بقلم أمير السعيد – موقع المسلم
“هذا سؤال مثير للاهتمام”.. اكتفى جورج بوش بتلك الإجابة المقتضبة الاستفزازية في رده على سؤال بنهاية عهده عما إذا كان سيضرب العراق ويطيح نظام صدام حسين لو كان قد علم أن هذا البلد لم يكن يملك أسلحة دمار شامل، وقال إن “أكثر ما آسف عليه هو إخفاق الاستخبارات الأمريكية بشأن العراق”!
دُمر العراق كله، وهجر الملايين السنة من ديارهم في واحدة من كبريات عمليات التهجير القسري التي لا يفوقها إلا عملية تهجير إخوانهم السوريين في أكثر جرائم الإنسانية المعاصرة وحشية.
تحركت واشنطن في العراق فدمرته، وصمتت في سوريا فدمرتها.. فكان عدوانها شر وانسحابها شر، والمفارقة أنها اعتدت على العراق بدعوى كاذبة بامتلاكه أسلحة دمار شامل، وأرخت حبال الغي والعدوان لحليفها بشار الأسد في سوريا بعدما تيقن كل صغير وكبير بامتلاك نظامه أسلحة دمار شامل، استخدمها على مدى 5 سنوات ضد شعب سوريا الصامد، كان أكبرها في مجزرة الغوطة قبل أربع سنوات، وآخرها مجزرة خان شيخون التي أعقبتها ضربة استعراضية أمريكية لمطار الشعيرات.
“شكت” أمريكا في وجود الأسلحة بالعراق فأمطرتها بقصف سُمي حينها بـ”السجادي”، ونفذت آلاف الطلعات الجوية محيلة ليل بغداد نهاراً، ودمرت آلاف الأهداف الحقيقية، وتيقنت باستخدام الأسلحة المدمرة المحرمة في سوريا فنفذت هجمة صاروخية مخملية يتيمة خدشت مدرج المطار السوري، بعد أن تجاوز بشار “العديد من الخطوط لدي عندما قام بضرب الأطفال بالكيماوي، وهو ما غير نظرتي إليه”، على حد قول الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، والذي أرغى وأزبد مغضباً: إن “الأفعال الشنيعة التي يرتكبها نظام بشار الأسد هي نتائج ضعف الإدارة الأمريكية السابقة وعدم امتلاكها للعزيمة، فالرئيس أوباما قال عام 2012 إنه سيضع خطا أحمر ضد استخدام الأسلحة الكيميائية، لكنه لم يفعل شيئا”، ففعل ترامب الأفاعيل بضرب صفائح الخردة السورية في مطار الشعيرات!
الآن، والعراقيون يلعقون جراح أربع عشرة سنة من آلام العدوان الذي شنته الولايات المتحدة وحلفاؤها، وما بعده، ويتذكرون سقوط بغداد الحزين في التاسع من إبريل حينها، وما استتبعه من أثمان باهظة طالت أرواح مئات آلاف السنة (ما لا يقل عن 650 ألف عراقي وفقاً لإحصاءات بريطانية) وتدمير عشرات المدن والبلدات، وإحالة بلد إقليمي ناهض يمتلك ثروات واحتياطات نفطية هائلة إلى بلد فقير جداً يعاني أهله الضياع بين التهجير والتجويع والتخلف الذي جلبه الاحتلال وأذنابه الإيرانيون، يستذكرون عشرات من الوعود التي أطلقتها الآلة الإعلامية الغربية لمرحلة ما بعد صدام حسين، عن الديمقراطية، واحترام حقوق الإنسان، والرفاه، وتحديث التعليم، والرعاية الطبية.. الخ، حيث استيقن الجميع أن الولايات المتحدة لم تخط خطوة في اتجاه غزو العراق إلا ما أجل مصادرة كل هذه الوعود ووأد أحلام المستضعفين، تماماً مثلما خلص إلى هذا السوريون أيضاً مع استقبالهم لأنباء الضربة الكرتونية الأمريكية لنظام بشار.
القواعد الأمريكية لم تزل موجودة في العراق بعد 14 عاماً من الأكذوبة، واستنزاف ثرواته لم يزل قائماً، وتدمير بناه التحتية، وتهجير أهله مستمر على مر هذي السنين العجاف، والإخفاق المتعمد في إقامة نظام سياسي عادل، أو ديمقراطي، ممتد برغم تغليف العدوان بالرغبة في إقامة نموذج ديمقراطي رائد في العراق يحتذى به في كل دول المنطقة، ومصادرة ثقافته واغتيال علمائه وتطييف تعليمه وتأبيد تخلفه، كلها أهداف حرصت واشنطن على ديمومتها في العراق منذ إسقاط حكومة صدام وإقامة نظام الملالي.
لقد أخضعت واشنطن العراقيين لاسيما السنة لنظام فاشي في العراق، وهي تفعل الشيء ذاته في سوريا، وهي تجرب كل خبراتها في مصادرة إرادات الشعوب الحرة في المنطقة؛ فتارة تسقط نظاماً بالعدوان لتحل آخر طائفياً ينفذ بدقة مشروع الولايات المتحدة للمنطقة، وتارة تسقط نظاماً منتخباً لتحل آخر عسكرياً مكانه، وثالثة تستميت من أجل بقاء نظام طائفي دموي حؤولاً دون حصول الشعب على حقه بالحرية والاستقلال.. تتنوع الوسائل لكن الهدف الأمريكي ذاته سواء أكان في العراق أم سوريا أم غيرهما، ألا تصل هذه الشعوب لحقوقها وألا تعانق قيمها وأصولها وتباشر حريتها، وهي في كل هذه الأحوال تقاوم كل مقاومة، أكانت سلمية سياسية هادئة أم كانت مسلحة كالعراق وسوريا.. بكل الوسائل تفعل، عدواناً، انقلاباً، حصاراً على الأحرار والضعفاء، تفكيكاً لكل مقاومة.. ثم من بعد كل هذا، هناك من لم يزل يميل مع كل ريح واهماً أنه يمكن أن يحصد من الشوك العنب!
أربع عشرة سنة مضت على تدمير العراق، وسقوط بغداد، وأكذوبة الدمار الشامل، تخللتها مآسٍ عظيمة، لعل أبرزها ما يتوجب على السوريين اليوم الالتفات إليه جيداً؛ فلقد مرت نصف هذه السنوات العجاف بعد تصفية المقاومة العراقية مثلما تهدف واشنطن إلى هذا أيضاً في سوريا، فما الذي جناه العراقيون من بعدها إلا مزيداً من التهجير والقتل والاضطهاد.. لقد غابت المقاومة العراقية فدمرت الأنبار وأخواتها، ولئن صار في سوريا ليجهزن “العالم الحر” – لا قدر الله – على ما تبقى من هذا البلد المنكوب.. هذا هو الدرس الأخير الذي يتعين استذكاره جيداً في هذا اليوم الحزين.