مقالاتمقالات المنتدى

في ذكرى وفاة الدكتور طه جابر العلواني .. تجديد الفكر الإسلامي عبر المنهج القرآني النبوي

بقلم أ. عماد الدين عشماوي (خاص بالمنتدى)

تمر اليوم ذكرى وفاة الدكتور طه جابر العلواني الثانية(انتقل عالمنا الكبير، إلى رحمة الله ورضوانه، ليلة السبت الموافق 4 مارس 2016م، الموافق 24 جمادى الأولى 1437ه).والدكتور العلواني واحد من أهم علماء الأمة العربية والإسلامية الذين أثروا الفكر الإسلامي بأعمالهم المميزة واجتهاداتهم الجريئة في: كيفيات التعامل مع القرآن المجيد، والسنة المشرفة، وتراثنا الإسلامي، التي فتحت الباب أمام الأجيال القادمة لتحقيق تجديد حقيقي للفكر الإسلامي.

نحاول في هذا المقال التعريف بأهم مؤلفاته، وبيان بعض رؤاه في التعامل مع القرآن المجيد والسنة المشرفة.

أهم مؤلفاته:

بلغت مؤلفات فقيدنا الراحل الكبير العشرات، ومن أهم تلك المؤلفات: تحقيق ودراسة كتاب (المحصول في علم أصول الفقه) للإمام فخر الدين الرازي-أدب الاختلاف في الإسلام-مشكلتان وقراءة فيهما، بالاشتراك مع المستشار طارق البشري- إصلاح الفكر الإسلامي: مدخل إلى نظام الخطاب في الفكر الإسلامي المعاصر- الأزمة الفكرية ومناهج التغيير: الآفاق والمنطلقات-إسلامية المعرفة بين الأمس واليوم- في فقه الأقليات المسلمة-أبعاد غائبة عن فكر وممارسات الحركات الإسلامية المعاصرة- نحو منهجية معرفية قرآنية- أزمة الإنسانية ودور القرآن الكريم في الخلاص منها-الجمع بين القراءتين: قراءة الوحي وقراءة الكون-الوحدة البنائية للقرآن المجيد- لسان القرآن ومستقبل الأمة القطب- لا إكراه في الدين: إشكالية الردة والمرتدين من صدر الإسلام إلى اليوم-معالم المنهج القرآني-إشكالية التعامل مع السنة النبوية- مذكراته الشخصية–تأملات في الثورات العربية-التوحيد ومبادئ المنهجية-أفلا يتدبرون القرآن-نحو إعادة بناء علوم الأمة-نحو الاجتهاد والتجديد-نحو موقف قرآني من النسخ- نحو موقف قرآني من إشكالية المحكم والمتشابه- مقاصد الشريعة- التوحيد والتزكية والعمران- الحاكمية والهيمنة: نحو إعادة بناء مفهوم الأمة والدولة والدعوة-حوار مع القرآن.

علاقته بالقرآن المجيد

ارتبط الدكتور طه، منذ طفولته، بالقرآن المجيد، بداية من تعلمه وحفظه في الكُتاب ومروراً بالوعي عليه، الذي زرعه في نفسه شيخه الأول في المدرسة الدينية في العراق؛ حتى ترسخت قناعاته بهذا الكتاب الكريم، وأنه هو كتاب الاستخلاف وكتاب الهداية ومنبع كل حكمة وخير. وقد لازم ذلك تساؤلات كثيرة طرحها على نفسه: لماذا إذن، حال المسلمين بعيد عن هذا الكتاب؟ فالمزايا التي يجري الحديث عنها في كتاب الله، لا نراها في حال المسلمين، ولا نراها في سلوكياتهم، فكيف حدث هذا الفصام؟ ولم حدث؟

ومن هنا، كانت بقية حياته بحثاً عن أجوبة لتلك التساؤلات، عبر رحلة امتدت أكثر من خمسين عاماً مع الفكر الإسلامي بدأت في العراق، ثم مصر، ثم السعودية، ثم الولايات المتحدة الأمريكية، ثم العودة الأخيرة لمصر والوفاة.

معالم في المنهج القرآني:

يلفت العلواني، رحمه الله، في جُل مؤلفاته وكتاباته، أنظار الباحثين في الفكر الإسلامي، إلى أن أهم أسباب أزمتنا الحضارية الراهنة، هو غياب “المنهاج القرآني”، وأن هذا الغياب هو المتسبب في العجز عن صياغة سؤال أزمتنا الراهنة بشكل صحيح، حتى يعطينا القرآن عبر “منهاجه الكوني” الجواب الشافي. فالقرآن المجيد، هو “النبي المقيم، والرسول الخالد، والرسالة العالمية، والمرجع الكوني للبشرية”، كما يقول الدكتور -رحمه الله-.

وللقرآن الكريم، منهجيته المعرفية، التي يجب على المسلمين اكتشافها واتباعها، عبر الكشف عن “مقاصده العليا الحاكمة”، والتي هي: كليات مطلقة قطعية، تنحصر مصادرها في القرآن المجيد ذاته. وبناء هذا المنهج القرآني، يبدأ من استخراج هذه “المقاصد القرآنية العليا الحاكمة”، لأنها وحدها القادرة على إعادة القرآن إلى مركز الدائرة في تفكير الإنسان المسلم.

وتتمثل هذه المقاصد القرآنية العليا الحاكمة، في :التوحيد، والتزكية، والعمران، باعتبارها منظومة مقاصدية كاملة، تحتاج إلى أمة؛ أي جماعة من الناس تبشر بتلك المقاصد، وتبني الوعي عليها، وبالتالي يصبح عندنا خماسية، هي: التوحيد، والتزكية، والعمران، والأمة، والدعوة، ومجموع هؤلاء يشكل مقياسًا من الضوابط تمهد لظهور منهج متكامل، نعيد به قراءة وكتابة تراثنا، وإصلاح وتجديد أحوال أمتنا وعالمنا.

ولهذا طرح الدكتور العلواني، رحمه الله، قضية المنهاج القرآني، من خلال تدبره في  الآية الكريمة “لكل جعلنا منكم شرعة و منهاجا”. والتي سماها آية “الشرعة والمنهاج”. أي أن القرآن الكريم المجيد المكنون، كما اشتمل على الشريعة بتفاصيلها، فقد اشتمل على المنهج بمحدداته-كلها- وأن الله-تبارك و تعالى- كما أكمل لنا الدين, وأتم علينا النعمة, فصل لنا الشريعة, فقد أودع كتابه “المنهاج” القادر على التصديق على سائر ما وصلت البشرية إليه من مناهج و الهيمنة عليها”.

المنهج القرآني يجدد حياتنا:

إن “المنهج القرآني”، كما يؤكد الدكتور-رحمه الله-، أمر لابد منه لمراجعة تراثنا وتنقيته, والتصديق عليه, لأن الحياة لا تقف، والمستجدات لا تنقطع. والمنهج القرآني، يراجع ما بُني حول القرآن المجيد من تراث, ويقدمه إليه لتصديقه بعد نقده وإعادته إلى حالة الصدق, ثم الهيمنة عليه, واستيعابه وتجاوزه بحيث تكون الهيمنة والمرجعية دائماً للقرآن على كل ما عداه, ويكون الحجة والناطق بالحق على كل ما سواه. كما أن المنهج القرآني يمكن الباحثين من تحديد فترات التوقف والانقطاع في تاريخنا وتراثنا.

مجرد بداية

ولا يدعي الدكتور-رحمه الله- أنه قد أوضح كافة جوانب المنهج المعرفي القرآني في كتاباته, لأن توضيح ذلك واستقراءه أكبر بكثير من جهود و طاقات فرد أو أفراد, لكنه أراد أن يفتح الطريق أمام سائر أصناف علماء الأمة من فيزيائيين و طبيعيين و علماء اجتماعيات وإنسانيات, وعلوم ومعارف نقلية ليبحثوا في القرآن المجيد في ضوء هذه الرؤية لعلنا نصل-ولو بعد حين- إلى الكشف عن “منهجية القرآن المعرفية”، وننعم ببلورة قواعده, ومعالجة مشكلاتنا ومشكلات “الأسرة الإنسانية” به.

دور السنة في بناء المنهج المعرفي القرآني:

وإذا كان القرآن المجيد, هو المصدر المنشئ الوحيد للمنهج, فإن السنة المشرفة الثابتة، تتكامل معه في جانبها الموحى به، بوصفها المصدر المبين على سبيل الإلزام. كما أنها المصدر التطبيقي الذي يقدم للبشرية “نموذج التأسي” بما يشتمل عليه من ترجمة عملية للهدى القرآني, ونقله إلى سلوكيات إنسانية تندرج فيها المواقف التاريخية بأبعادها الزمانية و المكانية.

ففي الكتاب الكريم، “تنظير” كما نعبر في أيامنا هذه, وفي السنة “تطبيق” . وفي القرآن خطاب، وفي السنة بيانه وتأويله العملي والقولي, ولذلك كان لكل منهما منهجه في التعامل وأدواته, ولكن الاختلاف في مناهج التعامل وأدواته لا يغير من طبيعة العلاقة بينهما في الاستنباط المنهاجي والترابط بينهما.

وقد أكد الدكتور، رحمه الله، على ضرورة حصر دائرة إنتاج مفاهيم إنتاج” الإطار المرجعي” في جانبها المصدري والتنظيري في الكتاب الكريم بوصفه المصدر المنشئ، والسنة الثابتة بوصفها المتكاملة معه والمصدر المبين. فما يمكن أن يندرج تحت مفهوم “منهج” هي تلك السنن المطبقة لتعليمات وأوامر الكتاب الكريم, فهي بيان تطبيقي يقترن فيها في كثير من الأحيان القول بالعمل, مثل قوله-صلى الله عليه وسلم-: “صلوا كما رأيتموني أصلي”.

فالقرآن المجيد، هو خلاصة الوحي الإلهي, والسنة المشرفة، هي خلاصة سنن الأنبياء, وتجاربهم مع أقوامهم. والقرآن والسنة- بهذا الاعتبار- قادران على التمكين لقوافل الساجدين من البشر, وحمايتهم من محاولات إبليس وحزبه في ضمهم إلى موكب الرافضين للسجود, عبر منهجية القرآن المعرفية.

 

 

ترتيب العلاقة بين القرآن المجيد والسنة المشرفة

حذر الدكتور-رحمه الله- كثيراً من القراءات التجزيئية للكتاب  والسنة، لأنها  قراءات خطرة، وأكد على ضرورة أن ترتبط أي قراءة للكتاب والسنة بالكليات والقيم و المقاصد العليا القرآنية, بحيث تربط السنة بالكتاب ربطاً دقيقاً محكماً، لا يسمح بقيام أي تناقض أو تعارض أو تناسخ بينهما, ويجمع بينهما في وحدة بنائية لا انفصام لها. وتحديد العلاقة الدقيقة بينهما تحديداً لا يسمح بإيجاد تضاد بينهما (بطريقة منهجية, لا على طريقة التوفيق التعسفي والتحكمي الذي قام به بعض ممن اشتغلوا بعلوم مشكل الحديث), وتحديد العلاقة بينهما، وفقاً لتحديد الله-تبارك و تعالى-لها, وإدراك رسول الله-عليه الصلاة و السلام-لحقيقتها .

ويرى الدكتور، رحمه الله، ضرورة ترتيب العلاقة بينهما، بحيث يصير القرآن مهيمناً على السنة,  وتصير السنة وسيطاً معرفياً مندرجاً تحت القرآن-لا موازياً له- معنياً بتطبيقات القرآن. مما يخرج الجدل حول السنة، من حيث حجيتها, الذي انتهى إلى التكفير, وتفسيق الأطراف بعضها بعضاً, لحوار حول المنهج الأساس الذي ينبغي أن تدرس فيه السنة, والإطار العام الذي يجب التعاطي بداخله-لا بالاستقلال عنه-مع قضايا السنة.

خلاصة مشروع العلواني كما بينه قبل وفاته:

1-العمل على بناء وتأسيس وعي قرآنيّ جديد، يعيد بناء وتشكيل العقل المسلم بناءً معرفيًّا ومنهجيًّا، موظفًا سائر قوى الوعي الإنسانيّ في ذلك.

2-صياغة «خطاب إسلاميّ جديد» انطلاقًا من قراءة شاملة تجمع بين الوحي والكون، ومنه الواقع المعاش.

3-مراجعة «التراث الإسلاميّ» مراجعة نقديَّة تبدأ بمحاكمة ذلك التراث وعرضه على كليَّات القرآن المجيد ومقاصده العليا الحاكمة: «التوحيد، والتزكية، والعمران»، لاستبعاد مَا يتعارض وقيم القرآن المجيد، ويؤدي إلى الغلوّ والتطرُّف والتعصب ورفض الآخرين.

4-تقديم السنَّة التشريعيَّة، باعتبارها تطبيقًا واتِّباعًا للقرآن المجيد لا تستقل بالتشريع؛ بل يجب أن تكون دائرة حول القرآن المجيد خاضعة لهيمنته وتصديقه؛ ولذلك فقد نفى مشروع العلوانيّ أن تكون السنَّة قاضية أو ناسخة أو مخصصة للقرآن.

5-تجديد «أصول الفقه» وبناء فقه جديد، من خلال التأصيل للمقاصد والقيم القرآنيَّة العليا الحاكمة، وهي –عنده– «التوحيد والتزكية والعمران»،  وذلك يجعل تقييم الفعل الإنسانيّ يعتمد على مدى انسجامه أو انبثاقه عن هذه المقاصد.

آخر ما كتب: أنا مسلم

ولعل مقاله الأخير، الذي كتبه قبل وفاته مباشرة، يعبر تعبيراً صادقاً عن العلواني: الإنسان المسلم، العابد ، العالم، العامل، يقول في مقاله هذا عن نفسه:

أنا مسلم…أُقدِّس العدلَ، وأمجِّدُ الحريَّة، وأكرِّمُ الإنسانَ… وأرفق بالضعيف، وأُذَكِّرُ القويَّ بالذي هو أقوى منه. أنصح الأغنياء بأنّ يؤدوا حقوق الفقراء في الأموال، وأدعو الفقراء أن يعرفوا أن أغنياءَهم مستخلَفون بمال الله فيهم…

أحب الخير، وأدعو إلى البرّ، وأرفض الشرَّ، وأرفض العنف، وأحب الرفق، واتشبثُ بالهدى، وأصون الحق… أحارب الباطل، وأنهي عن الفساد، وأريد الإصلاح ما استطعت، أبغض الحروب، وأعشق السلام، أحب الحياء، وأسعى لجعلها حياة طيبة… أهاب الموت، لكنني أؤمن بأنَّه جسر لابد أن أمشيه؛ لأصلَ إلى دار البقاء من دار الفناء، وأرجو حسن الخاتمة، واستعيذ بالله من سوئها…

أحب الجنة، وأبغض النار، أحب الأمن، وأبغض القلق، وأكره الكراهية، ولست بفاحش، ولا بسبَّاب، ولا بمهلك… يمتد نسبي إلى آدم وحواء؛ فآدم أبي، وحواء أمي، وكل البشر أخواني وأخواتي… لا أحقر أحدًا منه، لا أسلمه، ولا أخذله، بل أعمل على هدايته، وإنارة الطريق بين يديه، والأخذ بيديه إلى الجنَّة، والحيلولة بينه وبين السقوط في النار…

أحب الكون وأنتمي إليه، وأحب كل جيراني فيه: من شجر، أو حجر، أو نبات، أو حيوان، أو جبال، أو بحار… والله (جلَّ شأنّه) منها خلقني وفيها يعيدوني ومنها يخرجني تارة أخرى، فإليها أنتمي، وبعمرانها أنادي، وإعلاء الحق فيها مطلبي، وشمولها بالسلام والأمان غايتي، ومجاهدة نفسي وغيري-ليعم السلام ويسود الأمان-وسيلتي وغايتي، فإليه أدعو وإليه مآب…

السلام غايتي، والأمان مطلبي، والإرهاب عدوي، والصراع خصمي، والأمن والطمأنينة مطلبي.

خاتمة:

أنفق الدكتور العلواني، ما يقارب نصف قرن، يدرس القرآن والسنة ومشاكل الأمة المسلمة ومشاكل الإنسانية، فلم يجد غير القرآن شافياً لمشاكل أبناء آدم، وتوصل إلى أن الدخول إلى القرآن، ليعيد ترتيب رؤيتنا لمشاكلنا بشكل صحيح، ويطرح علينا رؤيته لكيفيات حلها، تقتضي بناء منهجية معرفية قرآنية، ولن يتم ذلك دون إصلاح مناهج الفكر الإسلامي، ومن ثم يتسنى لنا معالجة الأزمة الفكرية للأمة، لعل هذا يقود إلى بناء فكر الأمة الحضاري وتأسيس “خطاب تجديدي إسلامي, وبناء مشروع عمراني حضاري, يمكن الأمة من استئناف حالة شهودها الحضاري العمراني, ويردها إلى موقع الشهادة على الناس وفيهم, ويعيد تأهيلها لتحقيق الحضور العالمي اللازم لخيريتها ووسطيتها وشهادتها وعالمية رسالتها, وعموم وشمول ويسر شريعتها, ومرونة قيمها ومقاصدها.

وقد أدرك، الدكتور طه جابر-رحمه الله-، بعد رحلة نصف قرن مع الفكر الإسلامي، والانغماس في مشاكل أمتنا وعالمنا، أن اتخاذ أي منهج موروث أو وافد؛ سواء كان أصول الفقه، أو منهج البحث في العلوم الاجتماعية والإنسانية، لن يخرج أمتنا من أزمتها الفكرية والعملية. وأن التجديد، بكل أنواعه، لن يتم دون الرجوع إلى القرآن المجيد، لأن استرداد المنهج القرآني في معالجة مشكلاتنا، هو منطلق أي مشروع إصلاحي في بلادنا العربية والإسلامية.

رحم الله الدكتور العلواني، وأعان كل مسلم قادر على الاجتهاد، ويعي واجباته في هذه الحياة، أن يقتفي أثره لعلنا نهتدي إلى منهج القرآن المجيد الذي أخرج خير أمة للناس، ليخرجنا من ظلمات واقعنا المعاصر إلى نور الحق المبين المؤدي إلى المحجة البيضاء والحياة الطيبة.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى