في ذكرى وفاة العالم الجليل الدكتور حسن الترابي
بقلم أ. عماد الدين عشماوي (خاص بالمنتدى)
الدكتور حسن عبد الله الترابي هو مفكر إسلامي وسياسي سوداني يعد من أهم فقهاء وسياسي الحركة الإسلامية في النصف الثاني من القرن العشرين. فقد جمع رحمه الله بين العلم الشرعي والدنيوي، وبين الفقه والقانون، والتدين والسياسة، وقضى حياة عامرة بالجهاد والاجتهاد في سبيل بعث جديد للأمة المسلمة، فخاض غمار معارك كثيرة على جبهات متعددة، واقتحم حصونا مغلقة وجادل عقولا متنوعة، واجتهد اجتهادات كثيرة مثيرة أثارت زوابع متعددة، فأصاب وأخطأ، ونال من الشهرة الكثير ومن البلاء الكثير، وجرب كل وجوه الحياة ونمت أفكاره وتبدلت بالتأمل والتجارب. وترك لنا ثروة طائلة من الخبرات والأفكار والاجتهادات لم تأخذ حظها بعد من الاهتمام الواجب بها للاستفادة منها في حركتنا وتقدمنا نحو إسلامنا نقيمه حق الإقامة ولا نتفرق فيه.
وهذا المقال يحاول رسم صورة موجزة للمفكر الراحل وواجبنا تجاه تراثه العلمي والعملي معا وفاء بحقه على الأمة ودعوة للأجيال الجديدة لتدارس تجربته الفكرية والعملية من منظور النقد البناء.
الميلاد والتعليم
ولد علامتنا الراحل في 1 فبراير 1932 في كسلا شرقي السودان، وتخرج في جامعة الخرطوم سنة 1955، ونال الماجستير من جامعة لندن سنة 1957، والدكتوراه في القانون الدستوري من فرنسا عام 1962. وتولى العديد من المناصب العلمية والسياسية طوال حياته المديدة، فكان عميداً لكلية القانون بجامعة الخرطوم. وكان من المؤسسين ل(جبهة الميثاق الاسلامي) والتي اختير أمينا عاما لها سنة 1969. ثم أصبح وزيرا للعدل بعد مصالحة جبهة المعارضة السودانية مع نظام النميري، ثم مساعدا للنميري حتى اختلف معه. كما أسس الجبهة الإسلامية القومية عام 1985م والتي أحرزت المرتبة الثالثة في البرلمان المنتخب بعد خلع النميري، ثم تحالف مع الصادق المهدي وأصبح وزيرا للخارجية. وبعد انقلاب 1989م أسس (المؤتمر الشعبي العربي والاسلامي) الذي ضم في عضويته معظم الحركات الاسلامية والتحررية في العالم العربي والاسلامي والإفريقي، ثم أصبح رئيسا للبرلمان السوداني في 1996. وفي عام 1999 حدثت المفاصلة بينه وبين نظام الإنقاذ ليؤسس المؤتمر الشعبي، ثم دخل السجن ليخرج منه معتزلا العمل السياسي المباشر وليتفرغ للكتابة والمحاضرة حتى توفاه الله.
مؤلفات الترابي
للدكتور الترابي العديد من المؤلفات السياسية والفكرية منها: تجديد الفكر الاسلامي، المسألة الدستورية، تجديد أصول الفقه، المسلم بين الوجدان والسلطان، السياسة والحكم، الحركة الاسلامية في السودان المنهج والكسب والتطور، الإيمان وأثره في حياة الانسان، التفسير التوحيدي للقرآن الكريم، قضايا الوحدة والحرية، المرأة بين تعاليم الدين وتقاليد المجتمع(وقد طبع هذا الكتاب مرة أخرى بزيادات تحت عنوان المرأة بين التقاليد والأصول، الصلاة عماد الدين، في الفقه السياسي، التفسير التوحيدي، المصطلحات السياسية في الإسلام، وذكر الأستاذ المحجوب عبد السلام، أن له كتابين تحت الطبع هما: أصول فقه الأحكام، الأعمال السياسية الكاملة[1]، هذا بالإضافة إلى العديد من الأوراق العلمية والأبحاث والمقالات والحوارات المقروءة والمرئية ورسالتيه للماجستير والدكتوراه اللتان لم تترجما حسب علمي.
التوحيد: العقيدة والإيمان
ينطلق الدكتور الترابي في كل معالجاته لواقع المسلمين من محورية الإيمان والعقيدة منهجا يؤسس من خلالهما رؤيته لهذا الواقع. والعقيدة كما يشرحها الترابي “هي قوة ذات أثر جليل في الحياة الدنيا، ومهما يتخذ الإنسان من عقيدة تنطبع حياته بأثر منها”[2]. والإيمان في دين الإسلام و: عبادة الله الواحد، والإيمان باليوم الآخر وبالجزاء، والتصديق بالرسالة وسمعيات الغيب، ثم تندرج في هذه الأصول سائر شعاب الاعتقاد”[3].
والدين “توحيد بين البعد الأزلي الروحي والواقع الظرفي المادي، أو هو توحيد بين المثال المطلق والواقع النسبي، فالمثال ترسمه التعاليم والتكاليف الشرعية التي يخاطب بها الإنسان، والواقع هو الابتلاءات المادية والظرفية التي تحيط بدنيا الإنسان، والتدين هو إيمان بمثال الحق المطلق ثم كسب تاريخي يجاهد الواقع ليقربه من المثال[4]. فالدين “عقيدة في الله مخلصة من الشرك ممحضة من الريب، وسيرة مستغرقة في عبادة الله مستقيمة على شرعه المبين”[5].
فالإيمان بكلمات الترابي-رحمه الله-: “معنى يتخلل كل وجود المؤمن وينبغي أن يتمثل في كل لحظة ولمحة من حياته. فعقيدة الإيمان تقوم على التوحيد والاستغراق، فهي موقف كلي ليس لوجوه التعبير عنها من حصر، بل مسرحها الحياة الإنسانية جميعا، فحيثما وقعت وقائع الحياة من فكر أو ذكر أو فعل أتيح لمجال للعبادة، وحيثما كانت عبادة فهي تحقق للعقيدة وتربية لها في ذات الوقت”[6]
وفي ضوء هذه الرؤية الخالصة للإيمان يعرف علامتنا الراحل التوحيد في مفهوم الإسلام بأنه” لا يعني فقط أن الله واحد، بل يعني أن الوجود واحد والحياة واحدة. إنه يعني أن الحياة برمتها برنامج عبادة واحد متماسك في بنوده الاقتصادية والسياسية والجنسية، أي خاصه وعامه، ويعني أن المجتمع كل واحد في حركته” [7]
ما هو الدين
عاش الترابي-رحمه الله- من أجل الإسلام، واجتهد مخلصا أن يكون عمله كله توحيدا لله رب العالمين فيكون له وحده في قلبه الدين الخالص، ومن ثم نجده يعرف الدين فيقول” الدين عقيدة في الله مخلصة من الشرك ممحضة من الريب، وسيرة مستغرقة في عبادة الله مستقيمة على شرعه المبين ابتغاء مرضاة الله”[8] . لذلك عاش حياه محاولا تطبيق ذلك، وكان جهاده السياسي والتعليمي والتربوي التثقيفي من أجل ذلك، أن لا يشوب إيمان المسلم الفرد والأمة المسلم شائبة ظلم، ومن ثم نجده يقول أن الدين ضد الظلم، ويتساءل مستنكرا “ما هو الدين إن لم يكن احتجاجا على الظلم؟؟[9]
الترابي والتجديد
إن أقدار الله هي التي تضع لنا مواضع في الحياة ومواقع كما يقول فقينا الكبير-رحمه الله- وقد سبقت للترابي من أفضال الله أن ولد في بيت علم وفقه فتلقى تربية إسلامية رصينة ثم زاوج العلم الشرعي العلوم الدنيوية، وكان رحمه الله طلعة يحب العلم والدرس ومعالي الأمور، وكانت نفسه أبية يحب الحرية وولد ونزعة التحرر في نفسه كما يذكر عن نشأته وصفاته، فكان ذلك كله تمهيدا لأخذه بحظ وافر من التجديد في الفكر الإسلامي-مع ما أحدثه ذلك من نقاش وأخذ ورد في المحيط الإسلامي- فقد كان الترابي رحمه الله مهتما بحال التراجع الذي وجد عليه الأمة فقام يجدد في الفكر ما استطاع برؤية إيمانية توحيدية ترى الدين نورا يضيء حياة الإنسان ويصله بالله على أفضل ما تكون الصلة فيعمر قلبه بالإيمان كما تعمر حياته بالطيبات من الرزق وينعم بالحرية والكرامة اللتين وهبهما له الله تعالى.
ومن ثم نجده يؤكد على ضرورة تجديد الفكر الإسلامي ويتساءل ويجيب مفرقا بين تجديد الفكر وتجديد الدين” الفكر الإسلامي هل يتجدد؟ أليس الدين هديا أزليا لا مكان فيه للتجديد؟ بلى.. الذي يتجدد ويتقادم ويبلى إنما هو الفكر الإسلامي…والفكر الإسلامي إنما هو التفاعل بين عقل المسلمين وأحكام الدين الأزلية الخاتمة.. أما عقل الجيل من المسلمين الذي يضطلع بالتفكير في الإسلام فهو يتكيف بنوع وكمية المعارف العقلية.. والتجارب التي تم تحصيلها في كل زمان… إذا ضاقت هذه المعارف ضاق.. وإذا اتسع اتسع.. ولأنه يتكيف وينفعل بالظروف الراهنة التي تحيط به، وبالحاجات التي يحسها الناس وبالوسائل التي تتيحها له ظروف الحياة، فالفكر الإسلامي هو التفاعل بين عقلنا المتكيف بهذه العلوم، المنفعل بهذه الظروف مع الهدي الأزلي الخالد الذي يتضمنه الوحي والذي بينه الرسول صلى الله عليه وسلم[10].
الترابي وتفسير القرآن
وقف الترابي-رحمه الله-موقف الناقد من التفاسير التي وصلتنا عن الأسلاف الكبار، ليس توهينا من شأنها ولا من شأنهم، ولكن لأن حاجات إنسان العصر اختلفت ومن وجب أن يخاطب بخطاب جديد يفهمه ويدركه ويدرك من خلال قراءته للقرآن حقيقة خلوده وصلاحيته للاتخاذ منهاجا للحياة. فقد أراد من تفسيره للقرآن أن يربطه بالواقع بحيث أن من يقرأ هذا الكتاب مسلما كان أو غير مسلم عربيا أو غير عربي يفهم خطاب القرآن كأنه يخاطبه هو.. يخاطب همومه ومشاكله وما يعترضه من عقبات في حياته. كان أمله أن يكمل تفسيرا يسهم في نشر الدين في الحياة يعتصم بمنهاج التوحيد،. وكما يقول في تقديمه للجزء الأول من التفسير “الاجتهاد في تفسير القرآن لا فكاك له من منهج التوحيد، ذلك لأن الدين كله يتأسس على الإيمان بوحدانية الله عقيدة يبلغها الإنسان من تعرف الآيات في ظواهر الكون المتفرقة المشهودة وفي مغازي حادثات الحياة المضطربة ببلاءاتها، تذكره الآيات البينات المنزلة وتهديه ليجعل حياته عبادة خالصة لله ربا واحدا لا يشوبها بإشراك أرباب أو تعلقات دونه. وذلك أيضا لأن القرآن –وحيا منه تعالى- يخاطب الإنسان بأسلوب ونهج متسقين موحدين لا يعتريهما اختلاف، لتقوم حياته موحدة وفاقا لما حوله من أقدار الله الطبيعية المحيطة به على سبيل قاصد إلى الله الصمد لا تصرفه عنه ضلالة. ومن ثم ينبغي أن يتخذ المؤمن في تفسيره القرآن بنهج البيان التوحيدي لذلك الهدي المستقيم[11].
ثم و يرفض عزلة غالب المسلمين عن القرآن ويثمن فهم الأقلية منهم فيقول “إن جمهور المسلمين في عزلة من القرآن ذكرا متدبرا مصدقا للحياة، غالبهم إن قارب القرآن يحفظه محجوبا في غلافه ليبارك له المكان من الشيطان وليمسه أحيانا تبركا ونظرا إليه قربانا لله، وإن تلاه باللسان ولو جود المنطق فقد يكون أعجميا لا يدرك الصوت أو عربيا لا يتدبره تلاوة بالجنان. وأقل المسلمين من يتلوه مستمعا متفقها متبعا صادقا موقعا معانيه في حادثات حياته جميعا، إذا استمع أنصت لتبلغه رسائل يتدبرها العقل وينفعل بها القلب لا تأتي مفهومات باردة بل تحيا إماما للحياة وميزانا[12]. لقد رام الترابي تفسيرا يحيا به الإنسان كله لله: صلاته ونسكه ومحياه ومماته لله رب العالمين، فقدر الله أن يخرج جزأين منه وسبق الأجل فلم يكتمل، ينتظر من يشمر عن ساعد الجهد ليكمل ما بدأه الترابي رحمه الله.
الترابي والمرأة
كانت ما زالت رؤى الترابي-رحمه الله-حول المرأة مثار جدل كبير، ويعود ذلك لسبيين: الأول الجدة في تلك الرؤى بالنسبة لزمان صدورها، والثاني متعلق بتشويه تلك الآراء من النقلة، وإذا أضفنا لذلك غياب كثير من وقائع عصر النبوة بل واجتهادات كثير من الفقهاء في قضايا المرأة عن معظم الفقهاء الذين انتقدوا الترابي لعلمنا أسباب الضجة المفتعلة.
فقد كتب الترابي مبكرا عن المسئولية المتساوية للمرأة والرجل، وعن ضرورة قيام المرأة بواجبها في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في المجتمع مع الرجل، ول متخرج رسالته عن المرأة عن نقل ما حدث في المجتمع المسلم في عهد النبوة ليستخرج منها ما ارتاه من آراء، وهوما رجع إليه كثيرون بعد ذلك في كتاباتهم. وكانت اجتهاداته في تنزيل النصوص على الواقع فيما يتعلق بالمرأة جزءا من سوء الفهم الذي منيت به رؤاه، فعندما سئل عن امرأة أسلمت وزوجها ما زال على دينه في أمريكا تكلم عن جواز بقائه معه قياسا على ما حدث في عصر النبوة وما اجتهد فيه بعض الفقهاء وهو ما يناسب الحالة المعروضة عليه فقامت قيامة الكثيرين ونعتوه بما يليق ثم بعدها بأكثر من عقدين عاد هؤلاء لتبني رأيه. وأما عن زي المرأة فقد افترى عليه البعض أنه ينكر الحجاب وذلك للتسرع وسوء الظن، فالرجل أنكر كل ما نسب إليه في ذلك. وما زالت كتاباته في موضوع المرأة تحتاج لكثير من العناية بها.
السلطان والإسلام
كانت حياة الترابي-رحمه الله- سلسلة ممتدة من الجهاد في شتى مجالات الحياة، وشغل الجانب السياسي منها حيزا هو الأكبر فطغى على فكره التجديدي وغطى عليه بل زهد فيه الكثيرين، فالسياسة مجال الاختلاف بامتياز خصوصا في ظروف أمتنا الراهنة، والواقع السياسي في مجتمعاتنا المسلمة يمور مورا بالأفكار والأحداث وتتداخل فيه الأوضاع الداخلية بالتدخلات الخارجية، والعطب أصابه في مقتل منذ واقعة صفين أو قبلها بقليل، ومن ثم فإن المبحر في محيط السياسة لن يخرج منها سالما أبدا. وهذا ما حدث للترابي وكان يعلمه ويتعلم منه.
دخل الترابي المجال السياسي مبكرا وهو يعلم جيدا أن “السلطان قد فارق هدي الإسلام في ممارسة السلطة في غالب تاريخ الإسلام”، وكان الاندماج في حركة المجتمع الإسلامي في السودان من أجل إعادة اللحمة بينهما، ومن ثم نجده كثير الاجتهاد والنظر في جميع مناحي الحياة يقدم الجديد من الرؤى لتواكب الدفع الإسلامي المتعاظم والطاقات المسلمة التي تتفجر تريد تطبيق الإسلام في حياتها، لكن ليس للناس من فقه يهديهم فكان طلعة في ذلك فاجتهد في بناء الجبهات والتحالفات بل والانقلابات.
فقد وجد الترابي فراغا هائلا في الفقه السياسي الإسلامي في كيفيات الحكم والسياسة العامة والعلاقات الدولية وغيرها، فشمر عن ساعد الجد ولم يأل جهدا في هذا المجال، فقد كان يرى-وهو مصيب كل الإصابة- أن يتوجه “كل الخطاب الدعوي والفقهي الآن إلى هذه الثغرة.. هذه الساحات من الدين لأنها ثغور من الجهالة وإذا تركناها للعاطفة بغير هداية وضبط قد تحدث دمارا.. فقضايا الواقع غير موجودة في الكتب القديمة ونحن نحتاج أن نجتهد لواقعنا.
والترابي يقول-بحق- إننا لم نتحرك بإسلامنا مع تطور ظروف الحياة، شوطا بعد شوط، بل فرطنا حتى تكاثر علينا ركام ثقيل، ومن ثم فحاجتنا اليوم لأكثر من تحديث محدود، بل حاجتنا إلى ثورة لتبدل التغييرات التي تضاعفت وترسخت… وهو يتابع فيقول” إنما علة المسلمين في نفوسهم، فهل ترى يسنون سنة قوم قد ضلوا من قبل ويحاولون معالجة الحياة مدبرين عن الله ناكبين عن صراطه المستقيم، فلا يكون نيلهم في الدنيا إلا قليلا، ثم لا تكن عاقبتهم إلا خسرا؟ أم تبعث فيهم قوى الإيمان، فيقبلون على الحياة، تقاة متوكلين ليحققوا ما يرتجى لهم من نهضة رشيدة يبارك الله تعالى فيها ويدارك فتكون خيرا في دينهم ودنياهم وعاقبة أمرهم”[13].
والناظر في كتاباته وما خلفته حركته في السودان وما تركته من بصمات على حركات إسلامية كثيرة في تونس والمغرب وفلسطين وغيرها يجد أنه قد أحدث ثورة في قضايا التنظيم الحزبي وأولويات العمل السياسي، ودور المرأة في الحركة الإسلامية وفي المجتمع لا يمكن إنكاره، ولا يجب إهماله من الأجيال الجديدة من المسلمين.
الترابي والسجن/الخلوة
قضى الترابي-رحمه الله-إحدى عشر عاماً في السجون والمعتقلات، وهو في حواراته وكتاباته يتكلم عن هذه السنون بكل حب ونشوة المؤمن الصابر المحتسب الذي رأى المنحة في طوايا المحنة، فهو عندما يتحدث عن تلك السنون، يقول” كتب الله علي خلوة السجن، وكانت هذه أمتع أيام حياتي، فكنت أقرأ متأملا متدبرا وكتبت فيه غالب كتبي”.
عبرة من خبرة
لم يكتب لتجارب علامتنا الراحل السياسية النجاح المطلوب، فلم تكتمل تجربة منها لنهايتها كما كان يأمل، فعلى مدار أكثر من أربعين عاما منذ ستينيات القرن الماضي حتى نهايته سعى الترابي لتقديم نموذج سياسي يقرب من النموذج الإسلامي في الحكم لكنه لم يحالفه التوفيق لأسباب كثيرة متداخلة بعضها يعود للداخل السوداني والآخر بسبب أمراض الحركة الإسلامية وقلة خبرتها، والثالث متعلق بالخارج الرافض لوجود تجربة إسلامية ناجحة في الحكم وأخيرا وهو الأساس بسبب عدم جاهزية المجتمع المسلم لذلك الحكم بسبب عقبات كثيرة يقع في قلبها هجر الإسلاميين له.
يقول الترابي في معرض تقييمه لتجربته السياسية أننا-أي الحركة الإسلامية في السودان؛ وهو ما ينطبق على مجمل الحركات في مجتمعاتنا العربية- “لم نكن مهيئين للسلطة فنحن لم نتمكن من الهداية المنظمة المفصلة للسلطة” وهو يعطينا العبرة من ذلك مبينا أخطر ما فعلته الحركة الإسلامية ” نحن هرعنا إلى السلطة دون خبرة، وتركنا المجتمع ضائعاً.. الحركة الإسلامية هجرت المجتمع إلى السلطة.. السلطة صرفتنا عن المجتمع” ثم يقول نادما تائبا معلما لنا “لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما قمت بانقلاب 1989م”. فالتجربة كما يقول رحمه الله تخرجك أكثر فقها وخلقا. فهل نتعلم الدرس؟
خاتمة
مهما اختلفت مع الترابي-هذا إن كان هناك خلاف حقيقي فعلا- فإنه سيظل معلما ومنارا للتجديد في الفكر الإسلامي الحديث، فقد ترك إرثاً فكرياً وخبرات عملية في مجالات السياسة والتنظيم والتحالفات والتربية وسيظلّ أثره باقياً لعقود قادمة. لذلك فمن الضروري أن تعتني الحركة الإسلامية ومراكز البحث المسلمة بتراث الترابي الثري، ولا يصدنها عنه ما وقع فيه من أخطاء سياسية، ولا ما حدث لرؤاه من تشويه وتبديل وحملات ظالمة حولت الثانوي إلى رئيسي والرئيسي إلى ثانوي عند النظر لفكر الترابي.
يقول جون فول في مقاله “حسن الترابي والإسلام المعاصر” منوها بفكره وتجربته الثرية “مثَّلت وفاة الدكتور حسن الترابي في 5 مارس 2016 نهايةَ فترات مُهمَّة في تاريخ المُسلمين السياسي والأيديولوجي. ويُحتفى بالترابي من قِبَل البعض كمُتحدّث بارز عن التجديد الفكري الضروري للمسلمين، ويُعارض بشدة من قِبل آخرين يرونه علمًا مهمًّا في تشكيل الأبعاد الاستبدادية لما يُعرّفه كثيرون بالإسلام السياسي. وقد لعبت سيرته المهنيّة الطويلة كناشط سياسي ومُفكِّر ديني حداثي دورًا في كل من عكس وصياغة اتجاهات كبرى في العالم الإسلامي لما يربو على نصف قرن. ويُعدّ كُل من الأبعاد العقلانية والسياسية لعمله مهمًّا لتذكّر حياته”[14].
تعلمنا تجربة الترابي ويعلمنا فكره أن الفقر في التفكير والغني في الأوهام السياسية يسهمان في جرنا إلى المآسي والكوارث، فالسياسة تفاعلات ونزاعات بين مصالح وقوى ودول والسياسة تقتضي تفكيرا يستطيع الارتقاء إلى مستوى تعقيد المسألة السياسية نفسها ويستطيع أن يستجيب لإرادة الحياة لدى الناس وحاجة الأمة للتجدد.
إن ما تمر به الأمة من تحديات هائلة وفي قلبها ما يحدث في غزة في أبعاده الحضارية والجغرافية والمستقبلية يجعلنا لا نستطيع صرف النظر عن البعد السياسي إذا أردنا فهم عالمنا وزماننا، وإذا أردنا التأثير في مصائرنا، ولكن كيف نتصور السياسة وكيف نمارسها؟ فالسياسة تطرح أكبر تحد على المعرفة والعلم. فالسياسة هي التي تقرر كل شيء في الاقتصاد والمجتمع والحكم، وتتوقف هي نفسها على شروط اقتصادية واجتماعية وثقافية وبيئات داخلية وخارجية وهذا ما يجعلنا نعيد النظر في تجربة الترابي نستفيد منها، فالترابي فكرا وممارسة يعلمنا الكثير جدا الذي يثري واقعنا ويغني مستقبلنا إن أحسننا الاستفادة منه، ويا حبذا لو نفر نفر من شباب الأمة النابهين يقربون فكر الترابي من الناشئة فلغته العالية تستعصي على الكثيرين في زماننا.
رحم الله الدكتور الترابي رحمة واسعة وهدى الأمة لتستفيد من عقولها الكبيرة ولا تهملها.
[1] عبد السلام، المحجوب.اجتهادات الشيخ الترابي، عود على بدء، على الرابط التالي: https://www.mafhoum.com/press9/263C31.htm
[2] المرجع نفسه، ص7
[3] المرجع نفسه، ص7.
[4] الترابي، حسن. مقاصد الشريعة، ص186، الترابي، حسن. فقه الدعوة ملامح وآفاق(حوار مع عمر عبيد حسنه، ص22).
[5] الترابي، حسن. الإيمان وأثره في الحياة، ص330.
[6] المرجع نفسه، ص10.
[7] الترابي، حسن. حوارات في الإسلام، الديموقراطية، الدولة، الغرب دار الجديد، 1995م، ص24.
[8] الترابي، حسن.الإيمان وأثره في الحياة، ص330.
[9] الترابي، حسن. حوارات في الإسلام، الديموقراطية، الدولة، الغرب دار الجديد، 1995م، ص135.
[10] الترابي، حسن. تجديد الفكر الإسلامي، 4.
[11] الترابي، حسن. التفسير التوحيدي، الجزء الأول، ص 15.
[12] الترابي، حسن. التفسير التوحيدي، الجزء الأول، ص 26-27
[13] الترابي، حسن.الإيمان وأثره في الحياة، ص331.
[14] فول، جون.حسن الترابي الفكر الإسلامي، ترجمة روان القصاص، مركز نماء، على الرابط التالي: https://www.nama-center.com/articles/details/30657