مقالاتمقالات المنتدى

في وداع الحكيم طارق البشري

في وداع الحكيم طارق البشري

بقلم أ. عماد الدين عشماوي (خاص بالمنتدى)

 

انتقل إلى جوار ربه اليوم القاضي الفقيه المفكر والقانوني الضليع العفيف المتعفف نائب رئيس مجلس الدولة الأسبق المستشار طارق البشري (1 نوفمبر 1933- 26 فبراير 2021م)، بعد أن عاش عمره في محراب القضاء والفكر والتاريخ، قابضاً على دينه لا تغريه مناصب أو متاع زائل، ناصحاً لأمته مشاركاً في همومها، ومربياً لأجيال من القانونيين والمفكرين والباحثين في مختلف شئون الأمة.

عمل فقيدنا الراحل بعد تخرجه من كلية الحقوق عام 1954م في مجلس الدولة حتى خرج للمعاش عام 1998م، وترك وراءه ثروة قانونية هائلة ومؤلفات دفاعاً عن استقلال القضاء منها كتابه “القضاء المصري بين الاستقلال والاحتواء”، وكان طوال فترة ولايته القضائية مثالاً للقاضي العادل، وفي نزاهته وعدالته وتمكنه كقاض يقول الدكتور فاروق عبد البر النائب الأسبق لرئيس مجلس الدولة في حفل تكريمه عند خروجه إلى المعاش: “أما عن طارق البشري القانوني والقاضي، فهو في هذا متفرد ومتميز، والقانوني المتفرد والقاضي المتميز هو صاحب العقل القانوني الصافي، والمنطق السليم، والذهن المرتب، والأسلوب الرفيع، واللغة الرصينة، والتقدير الحسن، والصبر في الحوار، والجلد على العمل، والثقافة العميقة، والباع العريض في فهم القانون وتفسيره وتأويله، وهو كذلك صاحب الرؤية الشاملة لمشاكل بلده والربط بينها وبين ما يبديه من آراء وما ينتهي إليه من أحكام في حدود ما يقضي به القانون بالطبع ودون خروج عليه بالتأكيد، وهو كذلك صاحب الموقف الشجاع والصلب في القضايا المهمة التي يمكن أن تعرض عليه ليقول فيها رأيه أو يقضي فيها بحكمه. والمستشار طارق البشري جمع بين كل الصفات السابقة اللازمة للقانوني المتفرد والقاضي المتميز. إنه يبدي رأيه أو يصدر حكمه ملتزماً القانون، مستوعباً الواقع، مستشرفاً المستقبل. إنه يقول ما يعتقده حقاً وعدلاً ويمضي غير مبال برضاء أو غضب أصحاب السلطان. إنه مستعد لمواجهة العواصف والأعاصير التي قد تهب عليه من الجهات الأربع، وليس بيده من سلاح سوى الإيمان بالله، وبأن الحق أحق أن يتبع مهما كانت النتائج، أنه في النهاية لا يصح إلا الصحيح. ويكفي في هذا المجال إنجاز الجمعية العمومية للتشريع في فترة رئاسته لها لندرك الثروة القانونية العظيمة التي خلفها لنا، كما لا ننسى أن نذكر له وقت أن كان رئيساً لمحكمة القضاء الإداري حكماً عظيماً أصدره عام 1992م خاصاً بالفقرة الثانية من المادة السادسة من قانون الأحكام العسكرية ضاق به-أي بهذا الحكم- أصحاب السلطان، فقامت جوقة من الصحفيين تهاجمه على صفحات الجرائد بشراسة، ولكنه لم يأبه لهذا ومضى واثق الخطوة في الطريق الذي اختار أن يسير فيه”[1]، وبسبب تلك الصفات واستقامته واستقلاله حيل بينه وبين اعتلاء كرسي رئاسة مجلس الدولة.

أما عن طارق البشري المفكر والمؤرخ فقد ترك لنا كنزاً معرفياً لم يدرس بعد بالقدر الواجب لاستخراج معادنه النفيسة من الأفكار وتحويلها إلى مؤسسات وبرامج ومشروعات تنفع الأمة، ففي مجال الكتابة التاريخية ترك لنا مؤلفات غاية في الأهمية من أهمها: الحركة لسياسية المصرية، سعد زغلول يفاوض الاستعمار، الديمقراطية ونظام 23 يوليو، شخصيات تاريخية، وفي فهم تكوين الدولة المصرية ودولاب عملها ترك لنا كتابات غاية الأهمية في كتبه: محمد علي وعصره، جهاز الحكم والإدارة في مصر.

وفي الإسلاميات ترك لنا ثروة طائلة من الكتابات في الشريعة الإسلامية تاريخها وتطورها واجتهادات غاية في الأهمية في علاقة المواطنة بين المسلمين والأقباط في كتابه العمدة المسلمون والأقباط في إطار الجماعة الوطنية، منهج النظر في النظم السياسية المعاصرة لبلدان العالم الإسلامي، مشكلتان وقراءة فيهما، هذا بالإضافة إلى سلسلة “في المسألة الإسلامية المعاصرة ” في ستة أجزاء: ماهية المعاصرة، الحوار الإسلامي العلماني، الملامح العامة للفكر السياسي الإسلامي في التاريخ المعاصر، الوضع القانوني المعاصر بين الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي، بين الجامعة الدينية والجامعة الوطنية في الفكر السياسي، كتابه الأخير “نحو إسلامية المعرفة”.

وفي الوضع السياسي المصري كتب المستشار البشري عن :الديمقراطية والناصرية، دراسات في الديمقراطية المصرية، ثورة يناير، قراءات في الثورة المصرية، وفي المقاومة للاستبداد يبرز كتابه: “مصر بين العصيان والتفكك”، وفيه مقاله “أدعوكم للعصيان” الذي يعد قطعة من الأدب المقاوم والكلمة المقاومة التي تستحق أن تدرس لشباب الأمة، في السيرة الذاتية يبرز كتاب “حوارات مع طارق البشري” الذي خططت له الدكتورة نادية مصطفى وأسرة مركز الحضارة للدراسات والبحوث وأداره باقتدار الأستاذ مدحت ماهر فأخرجوا لنا درة من درر السير الذاتية لحكيمنا الراحل.

وفي العلاقة بين الإسلام والعروبة كتب “بين العروبة والإسلام” في جزأين،  و”العرب في مواجهة العدوان”، وفي محاولته لبيان طريق نحو توحد قوى الأمة المصرية والعربية في مواجهة الاستبداد والعدوان كتب بيانه الفكري “نحو تيار أساسي للأمة”، هذا بخلاف مئات المقالات والدراسات ومقدمات التقارير والكتب.

عاش البشري حياة مديدة مباركة حاول خلالها أن ينفع أمته ما وسعه جهده في مهنته كقاض أو حرفته كمؤرخ أو أمانته كمفكر، واجتهد في ذلك كله ما وسعه جهده حتى لقى ربه راضياً مرضياً إن شاء الله، وطوال هذه الحياة رفض أي إغراءات مادية جاءته طالبة راغبة من الداخل المصري أو الخليج العربي حيث المال الوفير والثروة، يحكي الدكتور سيد دسوقي حسن أن المستشار البشري زاره يوماً كأنه أهمه أمر جلل، وحكى له أن جهتين خليجيتين قد عرضتا عليه منصبين تسيل لهما لعاب كل الناس وسأله رأيه، فقال له: وما رأي أختنا الفاضلة عايدة (زوجته) والأبناء الأعزاء عماد وزياد، فقال: إنهم جميعاً لم يشجعوه على السفر، فقال الدكتور دسوقي: وتريد رأيي؟ فقال نعم، فقال: إني بك لضنين، وأحسب أن قلب مصر كلها بك لضنين، فاغرورقت عيناه وقال: نعم ألم نهاجر يا سيد (يقصد هجر كل إغراء) فقلت بلى وأدعو الله أن يثبت هجرتنا وأن تكون خالصة لله ورسوله[2].

نسأل الله أن يجعل هجرتك في سبيل الله يا حكيمنا الراحل هجرة مباركة، وأن يجعل اليوم أسعد أيامكن وأن يعوض الأمة عنك خيراً، وأن يلهم كل مؤسسة جادة للفكر المصري والعربي الإسلامي أن تتبنى برامج لدراسة فكرك بالشكل اللائق به، وأن يعين كل عارف لفضلك متابع لفكرك أن يكمل مسيرتك.

إنّا لله وإنّا إليهِ رَاجعُون

 

______________________________________________________________

 

[1] كلمة الدكتور فاروق عبد البر في تكريم البشري، في: غانم، إبراهيم البيومي. طارق البشري القاضي المفكر، مصدر سابق، ص43-44. ويعلق الدكتور محمد نور فرحات على هذا الحكم قائلاً: وثمة حكم قضائي يُعد علامة ناصعة في تاريخ محكمة القضاء الإداري (برئاسة المستشار طارق البشرى) قضى بإلغاء إحالة قضايا المدنيين للقضاء العسكري، وقد برع الحكم في التحليل اللغوي لمصلحة الحرية، ففسر كلمة (الجرائم) بأنها طوائف الجرائم قبل وقوعها وليست قضايا بعينها بعد نسبة الجرائم إلى متهميها. انظر: فرحات، محمد نور. “القضاة والطغاة”، موقع مصر العربية، تاريخ الدخول (27/11/2020م)، على الرابط التالي: https://de.proxyarab.com/index.php?q=oaytpddxkWHPk6vWx6GUpMeXocVj0cnVkYl0aViamV19cV5tllymaodzb4mqblhqmlp8nFqkm4amnFVxdI-JfHFdemyJe5tXmmZdqJ5adWOLeXCJdpaJpZuJaGlik5hvaWlwZZFcpmqHc2-Jqm5YappafJ1am5aGppxVcmmHqHBeeXBaqG-Hc5tfXaifWmtqi3lwiXaaiaWbiWhkWKacXXtvXnmcXKRzh3ZwiadsWHaeWnmd

[2] كلمة الدكتور سيد دسوقي حسن في تكريم المستشار البشري لبلوغه سن التقاعد، في: غانم، إبراهيم. طارق البشري: القاضي المفكر. القاهرة: دار الشروق، ط1، 1999م، ص36.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى