في نسبية الروايات التاريخية
بقلم أ. د. مسعود صحراوي
في نسبية الروايات التاريخية
1- ينبغي للعاقل أن يعلم أن التاريخ علم بشري غير معصوم، وأن مادّته كسبٌ اجتهادي، يعتريها الصواب والخطأ… وإذا استقرت هذه الحقيقة “العلمية”في وعينا أعانتنا كثيرا على مستويات عدة منها الوقوف موقف العدل واجتناب الظلم، واتخاذ الموقف الصحيح من الأشخاص والأحداث والابتعاد عن ظلم أناس لا نعلم حقيقة نواياهم ووجه اجتهادهم فنحيف عليهم، أو نبالغ في تقدير أناس فنرفعهم فوق مكانتهم.
2- ولعله لم يحدث أن شُوه تاريخ أمة من الأمم كما شوه التاريخ الإسلامي قديما في تضخيم الخلافات السياسية التي حدثت بين الصحابة واجتهاداتهم فيها بصرف النظر عن المواقف التي اتخذها بعضهم والأخطاء التي تكون قد ارتكبت من هنا وهناك… وما فعلته دسائس السبئيين والمتطرفين والمتحزبين والمتشيعين لجهة من الجهات- قبلية أو غيرها- وأهل العصبيات الضيقة من كل اتجاه…
3 – ولا يقل تشويها عن ذلك التاريخِ البعيد التاريخُ الجزائري الحديث قبل دخول الاحتلال الفرنسي وطننا وبعده، والمعاهدات التي أُبرمت طيلة تلك القرون الثلاثة السابقة للاحتلال وما لفق في ذلك من تُرَّهات مثل قولهم إن الجزائر لم تكن دولة أصلا وأن هذا الشمال الإفريقي كله (تونس والجزائر والمغرب الأقصى) لم يعرف استقرارا ولا دولة ولا حضارة… ثم بعد الاحتلال زمن المقاومات البطولية الأولى التي تلت الغزو الفرنسي البغيض والمعاهدة (المُذلّة) المزعومة التي يزعمون أن الأمير عبد القادر رحمه الله وقعها مع دي مشال في منطقة وهران وما رافق ذلك من حيل لجأ إليها دي مشال لفك الحصار الذي فرضه الأمير على جيشه… ثم معاهدة التافنة… كل ذلك يحتاج إلى مراجعة ودراسة وتحقيق من المؤرخين الوطنيين الموضوعيين بسبب ما لفقه المؤرخون الفرنسيون المرتبطون بالاحتلال من تلفيقات لتشويه المقاومة الوطنية الباسلة وإلغاء دور الجزائر والمغرب الكبير في القرون الثلاثة التي سبقت الاحتلال، وقد صدَّقَ ترهاتِهم وأباطيلَهم مع الأسف بعضُ بني جلدتنا… حسبما يراه بعض المؤرخين الوطنيين الواعين وقد نتفق مع الدكتور محمد العربي الزبيري في كتابه “تاريخ الجزائر المعاصر/ج1″… في تشكيكه في روايات المؤرخين الفرنسين والعرب المؤدلجين، وهو ما أشار إليه الإمام ابن باديس في أحد أعداد الشهاب (أظنه العدد الصادر في شهر سبتمبر سنة 1937… )
4 -ولهذا لا يكون من الحصافة أبدا بل يكون من السذاجة المفرطة أن نصدق الأخبار والترهات التي لفقها الأعداء قديما وحديثا وألصقوه بتاريخنا لتشويهه ولضرب بعضنا ببعض وتمزيق نسيجنا الاجتماعي الوطني، ولإفراغ تجربة المقاومة من محتواها النضالي وتجريد الذاكرة من وظيفتها الملهِمة في النفوس بتصديق كل ما قيل… ومن فوائد التمحيص أيضا أن نتجاوز السجال العقيم حول المرحلة العثمانية في الجزائر…
قال الشاعر الأندلسي:
“ما كل ما قيل كما قيلا/// فقد باشر الناس الأباطيلا”
وقال الشاعر القديم
……………………….. *** وما آفَةُ الأَخبار إلا رُواتُها
وفي هذا المعنى أبيات الشاعر محمد الأسمر:
هداك الله يا تاريخُ *** يا شيخ الأضاليل
فما أَقْدرَ كفيك *** على نسج الأباطيل
تحابى الحىّ أو تظـــــــــــــلم يا تاريخ أحيانا
فما مثلُك مأمونٌ *** على أخبار موتانا
5 – وحريٌّ بمثقفينا ومؤرخينا أن يهتموا بهذا الجانب حتى نحقق المعنى الذي أرشدنا إليه القرآن الكريم، أعني ضرورة الدراسة والبحث ورد المسائل إلى القادرين على التحقيق والاستنباط، وإخراج التاريخ من السجال السياسي الراهن وتركه لأهله… والحذر مما يحيكه أبناء ديغول بمكر وخبث ويردده الطيبون.
[…وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى ٱلرَّسُولِ وَإِلَىٰٓ أُوْلِى ٱلْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ ٱلَّذِينَ يَسْتَنۢبِطُونَهُۥ مِنْهُمْ ۗوَلَوْلَا فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُۥ لَٱتَّبَعْتُمُ ٱلشَّيْطَٰنَ إِلَّا قَلِيلًا ] (النساء، 83)
ومن المناسب أن نحسن الظن بأسلافنا وقادتنا وصانعي أمجادنا في تاريخنا القريب تماما مثل تاريخنا البعيد…إلا ما ثبت تاريخيا – فيما يشبه العلم اليقيني أو غلبة الظن بقرائن وشواهد- عن شخصيات أساءت التصرف في الأمور الجامعة والقضايا الكبرى بإرادتها دون ضغط ولا إكراه من أي جهة، لا عن اجتهاد غير سديد، ولكن عن إصرار وتعمّد… فعند ذلك يكون الأمر واضحا…أما ما عدا ذلك فالرأيُ أن التحفظ هو الأصل إزاء الروايات ذات الدخَل والخلل.
6- الأصل العلمي المنهجي للكلام في كل الأحداث كما قرره علماء الإسلام، هو: [التحلي بشرطيْ العلم والعدل] (ابن تيمية، منهاج السنة، ج4، ص 337).
(المصدر: رسالة بوست)