في وداع الدكتور محمد عمارة
بقلم أ. عماد الدين عشماوي (خاص بالمنتدى)
انتقل إلى رحمة الله تعالى الأستاذ الدكتور محمد (1931-2020م) الجمعة الماضية، مخلفاً لأمته تراثاً فكرياً كبيراً وإرثاً قيماً في مختلف قضايا الحياة في ارتباطها بالإسلام كعقيدة وشريعة وطريقة للحياة الطيبة الآمنة ستظل تنهل منه أجيال كثيرة في رحلتها نحو النهوض بأمتها. مات الدكتور عمارة مخلفاً غصة في قلب كل مؤمن بالله ورسوله وهو يرى علماً من أعلام الأمة وفارساً شجاعا من فرسانها يودع ميدان الجهاد على ثغر أمته الفكري راحلاً إلى ربه راضياً مرضياً بعد أن أوفى عمله وأدى رسالته وترك وصيته باقية في عقبه لأمته أن موتوا على مات عليه نبيكم وحبيبكم.
مات محمد عمارة الإنسان كما يموت كل حي، ولكن ستظل أفكاره باقية نيرة تنير درب أمتنا في ليلها حالك السواد الذي تتخبط فيه وليس لنا إلا أن نقول إلا ما يرضي ربنا إنا لله وإنا إليه راجعون وإنا على فراقكم يا دكتور عمارة لمحزونون، وفي خضم هذه اللحظات الحزينة نسترجع معاً ونقف أمام نبذة من بعض ما عاش من أجله ونافح عنه عقوداً طويلة على أن نعود لأفكاره بشكل أكثر تأصيلاً في المستقبل أن شاء الله.
ووقفتنا الآن تتعلق بدوره في حفظ تراث الأجيال السابقة من رواد النهضة في القرنين الماضيين وفي وفائه لرجال نهضتنا وما كتبه عنهم لعلنا نرد له بعض حقه، فقد قام الدكتور عمارة رحمه الله بدور كتيبة كاملة من المحققين في الحفاظ على تراث أهم أعلام النهضة في الأمة العربية المسلمة في العصر الحديث، حيث قام بتحقيق أعمال كل من: رفاعة الطهطاوي وجمال الدين الأفغاني وعبد الرحمن الكواكبي والإمام محمد عبده والأستاذ قاسم أمين. وأنصف الكثير من أعلام العرب المحدثين من غلو أنصارهم وخصومهم معا مثل كتاباته عن: الشيخ علي عبد الرازق والزعيم سعد زغلول والدكتور طه حسين والمنظر القومي ميشيل عفلق وعبد الرازق السنهوري ومحمد الغزالي وحسن البنا، وكانت كتاباته عنهم تحقيقاً وتوضيحاً لمواقفهم وآراؤهم وتخليصها من عيوب كثير من التراجم التي كتبت لهم أو عنهم مدحاً أو ذماً، فقد اهتم بالتأريخ لحياتهم وإنجازاتهم وبيان كافة جوانب حياتهم وتطوراتهم الفكرية دون الوقوف عند مرحلة فكرية معينة وإنما تتبع سيرة كل واحد منهم الفكرية من بدايتها حتى نهايتها، وكيف تبلورت القضايا الكبرى التي نذر كل واحد منهم لها عمره، وكيف رست سفينة كل واحد منهم الفكرية في آخر رحلتها، قاصداً بذلك أن يتعلم الإسلاميون والمسلمون المنهاج العلمي في دراسة تاريخ الأفكار بدلاً من المنهاج الإقصائي الأخرق كما قال الدكتور رحمه الله.
بعض أقواله في الأعلام الذين أنصفهم
-كان رفاعة الطهطاوي أول “عين” لنا رأت الحضارة الغربية الحديثة ومرحلة الانتقال لحضارتنا من “حقبة الجمود” إلى “عصر اليقظة والتجديد”، ونموذج “القلق” الذي تمثل في عقل الأمة ووجدانها عندما قارنت بين “تخلفها الموروث” وبين “الوافد الغربي”، بما فيه من “نافع” و”ضار”، فكانت اجتهاداته نقطة الانطلاق التي أمسك الجميع بخيوطها ـ وعيونهم على المستقبل ـ حتى هذه اللحظات.
-كان جمال الدين الأفغاني صاحب منهاج شامل في الإصلاح والتجديد، وكان يركز على بناء المؤسسات التي تصنع العقل العربي والمسلم وفي مقدمتها الأزهر الشريف.
-لقد كان سعد زغلول باشا حتى بعد أن أصبح زعيم الأمة حريصاً على الإعلان عن أصوله الأزهرية والإشادة بدور دراسته الأزهرية وفضل المنهاج التربوي الأزهري على تكوين استقلاله الفكري.
واجبنا نحو الدكتور بعد وفاته
كثيرون هم الكتاب والمفكرون الذين أثاروا الجدل حول ما قدموه من أفكار، ويعد الدكتور عمارة واحداً من هؤلاء المفكرين الكبار الذين كانت كتاباتهم تمثل معارك فكرية حقيقية لها أنصارها ومعارضيها، وإذا استعرنا كلماته في رثائه لشيخنا محمد الغزالي رحمه الله يمكننا القول دون مبالغة أن المرء عندما يتلفت حوله الآن يشعر بالفراغ الذي تركه الدكتور عمارة رحمه الله في ميدان الفكر والثقافة الإسلامية والعربية والمصرية والإنسانية، ويتذكر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ” إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمِ انْتِزاعًا يَنْتَزِعُهُ مِن الْعِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاء حَتَّى إِذا لم يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤَسَاءَ جُهَّالًا فَيُسْأَلُوا، فأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا”.
وعزاؤنا الذي يليق بمفكرنا الراحل الكبير أن نجعل رسالتنا التي نؤديه نحوه ونحو أمثاله من علماء الأمة ومفكريها من مختلف التوجهات أن نتلمس التطور الفكري لهم والذي مروا به والذي أنتج رؤية معينة لتاريخنا وحاضرنا ومستقبلنا نستفيد منها ونبني على الصالح منها ونترك غير ذلك، وأن ننصف محمد عمارة من أنصاره وخصومه جميعاً وذلك بأن ندرسه في مجمل أعماله المكتوبة والمسموعة والمرئية، كما فعل هو مع اعلام نهضتنا الحديثة والمعاصرة.
إن واجبنا الحقيقي تجاه الدكتور عمارة أن ندرس أعماله وأفكاره في ضوء علم اجتماع المعرفة الذي يؤكد على العلاقة الوثيقة بين أنساق الفكر والوقائع الاجتماعية وبين أنماط الإنتاج الفكري ومعطيات البيئة الاجتماعية حيث ترتبط كل معرفة بسياقها الاجتماعي، وكيف تصبح الفكرة الذاتية (الفردية) معرفة اجتماعية ثم واقعاً اجتماعياً، وكيف أن المعلومات الخاصة ببيئة المفكر التي نشأ فيها والجماعات المرجعية الأولية التي احتك بها (الأسرة، والأقارب، والأصحاب، والأساتذة) والأجواء السياسية والثقافية المحلية والإقليمية والعالمية التي عاش في ظلالها وأنتج فكره ذات قيمة كبيرة في هذا المجال. ولهذا تكون الإحاطة بالبيئة التي ظهر فيها المفكر الدكتور محمد عمارة رحمه الله: التاريخ، والجغرافيا، والمعتقد الديني، والتنشئة، والتعليم، والثقافة، والسياسة، والأفكار السائدة، هامة للغاية في فهم مشروعه الفكري، فالأفكار ترتبط دائماً ببيئتها؛ سواء كان ذلك أخذاً أو عطاء أو رفضاً أو موافقة، لكن مع الأخذ في الاعتبار عدم تحميل الأفكار أكثر مما تحتمل من التأثر بالبيئة، ولا أن نهمل البيئة أو نجحد ما لها الفضل الأول في أفكار مفكرنا الراحل الكبير.
ولعلنا إن نهجنا هذا النهج في دراسة مشروع الدكتور عمارة الفكري في سياقه المحلي والإقليمي والإسلامي الذي عاش فيه سنجد أنفسنا إن شاء الله خارجين من حالة الانفصام التي تعيشها النخب الفكرية في علاقاتها ببعضها البعض، ونخرج من ثنائية: إسلامي وعلماني، والتي تجعل كل فريق من هذين الفريقين يضن على الآخر بلقب المفكر، ونخرج من الثنائيات البغيضة التي قسمت الأمة وأضاعت جهوداً طائلة لخدمتها بحجة أن هذا إسلامي وذلك علماني.
وفي ضوء هذه الرؤية التي حكمت الكثير من أعمال الدكتور عمارة رحمه الله ندعو أن تقوم جماعة بحثية محتسبة للحفاظ على تراثه الفكري دراسة وتحليلاً وتنقد أفكاره التي تجاوزها الزمن أو جانبه فيها الصواب، وتستخرج منه معالم مشروعه الحضاري لنهضة الأمة وتبسط كتاباته القيمة لأطفال وشباب الأمة ورجالها نسائها لعلنا نكون قد قمنا ببعض دينه في عنق كل مسلم قرأ أو سيقرأ له في الحاضر والمستقبل.
وأخيراً وليس آخراً
رحم الله الدكتور محمد عمارة فقد كان أمة في رجل وغفر له وأسكنه فسيح جناته لقاء ما قدم لأمته المصرية والعربية والإسلامية والإنسانية من أعمال فكرية راقية ستبقى مع أمتنا عقوداً مديدة تستمد منها روح الجهاد الصادق في سبيل نهضة أمة طال ليل سباتها.