مقالاتمقالات مختارة

في ذكرى وفاة بيجوفيتش وعن الثلاثة الكبار البنا والمسيري وقطب

في ذكرى وفاة بيجوفيتش وعن الثلاثة الكبار البنا والمسيري وقطب

بقلم صلاح الدين الملوحي

أمران أزعم أنهما السبب وراء تقارب إرث بيحوفيتش والبنا الفكري والعملي من جهة، وقطب والمسيري من جهة ثانية، وهما:

1-ولد بيجوفيتش ونشأ وراهق واكتهل وشابَ وهو مؤمن محافظ دون أن تشهد حياته تقلبات فكرية، بل تواصلاً واستمرارية، باستثناء تشوشات مبكرة قصيرة الأمد لا يعتد بها. وهكذا كان الأمر مع البنا الذي عاش ومات مؤمناً.  أما المسيري فقد دخل سن الكهولة وهو يتبنى نسقاً مادياً لحين حصول انفعال فكري وروحي لديه سبقته تمهيدات وإحساسات ومشاعر وأفكار تشككية، نقلته إلى الإيمان لكن ليس من دون أن تجعل من آرائه اللاحقة ثنائيات صلبة وحادة. وكذلك كان حال قطب الذي أمضى شبابه بلا مبالاة أو انتماء.

سيرافق دخول الإسلام عند المسيري وقطب حالة افتتان عميقة بالمُكتَشَف الجديد و امتنان نفسي حار وازدراء مبالغ به لماضيهما. كانا يؤكدان من خلال ذلك نقلتهما الفكرية في مرآة نفسيهما وفي وسط محيطهما الجديد المكتَسَب جرّاء التحول. بالطبع سيكون الإعجاب بإنجاز الإيمان والقطع مع المادية أو الجاهلية مضاعفاً في حالة أشخاص مرهفي الشعور وحساسين وذوي انشغال رفيع مهموم إنسانياً سابق على الإيمان؛ فكري في حالة المسيري وأدبي بلاغي لا يخلو من لمسات روحانية في حالة قطب.

انعكست دهشتهما الجوّانية أمام الإسلام وحبورهما بحيازته بعد تيه مضافا إليهما الرغبة بالإفصاح والصدع الجهري البرّاني الوجهة لتأكيد نهائية الهداية واستحالة الردة، انعكس ذلك على تقييمهما الغالي والذي ذهب بعيداً في تأثيم الحداثة وعدم اعتبار إيجابياتها وفي صلابة الثنائيات والمقولات التي ولّداها بخصوصها.
كان البنا وبيجوفيتش في غنى عن هذه الانفعالات الوجدانية بحكم سلاسة حياتيهما الروحية والفكرية، وعدم مرورهما بانقطاعات تستدعي الندم أو المبالغة.

2-كان لعملية وحزبية وحركية بيجوفيتش والبنا ومعايشتهما الواقع ومعارَكتهما إياه وخوضهما يومياته، في مقابل مكتبية وموسوعية وقلمية ونظرية المسيري وقطب، كان لهذه التباينات دور ولاشك في تدوير الزوايا والتخفيف من قبضة الثنائيات لدى الأولين وفي تكثيفها وتصليبها لدى الأخيريْن وخصوصاً مع تعرض قطب ورفاقه لتنكيل فظيع.
لم يترك بيجوفيتش وظيفة ودوراً من أدوار الشأن العام إلا وأتاه؛ فهو الحزبي الذي عايش خطورة العمل السري النضالي ضد تيتو وذاق حلاوة كتابة المناشير والكراسات “الإعلان الإسلامي” وعرف طعم السجن، وهو القائد السياسي ثم الجندي المحارب والمفاوض الدبلوماسي في أحلك الظروف وخلال كل ذلك المفكر الثاقب الراصد المهتم بالشأن الكوني. والبنا المشغول بالعمل والمعني باليومي المعاشي كان يصب جهده على البناء أولا ثم إدارة هذا البناء وإدارة تحالفاته وكيفية ولوج هذا الوليد لعالم السياسة.
تتوضح تنظيرية المسيري وقطب في مشاريعهما الفكرية العملاقة التي خصصوا لها جل أوقاتهما وصرفوا لأجل اكتمالها عمرَيْهما؛ فمقابل موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية وظلال القرآن بآلاف الصفحات من جهة، نكاد لا نجد لدي البنا وبيجوفيتش أكثر من “مذكرات الدعوة والداعية” و”هروبي إلى الحرية” والسفر الخالد “الإسلام بين الشرق والغرب” وكراريس وبرامج عمل وأوراق مؤتمرات ومقالات وإرشادات متناثرة هنا وهناك من جهة ثانية.
وهو فارق بين نمطين وأداءين ليس عابراً كما نظن، وقد ألمح إليه بيجوفيتش في كتابه “الإسلام” لمّا أشار في الصفحة 214 إلى استسهال ماركس إطلاق الأحكام وهو “قابع في مقعده بالمكتبة البريطانية”:
“فقد كان بإمكان ماركس وهو قابع في مقعده بالمكتبة البريطانية أن يقول بأنه لاوجود للأخلاق، ولكن الذين حاولوا تطبيق أفكار ماركس وأن يقيموا مجتمعا على أساسها، لم يستطيعوا أن يعلنوا هذا الكلام بالسهولة نفسها. فلكي ينشئوا مجتمعاً ويحافظوا عليه، كان عليهم أن يطلبوا من الناس مزيداً من المثالية والتضحية، ربما أكثر مما طلب أي نبي من قومه باسم الدين. ولهذا السبب كان عليهم أن يتناسوا بعض المسلمات المادية الواضحة”.

بناء على ما سبق، كان تقييم بيجوفيتش -غير المحتاج لدفع تهمة بقايا الماضي وغير المار بفرح الحيازة- للحداثة أكثر إنصافاً وتركيبية واعتباراً من رؤية المسيري من دون أن نغفل أثر التماس الجغرافي الطرفي مع الحضارة الغربية، وكانت نظرة البنا -المؤمن منذ نعومة أظفاره والذي يرأس ويدير تكتلاً بشرياً له حاجات- للملكية الفاروقية أقل حدة من الرؤية القطبية الصارمة تجاه الأنظمة السياسية .

رحم الله الجميع فقد كانوا أعلاماً ونجوماً، وحمى الله مصر الولّادة التي أنجبت ثلاثا من الأربعة وأعاد لها ألقها وبوّأها المكانة التي تستحق.

منقول

(المصدر: رؤية للثقافة والإعلام)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى