مقالاتمقالات المنتدى

في ذكرى وفاته مع علم الأمة محمد الغزالي .. كيف نتعامل مع القرآن

في ذكرى وفاته مع علم الأمة محمد الغزالي .. كيف نتعامل مع القرآن

يأتي في طليعة النجوم الزاهرة في تاريخنا الحديث عالمنا الفقيه، الداعية الأديب والمجتهد الأريب، شيخنا وعالمنا محمد الغزالي، الذي انتقل إلى رحمة الله يوم السبت الموافق9مارس 1996م.

لقد عاش شيخنا الغزالي-رحمه الله أجزل مثوبته- للقرآن يدافع عنه ويعرف به الأجيال الجديدة من المسلمين التي فقدت الصلة الصحيحة به نتيجة أسباب كثيرة متداخلة متطاولة. وقد أحيا الله جلت قدرته على يد الشيخ الجليل-رحمه الله- أجيالا كثيرة –منها كاتب ذه السطور- من موت محقق في ظلمات الحياة ومفاتنها والفهم السقيم للإسلام والقرآن. فقد عرفت تلك الأجيال على يديه معنى الإيمان وطعم الإيمان وحرارة الإيمان وحلاة الإيمان وتبعات الإيمان بالله ورسوله وكتابه، فعادت تقرأ القرآن من جديد غضا طريا كما أنزل أول مرة.

ويأتي هذا المقال تحية له في يوم وفاته وتذكيرا بلقطات سريعة من تراثه العلمي الذي تحتاجه اليوم أشد الاحتياج في قضية من أهم قضايانا اليوم والغد، ألا وهي كيفية تعامل الأمة مع القرآن المجيد.

الغزالي: عطاء القرآن

إذا أردنا أن نلخص حياة إمامنا الغزالي، ونقف على سر وسبب هذا القبول الذي تلقاه مؤلفاته والتقدير الذي يترافق مع اسمه، لقلنا إنه عطاء القرآن الكريم. فقد كان القرآن الكريم رفيق دربه طيلة رحلته الإيمانية العلمية العملية المباركة. فقد حفظه صغيراً، واجتهد-باقي عمره- في فهمه والوقوف عند أسرار تشريعه ومقاصد أحكامه، والمصالح المترتبة على أتباعه و العمل به من الفرد إلى الجماعة والإنسانية بأسرها.

وقد تمحورت حياة عالمنا الجليل حول القرآن علما وعملا وجهادا. وقد أعطى القرآن، معنى إنسان الواجب والرسالة، فصيره رجل القرآن بامتياز، وأعطاه قوة الواجب الرسالي التي وهبها الله لورثة الأنبياء والرسل من العلماء، فحمل رسالته يدعو إليها ويبلغها في مشارق الأرض ومغاربها، عارفا بزمانه وما فيه من عقائد ضالة وأهواء مضلة ومزالق أقدام فكان عالماً ربانياً، وفقيهاً راسخ القدم، وبناءً منشئاً من كبار رجال الإسلام في النصف الثاني من القرن العشرين.

وقد تعددت مؤلفات الغزالي القرآنية منذ بدايات تأليفه العلمي بكتابه نظرات في القرآن حتى ختمه بكتابه نحو تفسير موضوعي لسور القرآن الكريم، مروراً بكتابه المحاور الخمسة للقرآن الكريم. ثم جاء كتابه: كيف نتعامل مع القرآن الكريم، في مدارسة معمقة مع الأستاذ عمر عبيد حسنة، الذي يؤكد فيه الغزالي على محورية دور القرآن في عودة الأمة للحياة وللشهود الحضاري في دنيا الناس.

يقول الغزالي عن القرآن المجيد: هذا الكتاب يعرف الناس بربهم، على أساس من إثارة العقل، وتعميق النظر، ثم يحول هذه المعرفة إلى مهابة لله، ويقظة في الضمير، ووجل من التقصير، واستعداد للحساب. هناك أفكار أرضية تبديء وتعيد في نطاق الحمأ المسنون أما القرآن فهو يدع الناس يمشون في الأرض بعد أن يجعل رءوسهم في السماء[1]

وقد أكد في مقدمته لكتاب كيف نتعامل مع القرآن، أن “القرآن الكريم هو ما بقي من وحي في هذه الدنيا، وهو الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه”…لكن موقف المسلمين من القرآن الذي شرفوا به يثير الدهشة! ومن عدة قرون ودعوة القرآن مجمدة، ورسالة الإسلام كنهر جف مجراه أو بريق خمد سناه[2]. ف”القرآن الكريم هو ما بقي من وحي في هذه الدنيا، هو الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه “ذلك الكتاب لا ريب فيه”[3] البقرة :2.

ولذلك دعا-رحمه الله- في عرضه لكيفية التعامل مع القرآن اليوم إلى ضرورة “قراءة القرآن الكريم قراءة متدبرة واعية تفهم الجملة فهماً دقيقاً، ويبذل كل امرىء ما يستطيع لوعي معناها وإدراك مقاصدها.. فالمدارسة للقرآن مطلوبة باستمرار، ومعنى مدارسة القرآن: القراءة والفهم والتدبر والتبين لسنن الله في الأنفس والآفاق، ومقومات الشهود الحضاري، ومعرفة الوصايا والأحكام، وأنواع الترغيب والترهيب، والوعد والوعيد، وما إلى ذلك مما يحتاج المسلمون إليه لاستئناف دورهم المفقود. وأعاد، في هذا الكتاب، تكرار ما سبق وكتبه في كتابه الأول عن القرآن، عن ضرورة “أن يعاد النظر في أسلوب الحفظ وتوصيل القرآن إلى الأجيال القادمة.

وأسس الغزالي، عبر صفحات الكتاب، لمعالم منهج العودة للقرآن الكريم، وحاول تصحيح كثير من المفاهيم المتعلقة بالتعامل مع القرآن، فالقرآن-كما يقول الغزالي-، طلب إلى المسلم الشهود الحضاري، ووجوب التعرف على الآفاق الثقافية والحضارية.. ومن خلال إشارات القرآن، يجب الانطلاق باتجاه الثقافات الأخرى، والنظم الإدارية الأخرى، والعقائد الأخرى، والأحوال الاجتماعية الأخرى، والتاريخ الآخر، ما إلى ذلك، حتى تتلاقي تيارات الفكر العالمي عندنا[4].

كما أكد الغزالي، في دراساته القرآنية تلك، أن القرآن ليس كتابا يتغنى به المقرئون ولا يردده الجهلاء والغافلون, ولكنه كتاب الزمن كله، لتغيير ما بالأنفس، لصنع وبناء المجتمعات والحضارات على هدى من الله، لتتحقق للإنسان الحياة الطيبة في الدنيا وينال جنة الله ورضاه في الحياة الآخرة. ولهذا فقد أكد-رحمه الله- على أن “التلاوة، ليست أن يجيء قراء حسنو الصوت لكي يقرأوا الآيات منغومة، ويستمع إليها الناس وهم مسرورون بموسيقاها، لا، فالتلاوة تعني عرض منهج، تعني تقديم برنامج، تعني رسم الخط البياني للأمة-للأمة كلها-. فالتلاوة تعطي صورة مجملة للإسلام في عقائده وعباداته وأخلاقه وأعماله “كذلك أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم لتتلوا عليهم الذي أوحينا إليك وهم يكفرون بالرحمن قل هو ربي لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه متاب”الرعد:30 ذلك أن نتاج التلاوة الحقيقية للقرآن حق تلاوته، تحقق الإنسان الفرد والجماعة بحقيقة التزكية، التي هي التربية الحقيقية التي تنشئ الإنسان الأمة المستخلف الذي يعمر الأرض.

كما شدد في هذا الكتاب وفي كتابه الأول “نظرات في القرآن على أن ” سياسة التحفيظ القرآن بحاجة ماسة إلى مراجعة. وبقاء تواتره دون ان يحمله قوم همل وان يعرف الناس الواجب الذي يحملهم اياه القرآن روحه ومقاصده وشرائعه وآدابه”[5]. كما نبه في كتابه “هذا ديننا” إلى أن “الحاجة داعية إلى أن يوجه علماؤنا عنايتهم إلى تأليف كتب مبسطة سهلة مبوبة في علوم القرآن، ويبينوا وجه التوفيق والارتباط بين الآيات والأحاديث الثابتات، ويقربوها إلى الأفهام أهل هذا العصر، وبذلك يخدمون الدين خدمة كبيرة، ويكون ذلك أكبر باعث لاتحاد كلمة المسلمين، وصيانة الشباب عن الإلحاد والمروق من الدين[6] .

وإننا لكي نفهم القرآن فهما صحيحا، لابد أن نفهم الأحداث التي عاصرته، وأن نعي الأحوال التي قارنت نزوله، فإن تاريخ النزول وسببه جزاءان لا يمكن يتجاهلها في تكوين المعنى وإيضاح المقصد، بل لا يمكن تجاهلهما في تربية الناس بالقرآن وأخذهم بآدابه. وقد تكون تفرقة النزول، ظاهرة النفع عند الحكم في القضايا المتجددة، أو الإفتاء في المسائل العارضة[7].

وبين شيخنا-رحمه الله- أن حال المسلمين مع القرآن الكريم تستدعي الدراسة المتعمقة، ذلك أن المسلمين بعد القرون الأولى، انصرف اهتمامهم بكتابهم إلى ناحية التلاوة، وضبط مخارج الحروف، وإتقان الغنن والمدود، وما إلى ذلك مما يتصل بلفظ القرآن والحفاظ على تواتره كما جاءنا، أداء وأحكاماً…لكنهم بالنسبة لتعاملهم فصلوا بين التلاوة وبين التدبر، فأصبح المسلم اليوم يقرأ القرآن لمجرد البركة، وهو موقف مرفوض من الناحية الشرعية، ذلك أن قوله تعالى “كتاب أنزلناه إليك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب” ص:29، يعني: الوعي والإدراك والتذكر والتدبر، فأين التدبر؟ وأين التذكر مع تلك التلاوة السطحية التي ليس فيها إي إحساس بالمعنى، أو إدراك للمقصد، أو غوص فيما وراء المعنى القريب، لاستنتاج ما هو مطلوب لأمتنا من مقومات نفسية واجتماعية، تستعيد بها الدور المفقود في الشهادة على الإنسانية وقيادتها إلى الخير؟[8]

فالإيمان-كما يفهم من القرآن- قدرة على الحياة في جميع دروبها، قدرة علمية ومادية يصحبها تطويع كل شيء لإرضاء الله وابتغاء وجهه[9]. والقرآن كتاب يصنع النفس، ويصنع الأمم، ويبني الحضارة.. هذه قدرته.. هذه طاقته… لذلك أرى أنه لا بد أن نعود لدراسة القرآن.. وتلاوة القرآن[10] لذلك لا بد من التدبر…فإذا تدبرنا الآيات نقلناها إلى حقول الممارسة على الأقل، أو إلى ميادين السلوك لنعرف كيف نعمل هذه الآية فيما نعاني منه وفي ما نواجهه، فإذا قيل” إن الله لا يصلح عمل المفسدين. ويحق الله الحق بكلماته ولو كره المجرمون” يونس:81-82، فإننا يجب أن نجيء بهذه الآية، وننظر إلى أعمالنا، وهي قاصرة: هل يكملها الله؟ لا.. لن يكملها الله، لأنه لا يصلح عمل مفسد.. إذن ما الخلل الذي أصاب العمل فجعله غير منتج؟ لا بد من استدراكه حتى يؤذن الله بالصلاح، لذلك لا بد من تحري الصواب في العمل، إلى جانب الإخلاص[11] …. لا بد من جعل القرآن يتحول في حياتنا إلى طاقة متحركة[12].

وفي ضوء ذلك كله فإن “القرآن الكريم يجب أن يدرس تفسيرا موضعيا، وتفسيرا موضوعيا، ويجب أن ينظر إليه كلا وجزءا على أنه دعامة أمة، هو عقلها المفكر، وهو ضميرها الصاحي، هو علمها المرفوع… أما أن يترك القرآن لأمور أخرى فلا يجوز… نريد أن نعود إلى القرآن الكريم، ننشغل به ليكون محور حياتنا، الأمة لها دستور و القرآن… إن الأمة لا بد لها أن تنزع كلها إلى الدستور الرصين، والأركان الكبرى في هذا الدستور لا بد أن تبنى… فنحن يجب ألا يغيب عن بصائرنا أبدا الهدف الأساس الذي لا بد منه وهو: كتابنا.. كتابنا يكاد يضيع منا[13].

ليت محاضن الأمة تنتبه لصيحة الغزالي وتجعل القرآن الكريم مركز أي مناهج لتربية النشء والشباب المسلم.

رحم الله محمد الغزالي رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته مع النبيين والصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقاً لقاء ما قدم لأمته من جهود مشكورة دعوية وعلمية وعملية.

[1] الغزالي، محمد.المحاور الخمسة للقرآن الكريم، القاهرة، دار الشروق، ص19.

[2] الغزالي، محمد.كيف نتعامل مع القرآن، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ص 25.

[3] الغزالي، محمد.كيف نتعامل مع القرآن، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ص25.

[4] الغزالي، محمد.كيف نتعامل مع القرآن، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ص 221.

[5] الغزالي، محمد. نظرات في القرآن، ص15.

[6] الغزالي، محمد.هذا ديننا، القاهرة، دار الشروق، ص222.

[7] الغزالي، محمد. نظرات في القرآن، ص15

[8] الغزالي، محمد.كيف نتعامل مع القرآن، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ص27-28.

[9] الغزالي، محمد.المحاور الخمسة للقرآن الكريم، القاهرة، دار الشروق، ص61.

[10] الغزالي، محمد.كيف نتعامل مع القرآن، ص31.

[11] الغزالي، محمد.كيف نتعامل مع القرآن، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ص 54.

[12] الغزالي، محمد.كيف نتعامل مع القرآن، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ص 59.

[13] الغزالي، محمد.كيف نتعامل مع القرآن، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ص 223-224.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى