مقالاتمقالات مختارة

في فقه التجرد وفقه الموازنات | د. وصفي عاشور أبو زيد

في فقه التجرد وفقه الموازنات | د. وصفي عاشور أبو زيد

قراءة في موقف واحد لأبي عبيدة بن الجراح، رضي الله عنه.

قال سلطان العلماء العز بن عبد السلام – رحمه الله تعالى – في كتابه الفريد (القواعد الكبرى) عن خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه: (فلما تولى عمرُ عَزَلَهُ عن حرب الشام، وولَّى أبا عبيدة بن الجراح، فوصل كتابُ العزل إلى أبي عبيدة والناسُ صفوفٌ للقتال، فلم يخبر خالدًا حتى انقشعت الحرب؛ لعلمه بتقدمه في مكايد الحروب، وترتيب القتال، ولو أخبره بذلك لتشوَّش أمرُ المسلمين، وإنما لم يخبره لأنه أذن له في ذلك، أو رأى أنه لا ينعزل حتى يقف على الكتاب). [القواعد الكبرى: 1/ 113].

في هذا النص القليلةِ كلماتُه والموقف الواحد نلحظ عدة أمور مهمة في فقه السياسة الشرعية، وعمق إدراك الصحابة رضي الله عنهم لقواعده وموازناته مع تجرد عظيم ظاهر:

1- قيام ولي الأمر بمسئولياته، وتصرفه بما يحقق مصالح الأمة، ومتابعة أخبارها وشئونها بنفسه.

2- لم يخبر أبو عبيدة خالدا-رضي الله عنهما- بقرار العزل أثناء الحرب حتى لا يَحْدثَ تشوشٌ في الجيش؛ فيتساءل الجنود: من الذي عزله، ولماذا عزله، ومن الذي تولى، ولماذا تولى … الخ، وهذا يؤدي إلى هلهلة الجيش، وانتشار الجدل، والقيل والقال مما قد يؤدي إلى الهزيمة.

3- في عدم إخبار أبي عبيدة لخالد بقرار العزل إشارةٌ كبيرة إلى تجرده التام من حظ نفسه؛ إذ لو لم يكن متجردا لأعلن القرار على الفور، وحقق أمله، وأشبع نُهْمة نفسه بمنصب القيادة دون النظر لأمور أخرى.

4- وفي تأجيل أبي عبيدة إخبارَ خالدٍ بالقرار علامةٌ بارزة على عظيم إدراك أبي عبيدة لفقه الموازنات بين المصالح والمصالح، وإيثاره المصلحة العامة الموضوعية على المصلحة الخاصة الذاتية.

5- فيه كذلك عميق فقه أبي عبيدة بالموازنة بين المصالح العامة والمفاسد الخاصة؛ فإذا كان في سيفِ خالدٍ رهقٌ – كما عبر الفاروق في مناسبة أخرى – أو جاء ببعض المخالفات التي قد يكون فيها تأويل فقهًا، فإنَّ علْم خالد وخبرتَه بمكايد الحروب أنفع للمسلمين، وأقرب إلى تحقيق المصالح الكبرى بالظفر وظهور المسلمين، فلا نترك المصلحة العامة الشاملة في وقت حرج لرعاية مفسدة – إن وُجدت – قد تعود على صاحبها أو تؤثر في دائرة ضيقة في أكبر التقديرات، وهذا من عظيم فقه أبي عبيدة رضي الله عنه، ورسوخه في فقه الموازنات.

6- ولأنه سَيَبْرُزُ لنا سؤالٌ يُقيم تعارضًا وهو معصية أبي عبيدة لأمير المؤمنين حين لم ينفذ الأمر ويبلغ القرار، رأى العز بن عبد السلام بعظيم فقهه وأدبه معًا أن يتأول تأجيل الإبلاغ بأن عمر أذن لأبي عبيدة في هذا، فقال (وإنما لم يخبره لأنه أذن له في ذلك، أو رأى أنه لا ينعزل حتى يقف على الكتاب)، كأن يكون قد قال له في نص القرار: (إن رأيت ذلك، أو كما ترون، ونحو ذلك)، أو اجتهد أبو عبيدة فرأى أن عمر يقصد إبلاغ القرار بعد انتهاء الحرب، وفيه حُسن ظنٍّ من أبي عبيدة بعمر وفقهه وسعة إدراكه بأنه لا يُتصوَّر أن عمر يقصد إبلاغ القرار وقت الحرب لما يترتب عليه من المفاسد ويُفوّت من المصالح، فعقل عمر الكبير وفقهه الراسخ الواسع ينزهه عن قصد ذلك.

(هذا إجمال مركز، وله تأصيل وتفصيل أدعو الله أن يعين عليه).

**

فانظروا – يا رعاكم الله! – كم في هذه الأسطر من فقه عميق في السياسة الشرعية، وعلامات واضحة لإدارك فقه الموازنات، وإشارات بليغة لتجرد الصحابة رضي الله تعالى عنهم من حظوظ أنفسهم، وإيثارهم المصلحة العامة على المصالح الذاتية والخاصة .. إن في ذلك لعبرةً لأولي الألباب.

(المصدر: صحيفة الأمة الالكترونية)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى