محمد شحرور فراغ يملأ الفراغ، وأحد أفراد الظاهرة الصوتية التي تدوّي في أرجاء ضيقة بأصداء مشوشة، يستطربها محبوه دون غيرهم من ذوي الأسماع المرهفة.
(بؤس التلفيق) كتاب يكشف ثنائية (البؤس) و(التلفيق)، التأمت؛ ليفضح كلٌّ منها الآخر، فقد يرمز البؤس إلى ما يستدر العطف، ويرمز التلفيق إلى قدرة الملفق على التحايل ونجاحه نهاية الأمر، أما أن يكون التلفيق بؤساً وابتذالاً، فهذا شأن مختلف في هذا الكتاب المختلف.
التناقض والتلفيق متكاملات في الحطّ من الأطروحة والموضوع الذي يكدّ فيه المفكر لينضجه مادةً ذات قيمة؛ ذلك أن التناقض يستنجد بالتلفيق، والعكس صحيح، ولا بد لهذا الاستيراد والتصدير بينهما من خلل وفساد في التلقي والوعي؛ لأن الارتباك هو سيد العلاقة، لا سيما في تجربة محمد شحرور وأضرابه من مفكري الليبرالية ومسائلة النص والتشكيك في التراث، فمحمد شحرور في كتبه يطالب بفهم النص المقدس بأداة تفكير عصرية ويفاخر بتجاوزه العصورَ الأولى التي لم تعِ – بحسب طرحه – النص ومؤثره الإنساني، ثم لا يلبث أن يتناقض في انقلاب لا يحدث إلا في مسابقات القفز الرشيق. يقول المؤلف يوسف سمرين: “هذا الرجل لا يعبأ بأي شيء، فتارة يرفض أن يرجع لفهم الإسلام إلى عصر النبوة، ليطير به إلى العلمانية الأوروبية، وتارة أخرى يعود إلى ما قبل الميلاد – عند أرسطو ومن قبله – ليفسر بهم القرآن، دون ما يُظهر أنه على دراية بأصول ما يقول”.
فكما يبدو أن شحرور يختار العصر حسب الحاجة، مخالفاً الأصل الذي استند إليه في منطلقه لقراءة الخطاب الديني؛ فاضطر إلى التلفيق ليداري ارتباكه مع معطيات الزمان، فهو يرفض قطعاً التتلمذ على تفسير وفهم الصحابة والسلف، وينسف قروناً زاخرة بالنشاط العلمي، ويرتهن – حسب ما يقول – إلى العصر الحديث ومعطياته، والحق أننا لا نعرف عن أي عصر حديث يتكلم، وهو الذي يلوذ بتفسيرات الجهمية في العصر الأموي أو الباطنية في العباسي، بل لا يكاد يمر على عصر إلا ويلفق منه ما يطيب له، ثم يستدبره مكابراً وكاذباً بأنه لا يتفاعل إلا مع عصره الحديث الناضج الذي هضم كل العصور وصار إلى الخلاصة الأخيرة أو نهاية التاريخ، درجة أنه يدّعي أن العصر النبوي لم يفهم الوحي والنص مُعرّضاً بشخص -الرسول صلى الله عليه وسلم-، ثم ها هو يخلدُ إلى شاذة في أي عصر قديم دون احترام لقرائه ومتابعيه، ولعله يرفض فهم الأقدمين لئلا يدخل في حوار مع تفسيراتهم للدين؛ إذ إنّ الحوار أو المناظرة مع الآخر المخالف ليس من شأنه أو منهجه، فهو يعرف النتيجة المحسومة سلفاً.
التأويل الباطني للنص – عند شحرور- مغامرة ممتعة أكثر منها بحثاً عن الحقيقة، حيث يمضي قُدما في مغامراته إذا استشعر بقدرته على المضيّ والاكتشاف غير محمود العواقب، ولن يعدل عنها حتى يتشجع في الدخول في حوار علني مع عالم شريعة، وعندها سيكف عن مغامراته أو حواراته.
يستفتح شحرور علاقته بالنص بإثارة الشك وتقزيم التناول العلمي الذي درج عليه العلماء واختلفوا فيه، ويمارس لعباً بهلوانياً باللغة وإحالاتها، بفتح فضاء مجاني للتحليق المجاني، متمثلاً قاعدة (لا وصاية على النص)، وأنه مفتوح الدلالة، ويحق لكل أحد أن يفهمه بوجه، ما دام عربياً يعي ما يقرأ، والحق أن هذا المنهج سيفتح باب العشوائية التي تحرم الحلال وتحلل الحرام وتجعل قداسة النص على المحك والامتهان، وسيخوض فيه الخائضون من ملاحدة ومتطرفين دينيين، فما تجرأ داعشي على النص إلا بعد أن نودي بشعار (لا وصاية على النص)، فكان محرضاً لهم كغيرهم، حيث لا استثناء في هذا الشعار كما تكشف لغته. فالمجانية توقع شحرور في الارتباك والتناقض، وكل ما يطرحه لا يصمد أمام التحقيق أو الأسئلة العابرة غير المُعدّة سلفاً، فكيف بمن سيأخذ وقته وجهده للإعداد لمناقشة شحرور،، والكتاب يستجلي جانباً عريضاً من التلفيقات، على سبيل المثال لا الحصر، وسيبقى الملفقُ يلفق حتى يُساق سوقاً إلى مكاشفة ومناظرة محرجة، رغم أن بعضهم يصرّ على تناقضه وتلفيقه حتى بعد افتضاح أمره على الملأ، كنفيه الاستعانة بعلوم الأقدمين في تناول النص، وهو يكذب، بل لا يكاد يأتي برأي مستقل، ولا أدوات مستقلة، كما أنه يلفق ويرتبك في عقيدة وحدة الوجود والدعوة للشك، ونفاقه بشأن أن الإسلام دين الفطرة، وادعائه أن داروين مرجعية لفهم الحق، ثم يتستر على جوانب فاضحة لا تروق له في نظريات داروين نفسه، كما أنه يكذب بلا حياء على علماء كالشافعي، واتهامه بالقومية كما خلط في كلام الأشعري، ونفي عن القرآن ما جاء فيه، وتخبطاته في ثنائية (الإناث والرجال) في القرآن، والقائمة تطول في هذه التلفيقات التي ألمح إليها الكتاب، الحافلة في كتبه ومحاضراته، وآخرها قوله بأن الصوم اختياري غير واجب، وهذا من أفدح وأفضح ما ينبس به متهور، إلا أن شحرور ومنطلقات الباطنية وأدواته الاستبطانية تقلب المضامين والمفاهيم رأساً على عقب، لكنها لا تلبث أن تعود إلى نصابها وطبيعتها فور ما يدرك المتلقي بفطرته أنه إزاء تلفيقي بليد، يخرج وحده على القنوات ليهذي بما يشاء دون أن يعقّب عليه معقّب.
وَإذا ما خَلا الجَبَانُ بأرْض*** طَلَبَ الطّعْنَ وَحدَهُ وَالنّزَالا
(المصدر: موقع المثقف الجديد)