مقالاتمقالات المنتدى

في ذكرى رحيله العاشرة .. فتحي عثمان الباحث عن العدالة

في ذكرى رحيله العاشرة .. فتحي عثمان الباحث عن العدالة

 

بقلم أ. عماد الدين عشماوي

 

الدكتور فتحي عثمان (1928-2010م) مفكر ومجدد مسلم أنتج العديد من الأعمال الفكرية البارزة. ولد فتحي عثمان في المنيا في عام 1928، وتخرج في جامعة القاهرة قسم التاريخ عام 1948م (أي وهو دون العشرين). درس عثمان التاريخ والقانون في مصر وحصل على الدكتوراه من جامعة برنستون الأمريكية في نهاية السبعينيات من القرن الماضي، وقام بالتدريس في العديد من الجامعات حول العالم (الجزائر-السعودية-الكويت-الولايات المتحدة الأمريكية-كندا)، كما عمل أستاذاً زائراً في أغلب جامعات العالم، وقد تم تكريمه من عدة جامعات معاهد عالمية تقديرا لجهوده الفكرية ومساهماته القيمة في الفكر الإسلامي المعاصر.

وفي عصر يوم السبت الموافق ثاني أيام عيد الفطر المبارك والحادي عشر من ايلول سبتمبر 2010م، رحل الدكتور فتحي عن دنيانا ودفن جثمانه في إحدى ضواحي لوس انجليس في جنوب كاليفورنيا. وقد نشرت صحيفة لوس أنجلوس تايمز مقالاً وصفته فيه بأنه “أكثر العلماء تأثيراً في العالم الإسلامي، وذكرت أنه نموذج فذ لعلماء المسلمين الذين ينطلقون من رؤية ليبرالية وإنسانية عميقة تستند إلى تعاليم الإسلام ونهجه”، وتبعتها بعد ذلك صحيفة نيويورك تايمز التي نشرت مقالاً مستفيضاً عنه ووصفته بأنه أحد أهم علامات تجديد الفكر الإسلامي في القرن العشرين.

كتب الدكتور عثمان 30 كتاباً بالعربية والإنجليزية، قدم فيها الفكر الإسلامي بشكل معاصر، وتنوعت عناوين هذه الكتب، بين: التاريخ، التغير الاجتماعي، حقوق الإنسان، وقضايا المرأة، والتعددية، الفكر القانوني مقارناً بالفقه الإسلامي، الشريعة وصلاحيتها في مجتمع معاصر، وكتب عن الدين للواقع، والدين في موقف الدفاع، وآراء تقدمية من تراث الفكر الإسلامي. وترجم الإسلام وتوازن المجتمع والتراث الجغرافي للمسلمين والقانون الدولي في الإسلام ومحمد في كتب اليهود. وكتب أضواء على التاريخ الإسلامي، والتاريخ الإسلامي والمذهب المادي في التفسير، والفرد والمجتمع في الإسلام، والإسلام وتحديد الملكية، ومع المسيح في الأناجيل الأربعة، وكان أهم كتبه “الفكر الإسلامي والتطور” في ستينيات القرن الماضي، ثم جاء كتابه “مفاهيم القرآن الرئيسية” في تسعينيات ذلك القرن، ليصبح عمله الرائد والذي يعد مرجعاً رئيسياً للباحثين والدارسين في العديد من جامعات العالم في الشمال والجنوب.

حاول الدكتور محمد فتحي عثمان؛ طوال رحلته الفكرية المديدة، بكل ما أوتي من علم ومعرفة أن يستعيد الغنى الروحي للإسلام في عالم مليء بالجفاف الروحي، وتأصيل منهجية فكرية واضحة تتفاعل مع نصوص الإسلام الأصلية ووحيه الصادق لتنتج فكراً راقياً يتحرك بمرونة في عالم من التغير المتسارع يؤدي لإيجاد البدائل الحضارية القادرة على تحقيق الشهود الحضاري للمسلمين في عالم اليوم، وبلاغ رسالة الإسلام صافية من غير كدر للعالمين.

كانت كتب ورحلة حياة الدكتور عثمان مصوبة نحو ابراز قدرة الإسلام؛ في أصوله الموحى بها من رب العالمين، على مواجهة المتغيرات والتطور الاجتماعي، وتمكين المسلمين من مواجهة لهذه المتغيرات. ولذلك كانت أهم سمات كتابات فقيدنا الراحل اتسامها بجوهريتها القرآنية الخالصة، فقد كان تركيز كتاباته الدائم كلها بداية من أول كتبه حتى آخرها على ترك القرآن ليتحدث بلسانه العربي المبين ويفصح عن مكنونه بكلماته لتصل لقلوب الناس، ومن هنا كانت درجة قوتها الإقناعية العالية.

وقد ارتبط مشروع عثمان الفكري بالقضايا التي كانت مثار اهتمام المجتمع، فلم يغرد عثمان بعيداً عن هموم أمته وقضاياها الملحة، بل خاض فيها خوض الخبير البصير بتلك القضايا من ناحية، والمهموم بإيجاد حلول لها تجعل أمته في قلب عصرها حاضرة شاهدة لا غائبة مشهودة. ولذلك يعده عارفو فضله من أبرز المفكرين الذين أفرزهم عالم المسلمين في العصر الحديث.

وينطلق مشروع الدكتور فتحي عثمان-رحمه الله- من القواعد القرآنية ليبني على أسسها من جديد قواعد البناء الحضاري الحديث؛ بيد أنه على اتساع اهتماماته وكتاباته، فإن الخيط الذي يربط كل أطراف مشروعه الفكري ويمثل خلاصته هو الخيط الأخلاقي الباحث عن العدل باعتباره أساس أي مجتمع سليم وحضارة قوية ولكونه قمة القيم في الإسلام.

ولذلك فقد أولى فقيدنا الراحل اهتمامه الفائق قضية العدل والعدالة الشاملة لأنها المفتاح الرئيسي لنجاح ونمو واستمرار أي مجتمع وبزوغ وقوة أي حضارة، ومن هنا نجده بدءاً من مؤلفه الأول عن الفقر في منتصف الأربعينيات يؤكد على حتمية العدل ومحاربة الدين للفقر لأنه أس الرذائل كلها ومفتاح باب كل شر وخراب على أي مجتمع لما يجلبه من مشاكل لا قبل لأي مجتمع بمواجهتها. ولذلك فقد حازت قضية العدالة بمختلف جوانبها حيزاً كبيراً في غالب مؤلفاته التالية، فكتب في بداية ستينيات الماضي كتابه عن “الإسلام يصارع الجوع” والذي بين فيه رفض الإسلام للجوع باعتباره أحد السوءات الكبرى في حياة أي مجتمع، كما نوه  على أهمية العدالة وكيف اهتم بها تراثنا الإسلامي المستمد من القرآن والسنة في كتبه عن: “الدين للواقع”، و”آراء من تراث الفكر الإسلامي”، و”الدين في موقف الدفاع” و”الفكر الإسلامي والتطور”.

وفي تصويره لأهمية العدل والعدالة في بناء أي مجتمع سليم ينطلق الدكتور رحمه الله من حقيقة أن” الإنسان هو محور الحضارة وأساسها، وأن احترامه وتحديد وضعه في أي دين أو فلسفة هو منطلق الحضارة، فلا تقوم حضارة على إنسان مهين أو مضيع أو سلبي”[1]، ومؤكداً أن رسالة الإسلام قد “تضمنت القيم الكفيلة بتأسيس حضارة راسخة شامخة أصلها ثابت وفرعها في السماء، نامية متجددة تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها”[2]، وأن عدالته ليست للمسلمين وفقط وإنما هي “للإنسان بإطلاقه، أيا كان أصله العرقي أو اللغوي أو طبقته أو عقيدته”[3].

وفي ضوء سعيه لبيان قضية العدالة وأهميتها في حياة المجتمعات المسلمة المعاصرة والتي عانت من تغييب بُعد العدالة بمختلف مجالاته في حياتها نتيجة لطمس معالم الرؤية الإسلامية المشرقة لهذه المسألة من ناحية، ومن ناحية أخرى لإعجاب المسلمين بالنظم الوافدة التي اعتنت بتلك المسألة، عمل الدكتور على بعث قيم العدالة القرآنية والنبوية في صورتها الصحيحة وبعث آراء كبار فقهاء المسلمين في القضية من جوانبها المختلفة حتى يبين موقف الإسلام الحق منها فتخف نبرة الإعجاب الزائف بالعدالة التي جاءت في ركاب المذاهب الغربية.

ولذلك تعرض الدكتور رحمه الله لبعض “مسائل المجتمع العامة بما لم يألف الناس أن يقرأوا فيها فقهاً، أو قرأوا فيها فقهاً من لون واحد: أحكاماً في الفقه الاقتصادي والاجتماعي وفي نظام التكافل واستغلال الأرض”[4]، وأعاد بعث هذه الآراء في ثوب عصري، وبين التوجه والتوجيه الواضح للإسلام نحو مسائل” المساواة والتكافل، وأن في شريعته أحكام تفصيلية متفرقة للعدالة الاجتماعية”[5]، فقد أتت شريعة الله “بإحقاق الحق وإبطال الباطل وإجراء العدل في مختلف صوره التي تتناول الفرد والمجتمع والدولة والعالم”[6]، حتى يكون المسمون على بينة مما يحمله تراثهم من أفكار ثرية في مجالات العدالة المختلفة يمكن- إن قام عليها فقهاء حقيقيون- أن تنتج مؤسسات وأفكار واجراءات تحقق العدالة الشاملة فيما بينهم.

وقد شدد الدكتور-رحمه الله- على أنه من الأولى “للذين يدرسون نظام الإسلام أو يضطلعون بتدريسه والكتابة عنه أن يكون ( الحق) و (كرامة الإنسان) مدخلهم إليه، فهو الأساس المتين لهذا النظام القويم، وأولى بالذين يدعون مخلصين لتحكيم شرع الله أن يؤصلوا الأصول قبل تفريع الفروع”[7]، ودعاهم لبيان موقف الإسلام من قضية العدل بمختلف صوره الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وأن يتحملوا تبعات ذلك، قائلاً: “لا بد لكلمة الحق أن تقال مهما كان، فرضاء الناس جميعاً غاية لا تدرك, ولا بد لكل كلمة أن تحدد حقاً وتفصل أمراً وتمس مفصلاً من مفاصل تفكيرنا أن ترضي قوماً وتغضب آخرين”.

كما شدد الدكتور على أهمية التعامل مع قضية العدل؛ في مختلف جوانبها، حتى لا يطغى جانب على آخر فنخسر تحقيق العدل الشامل الذي يجعل الإنسان إنساناً، ويمهد للمجتمع حياة طيبة، وللأمة مناعة حصينة من السقوط أو التراجع، ولذلك أكد على أن العدالة السياسية وحدها-مثلاً- لا تغني فتيلاً في شعب عامته من الجائعين المحرومين، فالعدالة السياسية وحدها لا تكفي إلا إذا كانت مقرونة بالعدالة الاجتماعية, والعدالة وحدها لا تكفي إلا إذا كانت ايجابية تعتنقها الدولة فكرة وعقيدة, وتحققها تشريعاً وتنفيذاً, و تحاسب عليها سياسياً و قضائياً.

رحم الله الدكتور فتحي عثمان رحمة واسعة وجزاه عن أمتنا وعن الإنسانية كلها خير الجزاء، وألهم أمتنا أن تهتم بفكره تقرأه وتدارسه وتستفيد منه في إعادة بناء أبنائها ومؤسساتها من جديد، وفي القلب منها ترسيخ قيمة العدل داخل كل إنسان مسلم وبناء المؤسسات التي تحقق العدالة الشاملة في كل مجتمعاتنا المسلمة.

[1] عثمان، فتحي، القيم الحضارية في رسالة الإسلام، ط1، 1982م، الدار السعودية للنشر والتوزيع، الرياض، ص54.

[2] المصدر نفسه، ص 123.

[3] المصدر نفسه، ص110.

[4] عثمان، فتحي، آراء من تراث الفكر الإسلامي، ط2، 1969م، الدار الكويتية للطباعة والنشر والتوزيع، الكويت، ص5.

[5] عثمان، فتحي، الفكر الإسلامي والتطور، دار القلم، القاهرة، 1962م، ص 128.

[6] عثمان، فتحي، حقوق الإنسان بين الشريعة الإسلامية والفكر القانوني الغربي، ط1، دار الشروق، القاهرة، 1982م، ص 5.

[7]  المصدر نفسه، ص5.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى