في رحاب الذكر
وقفات مع حديث كلمتان خفيفتان على اللسان
بقلم أ. عماد الدين عشماوي (خاص بالمنتدى)
للذكر فضل عظيم ودور خطير في حياة الإنسان المسلم، فالله تعالى خلق الخلق ليعبدوه ويسبحوه بكرة وأصيلاً، والذكر في الإسلام عبادة وعمل لأنه يصنع المسلم الشاهد على العالمين، لأن الذكر هو قمة عبودية الإنسان لله رب العالمين، فكلما زاد العبد في الذكر كلما ارتقى في العبودية، وصار أهلا ليكون داعيا إلى الله على بصيرة، وهي مهمة الأمة السامية التي انتدبها الله لتبلغ العالمين رسالته كما بلغها رسوله محمد الأمين صلى الله عليه وسلم. فالله تعالى يحب عباده الذاكرين الشاكرين، يقول تعالى: “يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا، وسبحوه بكرة وأصيلا”، ويقول تعالى “والذاكرين الله كثيرا والذاكرات” ولقد قال الله تعالى : ” فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ”.
وفي فضل الذكر يقول ترجمان القرآن عبد الله بن العباس رضي الله عنهما: لم يفرض الله على عباده فريضة إلا جعل لها حدًّا معلوما، ثم عذر أهلها في حال عذر ، غير الذكر، فإن الله لم يجعل له حدًّا ينتهي إليه ولم يعذر أحدا في تركه إلا مغلوبا على عقله، قال تعالى: فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ” بالليل والنهار في البر والبحر، وفي السفر والحضر، والغنى والفقر، والسقم والصحة، والسر والعلانية، وعلى كل حال. وقال: ( وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلا ) فإذا فعلتم ذلك؛ صلى عليكم هو وملائكته، قال الله عز وجل: ( هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ ) . وكفى بذلك جزاء.
ولو وعينا ذلك وترجمناه في حياة أبناء أمتنا بشكل صحيح لبنينا جيلا قرآنيا جديا يعيد للأمة ما انتقص من بنيانها المعنوي والمادي ويعيدها لربها كرامتها وحياتها الطيبة ومنعتها في الداخل ورهبة أعدائها في الخارج، ويعيدها قوية عفية راشدة للشهود على عالمها.
فالأذكار اليومية التي يجب أن يحرص الإنسان المسلم والأمة المسلمة على المداومة عليها ليل نهار، وصباح مساء، وفي كل الأحوال طوال العمر، والتي علمها رسول الله صلى الله عليه لأصحابه كجزء لا يتجزأ من تمام إيمانهم بالله واستعانتهم به-سبحانه- حتى يثبتوا على صراطه المستقيم فتتحقق لهم معية الله تعالى وعبادتهم له على الإحسان؛ كأنهم يرونه تعالى، فإن لم يكن يروه فإنه تعالى يراهم. هذه الأذكار التي هي كنز من كنوز الإسلام العظيمة التي لا ينصرف عن الحفاظ عليها والتنعم بجنة رياضها إلا خاسر خسرانا مبينا، تحتاج من علماء الأمة ودعاتها الربانيين إلى جهود كبيرة لبيان أهميتها وكيفية جعلها جزءا من حياة الإنسان المسلم كل الطرق المتاحة: الكلمة المكتوبة والمسموعة والمرئية، وغيرها من وسائل التواصل التي تتوافق مع نفوس هذا الجيل الحالي من المسلمين..
فعندما غاب الذكر الله في كل أحوالنا عن حياتنا وتربيتنا البيتية وفي المسجد وفي أماكن العمل والتجارة والدراسة وفي دواوين الحكم وفي مؤسسات السياسة والاجتماع والاقتصاد والعسكرية وكافة ميادين حياتنا على الجملة، غاب عنا الخير الكثير وانقطعت صلة معظم أبناء المسلمين بالله على الوجه المطلوب لقيامهم بفروض عبوديتهم لله وميثاقهم مع الله ورسوله وشهودهم على العالمين الذي هو مناط خيرية هذه الأمة ومعيار انتسابها لله ورسوله.
ومن هنا فالأجيال الجديدة من أبناء أمتنا؛ من الأطفال والشباب، وقبلهم الآباء الأمهات، يحتاجون للتعرف على ضرورة وفضيلة وأهمية ومعاني وأسرار هذه الأذكار في حياتهم اليومية، بل إن هناك ضرورة ملحة لبناء منهج دراسي لتدبر الأذكار وكيفية جعلها جزء لا يتجزأ من روتين المسلم اليومي يجتازه الآباء الأمهات قبل وبعد الزواج، ويتعلمه الأطفال في المساجد والمدارس والبيوت بشكل يومي، حتى ينشأ الجيل الجديد من المسلمين على التوحيد الخالص لله تعالى، والاعتماد الكامل والتوكل التام عليه تعالى في كل حركاتهم وسكناتهم، فتكون صلاتهم ونسكهم ومحياهم ومماتهم لله رب العالمين.
وأول ما يجب التركيز عليه عند تعليم تدبر الأذكار هو معنى أي ذكر يتلوه المسلم. فالمسلم صغيرا أو كبيرا يجب أن يوقن أن الله يراه ويسمعه وهو يتلو ذكره، ويدرك أنه يخاطب ربنا تعالى وإلهنا ومولانا ووكيلنا والمنعم علينا بالحياة وكل ما فيها من نعم وخيرات. فيتحقق له دوام رؤية الله فلا ينساه أبدا، ولا ينسى أن الله يراه ويحب ذكره له فتكون المداومة على الأذكار من مبتدأ صباحه حتى ختام ليله خير معين له على عبادة ربه مخلصا له الدين.
ولنتخذ من الحديث قليل الكلمات العظيم الشأن موضوع هذا المقال نموذجا لشرح بعض معاني وفوائد الذكر في حياة المسلم، وبعض المهام المطلوبة للدعاة والعلماء لتفعيل الذكر في حياة أمة سيد الدعاة إلى الله صلى الله عليه وسلم.
أورد الإمامان البخاري وسلم في صحيحيهما في باب “فضل التَّسبيح، والتَّحميد، والتَّهليل، والتَّكبير عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم))؛ متفق عليه.
أول مداخل الاستفادة من هذا الذكر العظيم هو تعليم المستمع أو المتعلم معاني الحديث التي تزيد إيمانه وعمله، وليس من الجانب اللغوي أو الثواب منها فقط. والثاني هو الانتباه لكل كلمة ومعناها وآثارها في النفس وفي مسيرة الحياة. والثالث أن يتعامل المسلم مع أي ذكر يقوله بشكل تحليلي يحلل كل كلمة منه ليفهم معاني الحديث مترابطة، ولماذا هذه الكلمات بالذات معا ليحدث له التأثير المطلوب في نفسه وعمله ومجتمعه، فحديث الرسول لا ينطق عن الهوى ولكنه وحي ليهدي به المسلمين والمؤمنين لطريق الله المستقيم.
ونحن نلاحظ أن عدد كلمات هذا الحديث هي خمسة عشر كلمة (15)،كما أنه يشتمل على عدد من المفاهيم المفاتيح التي تحيي موات القلب وتنشط العقل وتقوم النفس، هي: الله، الرحمن، سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم، الميزان، اللسان، خفيفتان، ثقيلتان.
وليس هذا فحسب بل إن هذا الحديث يحتوي على معان سامية، ومشاعر عميقة تتعلق بإحداث مشاعر إيجابية آثارا عميقة في النفس المؤمنة بالله في كافة حالات قوتها أو ضعفها.
وليس هذا فحسب بل إن في الحديث دلالة لطيفة عظيمة يعطيها ربنا لعباده المقربين والتائبين والسائلين لتكون مفتاحا لهم لإجابة الدعاء، ولتكون مقدمة لدعائهم وجدارته بالإجابة، هذه اللطيفة مركوزة في كلمة” حبيبتان”، فكأن الله يقول لعباده المؤمنين تعلقوا بهاتين الجملتين تدبرا وتذكرا وتعمقا وإيمانا واحتسابا وحبا، وسوف أعطيكم فوق ما تحبون لأن هاتين الكلمتين حبيبتان إليه تعالى. كما استخدام الرسول صلى الله عليه وسلم لاسم الله “الرحمن” هنا له سر عجيب في الحديث ومعنى عميق يجب الالتفات إليه.
ثم نأتي لصلب الحديث، وهو الذكر المطلوب حتى تتحقق خفة اللسان وخفة الذكر على قلب ونفس المسلم ولسانه وتتحقق له محبة الرحمن وثقل الميزان. فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أن ربنا الرحمن -تبارك وتعالى- يحب هاتين الجملتين القصيرتين ويثقل بهما ميزان العبد المؤمن؛ إن هو تحقق بمعنيهما في نفسه وقلبه وروحه سائر يومه.
فعندما يتدبر العبد المؤمن معاني هاتين الجملتين، وما تحملان من تسبيح الله تعالى وتنزيهه عن النقائص؛ وعما لا يليق بجلاله -تبارك وتعالى-، وتعظيمه فهو وحده العظيم الذي تتصاغر أمامه كل الكائنات والموجودات والمخلوقات والأشياء، فلا عظيم يعظم عليه، لا إنس ولا جن ولا ملك، ولا شيء ولا هم ولا غم ولا ذنب ولا حاجة أمام عظمة الله العظيم، والله وحده الحقيق بكل تقدير وعبادة فهو المنزه عما يتلبس به العباد من نقص، فهو الله وحده ليس كمثله شيء، وهو القاهر فوق عباده، وهو البديع، نسبِّحه تعالى الله متلبسين بحمدنا له فيوفقنا لزيادة التسبيح والحمد في متوالية لا تتوقف من الخيرات المتتابعة منه تعالى الرحمن الرحيم لعباده الذاكرين.
بشارة ووعد
وفي الحديث، أيضاً، بشارة للإنسان المؤمن؛ على المربي والمعلم أن يركزا جيدا في أن يجعلاها نصب عين الطفل أو الشاب أو المسلم الذي يتدبر معنى هذا الذكر، وهي بشارة تثقيل ميزانه يوم القيامة، وليعلم جيدا قدر هاتين الجملتين القصيرتين في عدد حروفهما الكبيرتين في الأجر، وليعلم أن التسبيح هو من أعظم الأعمال عند الله والتي تثقل ميزان العبد يوم الحساب، فيرى الطفل أو الشاب أو العبد المؤمن ويتخيل ميزان أعماله وقد امتلأ بهذا الذكر العظيم، وليتخيل ثوابه ونوره في ميزانه يوم يقف بين يدي ربه.
فإذا أيقن العبد بذلك انفسح أمله في رحمة الله، وانشرح صدره وسلم من الوساوس الشيطانية، وسكنت نفسه وتحقق بلذة الإيمان ولذة الذكر في قلبه وحلاوته، فيطمأن ويسعد ويظل سائر يومه يحمد ربه، ويعمل واثقا بفضله عالما بمغفرته ومحبته لعبده، فينعكس ذلك على كل عمل يعمله، وكل فعل يفعله، وكل قول يقوله، فيقوم بمهام يومه أتم القيام، ويحسن على أتم الإحسان وأكمله، وكيف لا وهو يخاطب ربه بكلمتين حبيبتين إليه جل وعلا، فهل ينطق بكلام لا يحبه الله بعد ذلك أو يفعل غير ما يرضيه سبحانه؟!
فإذا أدرك العبد ذلك كله، وأنه يلتمس رضا ربه ومحبته بكلمات يحب تعالى أن يذكره بها عباده، فيوقن ويلمس ويتذوق رحمات ربه النازلة عليه في كل نفس من أنفاسه فلا يكون للنفس أو الشيطان عليه سبيلا، ولا يجد الهم أو الغم أو الحزن إليه منفذا ينفد منه إليه، وكيف ذلك وقد امتلأ قلبه وتشربت نفسه مجاني الذكر ومباهجه، لقد صلح باله واستراح وانشرح، فعمل على بصيرة فتسعد به أمته وعالمه.
فضل المداومة على الحديث بتدبر
وفي الأخير نعلم الذاكر فضل الذكر الذي بشره به حبيبه صلى الله عليه وسلم فضلا من ربنا الرحمن الرحيم سبحانه وبحمده دائما، حتى تكتمل فوائد الذكر ويحرص عليه المؤمن دائما أبدا، فبعد تحققه بالمعاني والمجاني نزيده من فضل ربنا العظيم بشريات عظيمات، فقد أخبرنا المعصوم صلى الله عليه وسلم ومعلمنا هذا الذكر العظيم أن من قال : سبحان الله وبحمده، في يوم مائة مرة، حطت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر ). وأن من قال، حين يصبحُ وحين يمسي: سبحانَ اللهِ وبحمدِه، مائةَ مرةٍ، لم يأتِ أحدٌ، يومَ القيامةِ ، بأفضلِ مما جاء به. إلا أحدٌ قال مثلَ ما قال أو زاد عليه ). وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: “من قال سبحان الله وبحمده غرست له نخلة في الجنة”
وأخبرنا صلى الله عليه وسلم من وصية رسول الله نوح عليه السلام لابنه: وأوصيك ب”سبحان الله وبحمده “؛ فإنهما صلاة الخلق، وبهما يرزق الخلق . ولقد روى ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءه رجل يسأل أنه قد ضاق رزقه، فقال له النبي: أين أنت من تسبيح الملائكة “سبحان الله وبحمد سبحان الله العظيم، أستغفر الله، 100 مرة بين أذان الفجر وإقامته، فإن هذا يفتح أبواب الرزق”.
ثمرة الثمرات أو حب حصيد الذكر
وحب حصيد من هذا الذكر ؛وكل ذكر يذكر به العبد ربه، أن يذكره الله في نفسه وفي ملأه الأعلى ويباهي به ملائكته ويكتبه في عباده الذاكرين الشاكرين؛ وقليل ما هم على مدى عمر البشرية منذ أبينا آدم إلى يوم الدين، فالذاكر على هذه الهيئة التي وصفنا بعضا منها يكون مع الثلة القليلة من العباد المنتخبين ليكونوا عباد الله المخلصين المقربين من رب العالمين، ولنتخيل؛ وهنا وقفات تربوية ووسائل وأدوات لا حصر لها يجب استخدامها لتصوير حالة هذا العبد وهو يرى ربه يذكره، ومن جهة ثانية كيف حال روحه وقلبه ونفسه وبدنه وهو على تلك الحالة، فو الله لو قال لجبل تحرك من مكانك لتحرك، فالألطاف والرحمات تتنزل على عبد هذا حاله فتجعله أمة وحده، وبهؤلاء العباد وصل إلينا الإسلام، وما زال محفوظا بهؤلاء الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه من العبادة الخالصة الذكر الدائم.
خاتمة
الذاكرون الله كثيرا الذاكرات في الدنيا على الهيئة التي كان عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، هم الذين سيذكرون الله في جنات الفردوس الأعلى في الآخرة، فقد سمعنا ربنا تعالى يقول في كتابه المجيد عن هؤلاء الذاكرين يوم القيامة عندما يختمون دعاءهم شكرا لربهم أن أدخلهم جنات النعيم: “دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ” .
إن الذكر الحقيقي المتلبس بالخشوع والتقوى والتدبر ؛ والذي يحيا فيه العبد مشاهدا ربه وهو يذكره، هو السكينة الحقيقية من ربنا الرحمن ينزلها على قلوب عباده الذاكرين فضلا منه ونعمة، فمن شرب من بحر الذكر فإنه يغترف طاقة عظيمة تحل عليه بركات ورحمات لا انقطاع لها. فالذكر يطمئن القلب؛ وكيف لا يطمئن وهو يذكر الله بكلمتين حبيبتين إليه تعالى، فهؤلاء الذين يداومون على هاتين الكلمتين ابتغاء مرضاة الله ومحبته وتثبيتا من أنفسهم مثلهم كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة.
ومن استمسك بالذكر فقد استمسك بالعروة الوثقى، فالله وليه يخرجه وأهله وأمته من الظلمات إلى النور ، ويفرغ عليه حبا؛ والله ذو فضل على العالمين. فالذكر من أطيب ما يكسبه المسلم في حياته، لأنه الغنى الكامل بالله، فالذكر خير كله ومغفرة وفضل ورحمة.
والمداوم على الذكر يورثه الله الحكمة؛ ومن أوتي الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا، فكيف جزاؤه إن هو أنفق منه على زوجه وولده وأهله ومعارفه وكل من يقابله يعلمهم مما علمه الله من الذكر، فنعم العطاء الذكر يزكو بالإنفاق، وهو خير عند ربنا، ويكفر به عنا من سيئاتنا ويرفع درجاتنا ويثقل موازيننا، فالذكر عفو ومغفرة ورحمة وهداية وولاية ونصر من الله وفتح مستمر. فسبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم، ما اتصل ليل بنهار ، والحمد لله رب العالمين