وذرّيته وتبرير استعبادهم على يد الشُّعوب الأخرى، المنحدرة من سلالة ابني نوحٍ، سامٍ ويافث. ويقول القُمُّص أنطونيوس فكري في تفسيره سفر التَّكوين إنَّ استعباد إخوة حام لكنعان بدأ من خلال “استعباد اليهود نسل سامٍ للكنعانيين، ثمَّ استعباد اليونان والرُّومان نسل يافث لهم” (ص103). ويؤكّد على هذا الرَّأي حلمي القُمُّص يعقوب في كتابه النقد الكتابي: مدارس النَّقد والتَّشكيك والرَّد عليها، أنَّ لعْن نوحٍ لكنعان كان بمثابة نبوءة عن استعباد بني إسرائيل لهم واستعمارهم لأرض كنعان، أو فلسطين، خلال فترة حُكم الملك دواد ونسله من بعده. ويلخّص تفسير الآية “مَلْعُونٌ كَنْعَانُ! عَبْدَ الْعَبِيدِ يَكُونُ لإِخْوَتِهِ” (سفر التَّكوين: إصحاح 9، آية 25) في A Handbook of Genesis–دليل سفر التَّكوين (1997م) المسألة بقوله إنَّ الغرض من تلك القصَّة هو “وضْع الأساس للصّراع اللَّاحق بين نسل سامٍ (الإسرائيليين) وأحفاد كنعان (الكنعانيين) في الاستحواذ على أرض الميعاد” (ص221). ويوجز الباحث مبدأ تمييز العرب من نسل نوح كما يلي:
هجرة سلالة حامٍ الملعونة إلى الأرض المقدَّسة
أنجب حامٍ بن نوح أربعة من الأبناء، هم “كُوشُ وَمِصْرَايِمُ وَفُوطُ وَكَنْعَانُ” (سفر التَّكوين: إصحاح 10، آية 6)، وقد أنجب كوش النَّمرود، وهو ملك جبَّار حكم مملكة بابل، ولم تُذكر لفوط بن حام ذريَّة. أمَّا عن ذريَّة مصرايم وكنعان، فهي “وَمِصْرَايِمُ وَلَدَ: لُودِيمَ وَعَنَامِيمَ وَلَهَابِيمَ وَنَفْتُوحِيمَ وَفَتْرُوسِيمَ وَكَسْلُوحِيمَ. الَّذِينَ خَرَجَ مِنْهُمْ فِلِشْتِيمُ وَكَفْتُورِيمُ. وَكَنْعَانُ وَلَدَ: صِيْدُونَ بِكْرَهُ، وَحِثًّا، وَالْيَبُوسِيَّ وَالأَمُورِيَّ وَالْجِرْجَاشِيَّ، وَالْحِوِّيَّ وَالْعَرْقِيَّ وَالسِّينِيَّ، وَالأَرْوَادِيَّ وَالصَّمَارِيَّ وَالْحَمَاتِيَّ. وَبَعْدَ ذلِكَ تَفَرَّقَتْ قَبَائِلُ الْكَنْعَانِيِّ” (سفر التَّكوين: إصحاح 10، آيات 13-18). ويخبرنا سفر التَّكوين عن الأماكن الَّتي عاش فيها نسل حام، ومنها مصر، الَّتي أخذت اسمها عن مصرايم المنحدر من سلالة حامٍ، ومنها ليبيا، ومنها كذلك أرض فلسطين، الَّتي أخذت اسمها عن فلشتيم، المنحدر من السُّلالة الملعونة ذاتها. وتفترض المصادر اليهوديَّة أنَّ سُكَّان فلسطين الأصليين، من نسل حام بن نوحٍ، ينحدرون من نسل فلشتيم وكفتوريم، وكلاهما من نسل كسلوحيم، وكانت سلالة كفتوريم تعيش في جزيرة كريت، ومنها هاجرت إلى فلسطين، ليتكوَّن الشَّعب الفلسطيني من جماعتي المهاجرين أبناء فلشتيم وكفتوريم. هذا وقد نشرت دورية “ساينس أدفانسيز” (Science Advances) بتاريخ 30 يوليو 2019م، دراسة حديثة تدَّعي أنَّ الفلسطينيين القدماء ينتمون إلى جنوب أوروبَّا، بعد تحليل الأحماض النَّوويَّة لرفات عُثر عليها في عسقلان. وقد استغلَّ بنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء الإسرائيلي، الأمر بالتَّرويج له عبر حسابه على شبكة تويتر في 7 يوليو 2019م، بقوله “يثبت تحليل الحمض النَّووي المستخلص من موقع فلسطيني قديم في مدينة عسقلان ما يقوله الكتاب المقدَّس-أنَّ أصل الفلسطينيين جنوب أوروبا”، مضيفًا “يشير الكتاب المقدَّس إلى مكان يُسمَّى كفتور، ربَّما يكون كريت اليوم. لا يوجد ارتباط بين الفلسطينيين القدماء وفلسطينيي اليوم، الذين أتى أسلافهم من شبه الجزيرة العربيَّة إلى أرض إسرائيل بعد ذلك بآلاف السّنين”.
يذكر سفر التَّكوين قصَّة هجرة أبرام العبراني مع أهله من أور الكلدانيين، في مملكة بابل، أو العراق، إلى الأرض المقدَّسة، وحينها أعطى الرَّبُّ أبرام أرضًا ميراثًا له ولذريَّته من بعده “وَقَالَ لَهُ: «أَنَا الرَّبُّ الَّذِي أَخْرَجَكَ مِنْ أُورِ الْكَلْدَانِيِّينَ لِيُعْطِيَكَ هذِهِ الأَرْضَ لِتَرِثَهَا»” (سفر التَّكوين: إصحاح 15، آية 7). يوضح الرَّبُّ لأبرام حدود الأرض الَّتي وهبه إيَّاها “فِي ذلِكَ الْيَوْمِ قَطَعَ الرَّبُّ مَعَ أَبْرَامَ مِيثَاقًا قَائِلًا: «لِنَسْلِكَ أُعْطِي هذِهِ الأَرْضَ، مِنْ نَهْرِ مِصْرَ إِلَى النَّهْرِ الْكَبِيرِ، نَهْرِ الْفُرَاتِ. أَرْضَ الْقِينِيِّينَ وَالْقَنِزِّيِّينَ وَالْقَدْمُونِيِّينَ. وَالْحِثِّيِّينَ وَالْفَرِزِّيِّينَ وَالرَّفَائِيِّينَ. وَالأَمُورِيِّينَ وَالْكَنْعَانِيِّينَ وَالْجِرْجَاشِيِّينَ وَالْيَبُوسِيِّينَ»” (سفر التَّكوين: إصحاح 15، آيات 18-21). لن ننسى أنَّ الرَّبَّ أمر أبرام، أو أبراهام كما غيَّر الرَّبُّ اسمه، في سفر التَّكوين أن يطرد “الجارية” هاجر أم ابنه الأكبر، إسماعيل، وابنها، محرّمًا على ابن الجارية أن يرث الأرض مع أخيه ابن الحرَّة، سارة، تأييدًا لرغبة سارة “وَرَأَتْ سَارَةُ ابْنَ هَاجَرَ الْمِصْرِيَّةِ الَّذِي وَلَدَتْهُ لإِبْرَاهِيمَ يَمْزَحُ. فَقَالَتْ لإِبْرَاهِيمَ: «اطْرُدْ هذِهِ الْجَارِيَةَ وَابْنَهَا، لأَنَّ ابْنَ هذِهِ الْجَارِيَةِ لاَ يَرِثُ مَعَ ابْنِي إِسْحَاقَ». فَقَبُحَ الْكَلاَمُ جِدًّا فِي عَيْنَيْ إِبْرَاهِيمَ لِسَبَبِ ابْنِهِ. فَقَالَ اللهُ لإِبْرَاهِيمَ: «لاَ يَقْبُحُ فِي عَيْنَيْكَ مِنْ أَجْلِ الْغُلاَمِ وَمِنْ أَجْلِ جَارِيَتِكَ. فِي كُلِّ مَا تَقُولُ لَكَ سَارَةُ اسْمَعْ لِقَوْلِهَا، لأَنَّهُ بِإِسْحَاقَ يُدْعَى لَكَ نَسْلٌ. وَابْنُ الْجَارِيَةِ أَيْضًا سَأَجْعَلُهُ أُمَّةً لأَنَّهُ نَسْلُكَ»” (سفر التَّكوين: إصحاح 21، آيات 9-13).
أقام الرَّبُّ عهدًا مع أبراهام من قبل، لمَّا بشَّره بقدوم ابنه إسحق من سارة، معه ومع ذريَّة إسحق وحده، دون أخيه الأكبر إسماعيل “لَيْتَ إِسْمَاعِيلَ يَعِيشُ أَمَامَكَ!». فقال الله “بل سَارَةُ امْرَأَتُكَ تَلِدُ لَكَ ابْنًا وَتَدْعُو اسْمَهُ إِسْحَاقَ. وَأُقِيمُ عَهْدِي مَعَهُ عَهْدًا أَبَدِيًّا لِنَسْلِهِ مِنْ بَعْدِهِ. وَأَمَّا إِسْمَاعِيلُ فَقَدْ سَمِعْتُ لَكَ فِيهِ. هَا أَنَا أُبَارِكُهُ وَأُثْمِرُهُ وَأُكَثِّرُهُ كَثِيرًا جِدًّا. اِثْنَيْ عَشَرَ رَئِيسًا يَلِدُ، وَأَجْعَلُهُ أُمَّةً كَبِيرَةً. وَلكِنْ عَهْدِي أُقِيمُهُ مَعَ إِسْحَاقَ الَّذِي تَلِدُهُ لَكَ سَارَةُ فِي هذَا الْوَقْتِ فِي السَّنَةِ الآتِيَّة.»” (سفر التكوين: الإصحاح 17-الآيات 18 إلى 21). وقد عبَّر بولس الرَّسول، باعتباره يهودي الأصل قبل أن يُؤسّس عقيدة المسيحيَّة، عن اعتقاد اليهود في أحقيَّة بني إسحق في الأرض المقدَّسة، دون العرب من بني إسماعيل بقوله ” فَإِنَّهُ مَكْتُوبٌ أَنَّهُ كَانَ لإِبْرَاهِيمَ ابْنَانِ، وَاحِدٌ مِنَ الْجَارِيَةِ وَالآخَرُ مِنَ الْحُرَّةِ. لكِنَّ الَّذِي مِنَ الْجَارِيَةِ وُلِدَ حَسَبَ الْجَسَدِ، وَأَمَّا الَّذِي مِنَ الْحُرَّةِ فَبِالْمَوْعِدِ. وَكُلُّ ذلِكَ رَمْزٌ، لأَنَّ هَاتَيْنِ هُمَا الْعَهْدَانِ، أَحَدُهُمَا مِنْ جَبَلِ سِينَاءَ، الْوَالِدُ لِلْعُبُودِيَّةِ، الَّذِي هُوَ هَاجَرُ. لأَنَّ هَاجَرَ جَبَلُ سِينَاءَ فِي الْعَرَبِيَّةِ. وَلكِنَّهُ يُقَابِلُ أُورُشَلِيمَ الْحَاضِرَةَ، فَإِنَّهَا مُسْتَعْبَدَةٌ مَعَ بَنِيهَا. وَأَمَّا أُورُشَلِيمُ الْعُلْيَا، الَّتِي هِيَ أُمُّنَا جَمِيعًا، فَهِيَ حُرَّةٌ” (رسالة بولس الرَّسول إلى أهل غلاطية: إصحاح 4، آيات 22-26). المفارقة أنَّ بولس الرَّسول تغاضى عن حقيقة أنَّ أربعة من أبناء يعقوب، وهم دان ونفتالي وجاد وأَشير، من أبناء الجواري، كما يرد في “وَكَانَ بَنُو يَعْقُوبَ اثْنَيْ عَشَرَ. بَنُو لَيْئَةَ: رَأُوبَيْنُ بِكْرُ يَعْقُوبَ، وَشِمْعُونُ وَلاَوِي وَيَهُوذَا وَيَسَّاكَرُ وَزَبُولُونُ. وَابْنَا رَاحِيلَ: يُوسُفُ وَبَنْيَامِينُ. وَابْنَا بِلْهَةَ جَارِيَةِ رَاحِيلَ: دَانُ وَنَفْتَالِي. وَابْنَا زِلْفَةَ جَارِيَةِ لَيْئَةَ: جَادُ وَأَشِيرُ” (سفر التَّكوين: إصحاح 35، آيات 22-26).
(المصدر: رسالة بوست)