في ذكرى السيد حيدر علي شهاب.. مر الكريم وبقي الأثر
بقلم صبغة الله الهدوي “محرر مجلة النهضة العربية” (خاص بالمنتدى)
“رحل السيد حيدر علي شهاب وهو في قمة تواضعه وبساطته بينما بيديه زمام مسلمي مليبار سياسة ودينا لتكون حياته قدوة حسنة لمن خلفه” هكذا كتب فضيلة الدكتور بهاء الدين محمد الندوي نائب رئيس جامعة دار الهدى الإسلامية وهو يستدعي الذكريات التي عاشها مع رفيق دربه وقائده السيد حيدر علي شهاب.
فحين يمضي أكثر من شهر بعد رحيل السيد حيدر علي شهاب الذي قاد مسلمي مليبار بالحكمة والحنكة والتؤدة بكل ما ترك فضيلته من ظلال وارفة تكاد الذكريات تتفطر والآلام تنفجر لا سيما في هذه الفترة التي تلاحق مسلمي الهند تابوهات شتى ترسمها عدة جهات نواياهم معروفة، فإنما هي افتعال المشاكل والتغلغل في مفاصل الشعب الهندي الذي أحب السلام والهدنة وصناعة دولة موازية على الظلام، فالسيد المرحوم كان عالما وفقيها وقاضيا وقائدا أمد لمسلمي مليبار ظلال الأمن والأمل، صمته أكثر من كلامه، وأفعاله أكثر من تصريحاته، لم يندفع وراء التيارات التي دفعت كفة الأمة نحو الهاوية وأطاحت بها إلى مصير مجهول، وابتعد عن الضوضاءات والبهرجات والمظاهر التافهة التي لم تجد للأمة شيئا، تحلى بشيم السلف الصالحين ليكون قدوة بينما تلطخت وتلوثت أيادي الكثير الذين يتعاملون مع السياسة، ولد في أسرة معروفة بخدماتها الجليلة للأمة ومواقفها الثابتة التي طالما حنت الأمة المليبارية بكافة أطيافها إلى سماعها والانقياد لها، فتلك الأسرة التي تنحدر أصولها إلى أشراف حضر موت والذين هاجروا إلى سواحل مليبار فاستقروا في شتى بقاعها كانت لها الدور الريادي في تحريك مفاعل الشعب المليباري، وكان لها السمع والطاعة في الشؤون الدينية والسياسية والاجتماعية، لأنها تجسدت رسالة الإسلام الصحيحة التي تنبذ التطرف والغلو والتي تمنع التطاول والتغلغل في شؤون الآخرين، فكانت منسأة الوحدة في زمن كثر فيه البرامكة والبلاطجة.
فمن أهم السادة التي تنتمي إلى هذه الأسرة الكريمة السيد أحمد فوكويا والسيد محمد علي شهاب والسيد عمر علي شهاب ومن بعدهما الفضيلة الراحل حيدر علي شهاب وصادق علي شهاب وعباس علي شهاب وأبناءهم الذين ما زالوا يأخذون أعنة مسلمي مليبار، فمن أبرز السمات التي مثلت هذه الأسرة هي التزاميتها وتعلقها بالسلم والأمن، فلم تصدر أي قرار يستفز مشاعر الآخرين، بل قالت قولتها بتؤدة القاضي وحكمة القاضي وحنكة القاضي حتى لا يورط الشعب الملياري الذي تفرد بحضوره القوي في أوساط السياسة بينما كانت الولايات الأخرى تتيه في متاهات التفريق والتشتيت حتى في تلك التي شكلت أكثرية المسلمين، فكانت التجربة المليبارية في السياسة تجربة رائعة أعادت للأمة هيبتها المفقودة وقعدت أركانها في عروش المناصب الحكومية، ولا يخفى لمن يرصد تحركات وتفاعلات المسلمين في مليبار أن كيمياء النجاح تعود إلى قادتهم وسادتهم الذين أصروا على أن تكون القيادة سلمية لا ثورية وأن تكون متزنة لا منفعلة حتى والأمة تجري على أحر من الجمر.
وفي عام 2009م حين توفي أخوه الأكبر السيد محمد علي شهاب تولى فضيلته رئاسة حزب رابطة المسلمين كما كان نائب رئيس لجمعية العلماء لعموم كيرالا وهي أكبر جمعية إسلامية في كيرالا لتمثل المجتمع السني الذي يشكل أغلبية مسلمي مليبار، والسياسة في مليبار تتأرجح بين يمين وشمال، بل أغلبية المسلمين تقف مع رابطة المسلمين لا سيما في مليبار لتكون أكبر حزب سياسي بطابع إسلامي، لكنها كانت تمر وقتها بساعات حرجة، تعصف بها رياح عاتية تطلقها الأحزاب اليسارية والأحزاب الأخرى التي انبجست من داخل الأمة، بينما يتهمها البعض بطابعها الإسلامي الذي يجدر أن يطمس في دولة علمانية والآخر يتهمها بهشاشة مواقفها وقلة جرءتها في وجه الأحزاب الهندوسية المتطرفة، فكان على السيد تحمل كل هذه الأثقال لترسي السفينة على جودي الأمن والأمان وتنقذها من سطوة المغتصبين، فوقف يرابط على ثغور الأمة تدافع عنها ببسمته المعهودة التي يخفي وراءها معاني عميقة، وعاش بين أتباعه الذين زاروه في بيته للقاء معه وللمطالب الخاصة والعامة، وتفرغ لهم يسمع منهم الشكاوي ويقدم لهم المساعدات المطلوبة ليكون بيته ملجأ المعدومين من كافة أطراف البلاد، يفد إليه المئات ما بين هندوسي ومسلم وغني وفقير، فلم يميزهم على أساس الفوارق الدينية والمكانة الاجتماعية، وإنه وإن كان يتمتع بشعبية كبيرة لم يسع وراء الجاه والمال والمناصب بل ابتعد منها ابتعاد العالم العابد الزاهد، لكن تدخل بقوة في شؤون السياسة التي تتعلق بالأمة ولم تترك الساحة فارغة حتى يستغلها الأعداء.
وكان له عين ساهرة على شؤون “المحلات الإسلامية” وعناية كبيرة لتعزيزها وتقويتها، وفي مليبار تسمى المنطقة التي تتمركز حول المسجد الجامع ” محل” فالمحل هو صاحب القرار الحاسم وكأنه “دويلة” لأنه الخيط الذي يربط المسلمين الذين يسكنون فيه، فكل محل له خطيب وإمام وهيئة معنية بأموره، وللمحلات الدور الكبير في تنسيق وتنظيم المشروعات التربوية والدينية من بناء مسجد ومعاهد دينية وإقامة حفلات دينية وغيرها الكثير، فكان السيد الراحل يهتم بأمور المحلات اهتماما بالغا لما أنها نبض الأمة وروحها، فلو انحسرت خدمات المحل وغفلت عن مسؤوليتها فتميل عليها الأعداء ميلة واحدة كما كان راعي المنظومات التربية الإسلامية التي تديرها الجامعة النورية وجامعة دار الهدى الإسلامية وتنسيق الكليات الإسلامية لتمتد ظلالها الوارفة على مدى ولاية كيرالا وخارجها، ففكرة نهضة الأمة كانت همه الأول، وتحدث عنها كثيرا في الجلسات التي ضمت أهل الحل والعقد من مجالي الدين والسياسة، فرغم أن عانى من المرض الذي ألم به وجد وقتا كافيا للحضور أمام الجمهور المحبين له، فيفتتح المناسبات الدينية والثقافية والسياسية بكلماته الناصحة المعبرة ويستنفر الجمهور لنشر السلام ونبذ فكر العنف، فكان كما قيل “اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم فشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فأرفق به” فكان رفيقا صدوقا، وفاء للعهود سباقا إلى الخيرات.
وبالمناسبة إن المناخ الديني والسياسي بالنسبة لمسلمي كيرالا تجمعهما روابط عدة، لأن أغلبية المسلمين ينتمون إلى جمعية العلماء لعموم كيرالا كجمعية دينية وإلى رابطة المسلمين كحزب سياسي ، فناشطوهما وقادتها تشترك مع بعض، وتجمعها محافل دينية وسياسية على مدى كيرالا كلها ليكون كيان المسلمين قويا متينا لا تدكه إعصارات الاختلافات الهائجة، فكانت أسرة فانكاد همزة الوصل بينهما لما حظيت بجمهورية كبيرة ولما احتلت المكانة السامقة بين فئات المجتمع المختلفة لما كانت تتنصر للمظلومين وتسعى في قضاء حوائج المحتاجين ، فكل فرد فيها يولد سيدا ويعيش قائدا محبوب الملايين، وهكذا كان وما يزال تراث مسلمي مليبار إلى وقتنا هذا، بل كان هذا هو الدافع القوي ليكون حزب رابطة المسلمين أيقونة الأعمال الخيرية والمشروعات الدعمية بينما تقوقعت الأحزاب الأخرى في قاع المصالح الفردية.
رضي الله عن الفقيد وتقبل حسناته، وقد أحسن أمير الشعراء أحمد شوقي حين قال
“و كُن في الطريق عفيف الخطى شريف السماع كريم النظر
وكن رجلاً إن أتوا بعدهُ .. يقولون مرّ وهذا الأثر.
فعلى دربك ماضون أيها القائد، وعلى عهدك باقون أيها السيد…..