كتبه لمنتدى العلماء أ. عماد الدين عشماوي
حلت منذ أيام قلائل، ذكرى وفاة الدكتور محمد فتحي عثمان(11 سبتمبر2010م) ، الذي يعد واحداً من أبرز علماء الإسلام المجددين في القرن العشرين، الذين تركوا أثراً كبيراً في تطور الفكر الإسلامي، وطرحوا عبر كتاباتهم العميقة والرصينة بصمة قوية في تاريخ هذا الفكر، في عالمنا الإسلامي وفي الغرب.في هذا المقال نلقي ضوءاً سريعاً على حياته وفكره.
سيرة موجزة
ولد الدكتور محمد فتحي عثمان، في محافظة المنيا جنوب مصر في 17 مارس من عام 1928م. وحصل على ليسانس في الآداب والحقوق، ثم ماجستير، ثم دكتوراة في التاريخ وأخرى في درسات الشرق الأدنى. وقام بالتدريس في جامعات عدة خارج مصر، ثم تولى رئاسة مجلة “أرابيا” التي كانت تصدر في لندن من عام 1981 إلى عام 1987.وبعدها استقر بالتدريس في أمريكا، فعمل مع جامعات عديدة، ومركز الحوار الإسلامي المسيحي، ومؤسسة عمر بن الخطاب.
وقد ترك الدكتور محمد فتحي عثمان، تراثاً فكرياً ثرياً: أكثر من 25 كتاباً بالعربية والإنجليزية، غير ترجماته للعديد من الكتب، بالإضافة لمئات المقالات والحوارات واللقاءات الصحفية.وتوفي الدكتور محمد فتحي عثمان في يوم 11 سبتمبر عام 2010 م، وقبل زلزال الثورات العربية بأشهر معدودات .
حياته في مصر:
عاش، الدكتور محمد فتحي عثمان، المرحلة الأولى من حياته العلمية والعملية في مصر بين جماعة الإخوان المسلمين، والتي ما لبث أن غادرها مع بعض الشباب في مثل عمره، بعد أن رأى أن توجهاته الفكرية مما يضيق بها فكر الجماعة-خاصة بعد اغتيال مؤسسها الأستاذ حسن البنا، وليعمل فترة في المكتب الفني لشيخ الازهر.
وفي هذه المرحلة، اتجه للتأليف في الفكر والتاريخ الإسلامي، وأخرج العديد من الكتابات التي أنبأت عن فكر متطور، واجتهاد جريء، وامتلاك جيد لناصية الكتابة السلسلة، ومعرفة عميقة بتراثنا الإسلامي. فكتب عن الدين للواقع، والدين في موقف الدفاع، وآراء تقدمية من تراث الفكر الإسلامي.وكتب أضواء على التاريخ الإسلامي، والتاريخ الإسلامي والمذهب المادي في التفسير، والفرد والمجتمع في الإسلام، والإسلام وتحديد الملكية، ومع المسيح في الأناجيل الأربعة، وكان أهم كتبه في هذه المرحلة الفكر الإسلامي والتطور. كما قام بترجمة العديد من الكتب، مثل: الإسلام وتوازن المجتمع، والتراث الجغرافي للمسلمين، والقانون الدولي في الإسلام، ومحمد في كتب اليهود.
من القاهرة إلى الخليج:
غادر، الدكتور عثمان، القاهرة، متنقلاً بين عدد من جامعات الدول العربية حتى منتصف الثمانينيات، يدرس الفكر والتاريخ الإسلامي.وأخرج في هذه الفترة عديداً من الكتابات اللافتة للنظر منها:دولة الفكرة، وطبعة موسعة من كتابيه الفكر الإسلامي والتطور ومدخل لدراسة التاريخ الإسلامي، والقيم الحضارية في رسالة الإسلام، وحقوق الإنسان بين الشريعة الإسلامية والقانون الغربي، ومن أصول الفكر السياسي الإسلامي، الخبرة السياسية للحركات الإسلامية المعاصرة، والتعددية السياسية.
في أوروبا:
ترك الدكتور عثمان، العالم العربي في منتصف الثمانينيات، واستقر فترة في بريطانيا، رئيسا لمجلة أرابيا التي كانت تصدر عن وكالة الإعلام الإسلامي، والتي كتب فيها الكثير من المقالات الهامة التي عبرت عن رؤيته لتطوير الفكر الإسلامي في عالم اليوم. ثم غادرها عام 1987م، بعد توقف المجلة عن الصدور مولياً وجهه قبل أمريكا.
في أمريكا:
استقر الدكتور عثمان في أمريكا بقية حياته، حتى حانت منيته، يدرس في جامعات أمريكا والغرب ويكتب أهم كتبه التي تحتاج من يترجمها للعربية، التي تناولت أهم قضايا الإسلام في عالم اليوم مثل: أبناء آدم، الآخر، مفاهيم القرآن، الجهاد، العالم الإسلامي– القضايا والتحديات، المرأة المسلمة في الأسرة والمجتمع، الشريعة في المجتمع المعاصر، حقوق الإنسان في العالم المعاصر، الإسلام في الدولة الحديثة: الديموقراطية ومفهوم الشورى، التعددية، رسالة إلى المسلمين في أمريكا.هذا بخلاف مئات المقالات والأبحاث واللقاءات التليفزيونية التي عبر فيها عن الفكر الإسلامي المعاصر أفضل تعبير.
المفكر القرآني:
كانت كتب ورحلة حياة الدكتور عثمان، مصوبة نحو ابراز مواجهة الإسلام في أصوله الموحى بها من رب العالمين للمتغيرات والتطور الاجتماعي، وكيفية مواجهة المسلمين لهذه المتغيرات.ومن أجل هذا كان تركيزه الدائم في كتاباته على ترك القرآن ليتحدث بلسانه العربي المبين، ويفصح عن مكنونه بكلماته لتصل لقلوب الناس.فمن أهم سمات كتابات فقيدنا الراحل أنها تتسم بوجهتها القرآنية الخالصة، ومن هنا قوتها الإقناعية العالية.
مفاهيم القرآن مبسطة للعالمين:
ففي كتابه “مفاهيم القرآن” الذي يربو على الألف صفحة، قدم الدكتور عثمان قراءة معمقة لرسالة القرآن وتصنيف موضوعي لمفاهيمه، فقدم رسالة الإسلام وجوهر القرآن في متناول الإنسان القارىء للإنجليزية.وهو الكتاب الواجب ترجمته للعربية.
الفكر الإسلامي والتطور:
ويعد كتاب الفكر الإسلامي والتطور، البذرة الرئيسية لكل كتابات الدكتور عثمان التالية.ففي هذا الكتاب دعا الدكتور-رحمه الله- لتجديد الفكر الإسلامي، موضحاً:كيف فتح الإسلام النوافذ أمام العقول والمجتمعات لتفهم وتنهض وتتقدم، وكيف ومدى احتياجنا للوعي بحقيقة التطور عندنا وعند غيرنا ليكون هذا الوعي أساسا لانطلاق رشيد نحو مستقبل سعيد.
يتغير الإنسان فتتغير نظرته للحقيقة:
فما دام الإنسان يتغير فلابد أن تتغير نظرته للحقيقة، هكذا تحدث الدكتور عثمان في كتابه. وأننا يجب أن نصحح فهمنا للدين كل سنة وكل شهر وكل يوم وكل لحظة، لأن المعرفة لا نهاية لآفاقها، ولأن التقدم الإنساني لا توقف لسيره، ولأن الحكمة الإلهية قمة عالية لا يمكن الزعم ببلوغها واستيعاب مقاصدها، والانتهاء من رصد هديها.
فالفكر الإنساني، يتغير دائماً بالنسبة للفرد وبالنسبة للجماعة، والواقع المادي والاجتماعي يتغير دائماً هو الآخر، والإسلام في مصادره الإلهية الثابتة تستقبله هذه المتغيرات وتتفاعل معه دون انقطاع فتتوالى رؤاها المتغايرة وأفهامها المتباينة لهذه النصوص الثابتة، ومن ثمّ تكتشف لها دائماً معاني وحقائق متجددة لا تركد ولا تجمد، وهكذا تتوالى «إعادة تفسير مفاهيم النموذج الأصلي على ضوء معطيات العصر القائم، أو بمعنى آخر تفجير طاقات النموذج الأصلي وإظهار ما يحتويه من إمكانيات وتنوّعات وطاقات على التوظيف المتعدد في إطار استمرار السياق التاريخي والحضارة العام الذي يمثله أو يندرج فيه.
نقده للحركة الإسلامية:
نعى الدكتور عثمان، على الحركة الإسلامية أنها: تفتقد الحوار الجاد البناء مع النفس ومع الغير، وأنها تغلب الطاعة للقيادة على الشورى في حقيقتها وجوهرها، وتغلب الولاء للتنظيم المعين والتقوقع فيه عن النظر للحركة الإسلامية في مجموعها وللشعوب وللإنسانية ككل، والانطواء على النفس وتجاهل القاعدة العريضة في جماهير المسلمين وفي شعوب العالم، وكأنها لفئة معينة من المسلمين لا للمسلمين جميعهم، ولا تخاطب العالم الذي تقاربت مصالحه وتوثقت أدوات الاتصال فيه، ويحتاج المسلمون إلى إسماعه صوت شعوبهم، وصوت دعوتهم.
كما انتقد دعوى الحركات الإسلامية التي: ترفع القرآن شعاراً ومنهجاً، وتؤكد أنه لكل زمان ومكان، وهو حق لا مرية فيه، لكنها تغفل أن لكل زمان ومكان مأخذه من القرآن لتلبية حاجته، وأن آياته مصوغة لتلبية الحاجات المتجددة والظروف المتغيرة عن طريق «العقل الإنساني» المتغير حسب ظروف الزمان والمكان والإنسان، وفي هذه الأفهام الإنسانية ثراء أي ثراء للنصّ الثابت الذي «لا تنفد عجائبه، ولا يخلق من كثرة الرد»، مصداقاً لقوله تعالى: {قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي، ولو جئنا بمثله مددا} [الكهف: الآية 109].
من الحركة إلى الفكر:
في مقال له في بداية القرن الحادي والعشرين، في مجلة الكلمة، قدم الدكتور عثمان-رحمه الله- تقييماً لتجربة المسلمين في القرن العشرين، مؤكدا أنه إذا كان القرن الماضي كان قرن «الحركة» بالنسبة للمسلمين، حيث استمر خلاله الجهاد ضد الاستعمار، وكان للإسلام دوره المشهود في تعبئة القوى والحثّ على مواصلة الكفاح ضد جحافل المستعمرين الذين يفوقونهم تنظيماً وعتاداً وأحياناً عدداً، ولا يزال المسلمون يجاهدون في هذا القرن ضد العدوان الخارجي أو الطغيان الداخلي في فلسطين، الشيشان والفلبين ومياغا (بورما) وغيرها.
فإن القرن الحادي والعشرين يجب أن يكون “قرن الفكر” للمسلمين، ووجه لضرورة الاهتمام بالفكر الإسلامي، وضرورة مواكبته للمتغيرات العالمية، وتعمقه في فهم القرآن بطريقة تليق بالإسلام ورسالته في عالم القرن الحادي والعشرين.
مسئوليات الفكر الإسلامي المعاصر:
يؤكد، الدكتور عثمان، أن على المفكرين المسلمين، في عالم القرن الحادي والعشرين، مسؤوليات لا تحتمل التأجيل.فلابد للفكر الإسلامي المعاصر أن ينير الطريق للحركة الإسلامية المعاصرة. ولابد للفكر الإسلامي المعاصر لكي يكون معاصراً حقاً أن: يقرر موقفه في صراحة وجلاء ودون غموض أو تمييع أو تحفظ بالنسبة للقضايا التي تعتبر معالم فكرية أساسية في الحياة المعاصرة، وعلى رأس هذه الأساسيات «حقوق الإنسان» أو «كرامة الإنسان»، من ناحية تقرير المبادئ والقواعد أولاً ، ومن ناحية مدى تطبيقها عالمياً، ومؤازرة من يتبنونها ثانيا.
من كلماته:
- بعد أن كان القرن الماضي في تاريخ المسلمين المعاصر قرن «الحركة» بوجه عام، هل يكون هذا القرن للمسلمين قرن «الفكر»؟
- دين الله هو نواميسه في الوجود كله، ووحيه المنزل هو دليل ورفيق في رحلة الحياة والتدين الصحيح هو التماس للحقيقة في الكون والنفس وأمانة وإبداع في الفكر والعمل وجوهر الإيمان بالله تحرير طاقة الإنسان.
- الدين لا يمكن فصله عن العقل الإنساني الذي يتلقاه ويستقبله، ويفهمه ويطبقه، والعقل الإنساني لا يمكن نزعه عن مجاله الحيوي الذي يضرب فيه جذوره، ونعني بذلك البيئة المحلية والعالمية والثقافية والاجتماعية.
- الحقيقة الكاملة لدين لا يملكها فرد أو جيل أو بيئة، ومعناها أن التطبيق المثالي للدين ليس مقصورا على صورة واحدة لا يتعداها.وكلما تقدم العقل وازدادات حصيلته من المعرفة ومقدرته على التفكير، كلما ارتقى المجتمع وتطورت حياته من الشكل البسيط إلى الشكل المركب.
- زلة المؤرخ تتضخم على مر الأجيال فيعز استدراكها، فتجني على المعرفة وعلى الإنسان في صميمه وأعماقه في الوقت ذاته، إذ تجني على عقله نفسه وسلوكه وشخصيته، وينعكس ذلك على شخصية الأمة جميعا مدخل إلى التاريخ الإسلامي.
- والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يمكن أن يدخل تحته كافة ما يتعلق بالمسلمين ككل مجتمعاً ودولة في اصطلاح الإسلام،لاسيما إذا لاحظنا ما اقترن به من المساواة في الولاية المشتركة الجماعية والاجتماعية للرجال والنساء.
رسالته إلى الشباب
يقول الدكتور، في حوار له مع مجلة الرشاد، عندما سئل عن توجيه رسالة للشباب، فقال:”إن رسالتي إلى الشباب أن يتجنبوا ما وقعنا فيه ونحن شباب، بحيث يعلموا أن التطور الذي يستمر من عصر النهضة إلى اليوم، ويقوم على الجد والعقلانية، لا يواجه إلا بأقدار موازية من الجد والعقلانية والعمل المكثف، الذي يرتكز إلى الكتاب والسنة، ويتمحور حول الاجتهاد.
لذلك، فإنني، أرجو ألا يتمحور جهد الشباب، حول وضع الكتب والأفكار القديمة في مظهر جديد وصورة جديدة، وإنما في إبداع كتب وأفكار جديدة. إنني آمل أن يتذكر الشباب دائمًا أننا لسنا بصدد إصدار قرآن جديد خالد وثابت، وليست تلك مهمتنا، وإنما مهمتنا أن نحدد ونخصص ونفرع لزمان ومكان معينين، وقد يظهر في اجتهادنا خطأ من جارنا القريب، وقد يظهر الخطأ فيه بعد خمس دقائق، لكن لا بد لكلمة الحق أن تقال مهما كان، فرضا الناس جميعًا غاية لا تدرك، ولا بد لكل كلمة تحدد حقًا وتفصل أمرًا وتمس مفصلًا من مفاصل تفكيرنا أن ترضي قومًا وتغضب آخرين.
متى نستفيد من مجددينا؟
“لو قُدِّر للحركة الإسلامية في مصر أن تتفاعل مع هؤلاء المبرزين في التجديد الفقهي والفكري لاستفادت عمقاً يعينها على الاستمرار ومواكبة المتغيرات الكبيرة والكثيرة بعد غياب مؤسسيها، وفتور الموجة الحركية نتيجة الأحداث والظروف من جهة، ونتيجة اضطرارها للاجترار والتكرار للعموميات والخطابيات بسبب افتقاد العمق من جهة أخرى. لكن حدث من الانفصام ما يحدث عادة بين الحركيين الذين يتهمون أهل الفكر والعلم بأنهم نظريون سلبيون، وأهل الفكر والعلم الذين يتهمون الحركيين بالسطحية والديماجوجية”.
هذا نص كلمات الدكتور عثمان التي تنطبق على فكره الذي أهملته كثيراً الحركات الإسلامية في عالمنا العربي ومازالت، فضلت في مسالك وطرق وعرة ما كان أغناها عنها لو استمعت لصوت هؤلاء المبرزين المجددين، وعلى رأسهم محمد فتحي عثمان.
خاتمة:
حاول، الدكتور محمد فتحي عثمان، طوال رحلته الفكرية المديدة، بكل ما أوتي من علم ومعرفة أن يستعيد الغنى الروحي للإسلام، في عالم مليء بالجفاف الروحي.وحاول عبر كتاباته الكثيرة تفصيل منهجية فكرية واضحة تتفاعل مع نصوص الإسلام الأصلية ووحيه الصادق، لتنتج فكراً راقياً يتحرك بمرونة في عالم من التغير المتسارع، يؤدي لإيجاد البدائل الحضارية القادرة على تحقيق الشهود الحضاري للمسلمين في عالم اليوم، وبلاغ رسالة الإسلام صافية من غير كدر للعالمين.
رحم الله الدكتور محمد فتحي عثمان رحمة واسعة