في ذكرى وفاته.. هل خان السلطان عبد الحميد أحمد عرابي؟!
بقلم د. حسين دقيل
مرت علينا منذ يومين ذكرى وفاة السلطان عبد الحميد الثاني، آخر سلاطين المسلمين؛ فبينما كان يجلس – رحمه الله – على سرير مرضه يوم 10 فبراير 1918، يحتسي قهوته مع زوجته وأبنائه، قال لهم مودعا الحياة؛ يشهد الله أنني ما أخذت قرار ولا أقدمت على فعل إلا ابتغاء مرضاة الله ولصالح شعبي ووطني، فأثنت السلطانة عليه؛ وقالت نشهد على حبك لدينك ووطنك وشعبك؛ فسقط فنجان القهوة من يده وأسلم الروح إلى باريها.
ولد السلطان عبد الحميد الثاني في “قصر جراغان” بإسطنبول في 21 سبتمبر 1842، والده؛ السلطان عبد المجيد الأول، وأمه؛ “تيرمزكان قادين” الجركسية الأصل التي توفيت عن 33 عاما؛ وكان لا يتجاوز عمره حينها عشر سنوات، فعهدت بتربيته زوجة أبيه “بيرستو قادين” التي اعتنت بتربيته وأحبته؛ وظل ذاكرا لها جميلها فمنحها لقب “السلطانة الوالدة” عند صعوده العرش في الـ 34 من عمره، وعندما وصل للعرش في 31 أغسطس 1876 كانت السلطنة يومئذ على أسوأ حال.
وبرغم ما قام به السلطان عبد الحميد الثاني من أعمال لرفعة الدولة وإفاقتها من كبوتها؛ إلا أنه نال من التشويه والافتراء – ولا يزال – ما لم ينله غيره، ومن أبرز ما قيل عنه؛ أنه خان الثورة العربية وزعيمها وسمح للإنجليز بدخول مصر واحتلالها، والواقعة – المُفتراة – التي حدثت عام 1882 تُخبر بأن السلطان عبد الحميد الثاني أصدر فرمانا – أثناء مقاومة أحمد عرابي للإنجليز – اعتبر فيه عرابي عاصيا وخارجا عن الطاعة، فرأى بعض الناس أن هذا الفرمان يُعتبر تأييدا لاحتلال الانجليز لمصر، وطعنا في شخصية عرابي؛ في حين رآه آخرون أنه كان لصالح مصر، فما الذي حدث؟!
الحقيقة الجلية؛ أن مصر كانت قد انفصلت واقعيا عن الدولة العثمانية منذ وصول محمد علي للحكم؛ وأن هذا الانفصال قد ازداد تعمقا في عهد خلفائه من بعده، الذين سمحوا للنفوذ الأجنبي بالتغلغل في مصر، كما أنه وفي الوقت الذي كانت فيه الدولة العثمانية في أضعف حالاتها؛ توحدت الدول الأوروبية في مواجهتها وسعت في السيطرة على تركتها؛ لكن ومع بداية عهد السلطان عبد الحميد الثاني؛ بزغت في مصر حركة تحرير وطنية مقاومة للاحتلال، واستطاعت أن تجبر الخديوي إسماعيل على تحقيق مطالبهم بتغيير الحكومة وإجراء انتخابات برلمانية وإصدار دستور 1879، فاستغل السلطان عبدالحميد هذه الحركة ورموزها وسعى في مؤازرتهم، كما استفادوا هم من دعمه لهم ورأوا في هذا الدعم شرعية لحركتهم.
وعندما اشتعلت الثورة أكثر في عهد الخديوي توفيق؛ أرسل السلطان وفدا عثمانيا لمقابلة ممثلي الثورة حينها؛ وهم: محمود سامي البارودي، والشيخ محمد الإنبابي شيخ الأزهر، ونقيب الأشراف، وغيرهم، ولم تسترح الدول الأوروبية لدور السلطان؛ فقامت فرنسا وبريطانيا بإرسال سفينتين حربيتين أمام الإسكندرية وامتنعتا عن المغادرة إلا بمغادرة الوفد العثماني عن مصر، ولما تشكّلت حكومة أقرب للثورة برئاسة البارودي، ازداد دعم وتأييد السلطان العثماني لها، ومنح البارودي وعرابي – الذي كان وزيرا للحربية حينها – لقب الباشوية ، فازداد ضغط الدول الأوروبية على السلطان من أجل التخلي عن الثوار؛ ولكن السلطان لم يأبه بذلك فازداد في دعمه، بل وحرض عرابي على خلع الخديوي توفيق، وجاء في إحدى رسائله إليه: لا أهمية فيمن يكون خديوي مصر، ويجب أن تكون أفكار والي مصر ومقاصده وسيرته خالصة من الشوائب، بحيث إن جميع حركاته تكون متجهة لصيانة مستقبل مصر ولتوطيد عرى العلاقات الوثيقة مع عرش الخلافة.
أما فرمان “العصيان” الذي صدر باسم السلطان ضد عرابي قبل الاحتلال البريطاني لمصر بـ 6 أيام فقط، فعرابي نفسه لا يصدق أن السلطان فعل ذلك بإرادته حتى أنه قال: لم يستنكر السلطان أبدا ما فعلنا، لا في أثناء تلك المفاوضات ولا فيما بعدها حتى وقتنا هذا، بل إن السلطان أيّد أفعالنا بالقول وبالعمل، ويقال أن عرابي اتهم رئيس الوزراء في الدولة العثمانية – الصدر الأعظم – بأنه وراء هذا الفرمان دون إرادة السلطان، ويرى آخرون أن الفرمان كان فعلا من قرارات السلطان، ويبررون ذلك بأنه كان مضطرا لفعل ذلك لما شعر بقرب انتصار الجيش البريطاني على جيش عرابي في معركة التل الكبير، فأراد أن يرضى بأخف الضررين حتى لا تقع مصر فريسة لبريطانيا دون أن يكون للدولة العثمانية يد فيها، وربما يكون هذا الرأي أقرب إلى الصواب أيضا، فقد ذكر عرابي ما يوحي بذلك حين قال: إن إصداره – أي الفرمان – ربما جاء مراعاة لظروف الأحوال.
(المصدر: مدونات الجزيرة)