في مسألة نفقة الزوج على زوجته في مرضها
بقلم رانية نصر “عضو هيئة علماء فلسطين” (خاص بالمنتدى)
ذكرتَ كُتب الفقهاء المُتقدمة ّذهاب جمهور الفقهاء إلى عدم وُجوب أجرة الطبيب على الزوج لزوجته ولا شراء الأدوية لها، لأنه يراد لإصلاح الجسم، فلا يلزمه كما لا يلزم المستأجر عمارة الدار المستأجرة وإنما يجب عليها في مالها.
في حين قالوا بوجوب توفير خادم لها إذا كانت ممن لا تَخدم نفسها أو من ذوات الأعذار، واختلفوا في العدد أيجب خادم أو خادمان!
وقالوا يجب على الزوج ما تحتاج إليه من المشط والدّهن للرأس وأجرة الحمام، إذا كانت عادتها دخول الحمام، ويجب عليه ثمن الخضاب، والكحل والزينة والطيب إنْ طلبتُه، وإن لم يطلبه الزوج لم يلزمه، لأنه للزينة، وإذا كانت تتضرّر بتركه كالحكل مثلاً وجب عليه إحضاره.
وعندما اشتكت هند زوج أبي سفيان بن حرب لرسول الله صلى الله عليه وسلم زوجها الذي كان يضيّق عليها وكان بخيلاً، فقال لها: “خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف” .
وهنا نجد تعارضاً شديداً يحتاج إلى توفيق، فكيف للجمهور ألا يوجبوا تطبيب الزوجة حال مرضها -وقد يُعتبر هذا الأمر من الضروريات-، ويوجبوا نفقة ما دون ذلك من الحاجيات والتحسينيات؟ّ!
ويكون التوفيق بما يلي:
أولاً: يجب على الزوج كسوة زوجته بإجماع أهل العلم، وذلك لقوله تعالى: “وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ” البقرة 233، ولما كانت الكسوة واجبه على الزوج لحفظ البدن مادياً؛ فكان من باب أولى حفظ البدن من المرض معنوياً لأن به يكون الهلاك، فدرء الهلاك الأعظم أوجب من درء الهلاك الأدنى.
ثانياً: أوجب الفقهاء توفير خادم للمرأة التي تُخدم، بحيث إذا امتنع الزوج وقعت الزوجة في الحرج وهو المشقة الجسدية، ولا تعتبر هذه من المسائل التي تؤدي للتهلكة المحضة، والمرض في حقيقته أعلى مراتب المشقة التي قد تعتري البدن وقد يؤدي للهلاك والموت، فكان من باب أولى وجوب تطبيب الزوجة.
ثالثاً: جملة الفقهاء “وإنما يجب عليها في مالها” قيّد إطلاق عدم وجوب تطبيب الزوج لزوجته، يعني يُخصص الحكم لمن كانت لها ذمّة ماليّة منفصلة عن الزوج، مما يعني بطبيعة الحال إذا انعدم المال وجبَ التطبيب على الزوج.
رابعاً: قول الرسول صلى الله عليه وسلم لهند زوج أبي سفيان: “خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف” قانون عام في أن النفقة على الإلزام لا التخيير، وإن امتنع؛ أخذت منه عنوة ما يكفيها وولدها، فلا يُتصور ألا يُلزم الزوج بالتطبيب وقد أُلزٍم بما هو أدنى درجة وأقل حاجة للزوجة، والنفقة الشرعية تكون بالطعام والإدام والكسوة وآلة التنظيف ومتاع البيت والسكنى والخادم إن كانت ممن تُخدم، فهل آلة التنظيف ومتاع البيت أولى من تطبيبها!!!
فقد تصبر على الكسوة والحاجيات من متاع وأدوات تنظيف ولا تصبر على المرض!
ومن هنا نفهم أن حكم الفقهاء لم يُفهم على مراده من قبل البعض ممن يريد تشويه تاريخ الفقه الإسلامي، أو كان مبنياً على العُرف في ذاك الزمن، فلا يصح استصحابه فيه في هذا الزمن، فالاجتهادات الفقهية المستندة للأعراف بتغيرها تتغير الأحكام ولا تبقى على حالها.
خامساً: أما قولهم “لأنه يراد به إصلاح الجسم”، أليس إصلاح الجسم فيه مصلحة محققة للزوج مادية ومعنوية، وقد قالوا بوجوب توفير أدوات الزينة لأن فيها مصلحه له، وتطبيب البدن فيه مصلحة أعلى من مصلحة التزين!! فلا تصح عقلاً.
سادساً: كان الرسول صلى الله عليه وسلم يتلاطف مع زوجاته أثناء مرضهن، قالت عائشة رضي الله عنها: “كنت أشرب وأنا حائض، فأناوله النبي صلى الله عليه وسلم فيضع فاه على موضع فيّ فيشرب …”، فهذه الرقة وهذا الرقي والحنان والعطف على الزوجة يستدعي من باب أولى تطبيبها عند مرضها واحتياجها للدواء.
سابعاً: بما أن مقاصد الشريعة تتطلع لسيرورة الحياة الزوجية وبقائها، وهذا لا يكون إلا بالإحسان والتواد والتراحم والشفقة من كلا الطرفين، بحيث لا تكون حياة مغلّفة بالمصالح والأنانية؛ فهذا يوجب التعامل برحمة وإنسانية مع الزوجة المريضة وديننا دين الإنسانية والرحمة والإحسان والفضل والعفو.
ثامناً: هل يتصور الزوج أن يمتنع عن تطبيب زوجته وهي في أشد الحاجة للعلاج والعناية والرعاية ويمنعها ماله، ويأتي بعد يومين يطلب منها حقوقه الشرعية دون أن يجد جفاء ونفوراً وكراهية من زوجته، فأي مصلحة في هذه التصرفات التي تتنافى وضمان بقاء هذه الأسرة؟!!
تاسعاً: حتى نفهم ونحكم على الاجتهادات الفقهية لا بد من قراءة الحكم في سياقه وزمانه وتداعياته، وعدم الحكم عليه من منظار الواقع لأن في هذا ظلم شديد للفقهاء، فبعض الأحكام لا تُقرأ إلى في زمن معين، ومبنية على العُرف، فتغير العُرف عامل في تغُيّر بعض الاجتهادات الفقهية.
عاشراً: يحلو للكثير ممن يدعى الدفاع عن حقوق المرأة إطلاق الشُبهات حول بعض الاجتهادات الفقهية التي كانت تصلح لزمن معين تبعاً لأعراف الناس وعوائدهم، ومهما حاولوا عبثاً فلن يلقَوا إلا ما يسوؤهم من الله ومن الناس ولن يرجع مَكرُهم عليهم إلا بالسوء والخسران والحسرة والندم، قال تعالى: “فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ ۚ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ” الرعد: 17.