مقالاتمقالات المنتدى

في ذكرى استشهاد أمير المؤمنين وفاروق الإسلام عمر بن الخطاب (رضي الله عنه)

في ذكرى استشهاد أمير المؤمنين وفاروق الإسلام عمر بن الخطاب (رضي الله عنه)

 

بقلم د. علي محمد الصلابي (خاص بالمنتدى)

 

أولاً: كيف قُتل أمير المؤمنين الفاروق عمر بن الخطاب (رضي الله عنه)؟

قال عمرو بن ميمون: إِنِّي لقائم ما بيني وبينه إِلا عبد الله بن عبَّاس غداة أصيب، وكان إِذا مرَّ بين الصَّفَّين، قال: استووا؛ تقدَّم، فكبَّر، وربَّما قرأ سورة يوسف، أو النَّحل، أو نحو ذلك في الرَّكعة الأولى، حتَّى يجتمع النَّاس فما هو إِلا أن كبَّر، فسمعته يقول: قتلني ـ أو أكلني ـ الكلب، حين طعنه، فطار العلج بسكين ذات طرفين، لا يمرُّ على أحدٍ يميناً، ولا شمالاً إِلا طعنه، حتَّى طعن ثلاثة عشر رجلاً، مات منهم سبعةٌ، فلمَّا رأى ذلك رجلٌ من المسلمين طرح عليه بُرْنساً، فلمَّا ظنَّ العلج: أنَّه مأخوذٌ نحر نفسه، وتناول عمر يد عبد الرَّحمن بن عوف فقدَّمه للصَّلاة بالنَّاس، فَمَنْ يلي عمر فقد رأى الَّذي أرى، وأمَّا نواحي المسجد فإِنَّهم لا يدرُون، غير أنَّهم قد فقدوا صوت عمر، وهم يقولون: سبحان الله، فصلَّى بهم عبد الرَّحمن صلاةً خفيفةً، فلمَّا انصرفوا؛ قال عمر: يا بن عبَّاس! انظر من قتلني. فجال ساعةً، ثمَّ جاء، فقال: غلام المغيرة، قال: الصَّنَع؟ قال: نعم. قال: قاتله الله! لقد أمرت به معروفاً، الحمد لله الَّذي لم يجعل منيَّتي بيد رجلٍ يدَّعي الإِسلام، قد كنت أنت، وأبوك ـ يريد العبَّاس، وابنه عبد الله ـ تحبَّان أن تكثر العلوج بالمدينة، وكان العبَّاس أكثرهم رقيقاً، فقال عبد الله: إِن شئت فعلت، أي: إِن شئت قَتَلنا. قال: كذبت ـ أي: أخطأت ـ بعدما تكلَّموا بلسانكم، وصلَّوا قبلتكم، وحجُّوا حجَّكم. فاحتُمل إِلى بيته، فانطلقنا معه، وكأنَّ النَّاس لم تصبهم مصيبةٌ قبل يومئذٍ، فأتي بنبيذٍ فشربه، فخرج من جوفه، ثُمَّ أُتي بلبنٍ، فشربه فخرج من جُرْحه، فعلموا: أنَّه ميِّتٌ، فدخلنا عليه، وجاء النَّاس، فجعلوا يثنون عليه.. وقال: يا عبد الله بن عمر ! انظر ما عليَّ من الدَّين، فحسبوه؛ فوجدوه ستَّة وثمانين ألفاً، أو نحوه، قال: إِنْ وفَّى له مال ال عمر؛ فأدِّه من أموالهم، وإِلا فسل في بني عدي بن كعب، فإِنْ لم تفِ أموالهم، فسل في قريش، ولا تعدهم إِلى غيرهم، فأدِّ عنِّي هذا المال، وانطلق إِلى عائشة أمِّ المؤمنين فقل: يقرأ عليك عمر السَّلام، ولا تقل أمير المؤمنين، فإِنِّي لستُ اليوم للمؤمنين أميراً، وقل: يستأذن عمر بن الخطَّاب أن يبقى مع صاحبيه.. فسلَّم عبد الله بن عمر، واستأذن ثمَّ دخل عليها، فوجدها قاعدةً تبكي، فقال: يقرأ عليك عمر بن الخطَّاب السَّلام، ويستأذن أن يدفن مع صاحبيه، فقالت: كنت أريده لنفسي، ولأوثرنَّه به اليوم على نفسي ! فلمَّا أقبل، قيل: هذا عبد الله بن عمر قد جاء، قال: ارفعوني، فأسنده رجلٌ إِليه، فقال: ما لديك ؟ قال: الَّذي تحبُّ يا أمير المؤمنين ! أذنت، قال: الحمد لله، ما كان من شيءٍ أهمَّ إِليَّ من ذلك.. فإِذا أنا قضيت فاحملني، ثمَّ سلِّم، فقل: يستأذن عمر بن الخطَّاب، فإِنْ أذنت لي، فأدخلوني، وإِن ردَّتني؛ ردُّوني إِلى مقابر المسلمين، قال: فلمَّا قبض؛ خرجنا به، فانطلقنا نمشي، فسلَّم عبد الله بن عمر، قال: يستأذن عمر بن الخطَّاب، قالت عائشة: أدخلوه، فأُدخل، فوُضع هنالك مع صاحبيه.
وجاءت رواياتٌ أخرى فصَّلت بعض الأحداث الَّتي لم تذكرها رواية عمرو بن ميمون. قال ابن عباس رضي الله عنهما: إِنَّ عمر ـ رضي الله عنه ـ طعن في السَّحر، طعنه أبو لؤلؤة غلام المغيرة بن شعبة، وكان مجوسيَّاً.
وقال أبو رافع ـ رضي الله عنه ـ: كان أبو لؤلؤة عبداً للمغيرة بن شعبة، وكان يصنع الأرحاء، وكان المغيرة يستغلُّه كلَّ يومٍ أربعة دراهم، فلقي أبو لؤلؤة عمر، فقال: يا أمير المؤمنين ! إِنَّ المغيرة قد أثقل عليَّ غلَّتي، فكلِّمْه أن يخفِّف عنِّي ! فقال عمر: اتَّقِ الله، وأحسنْ إِلى مولاك، ومن نيَّة عمر أن يلقى المغيرة، فيكلِّمه يخفِّف عنه، فغضب العبد، وقال: وسع كلَّهم عدلُه غيري ؟ ! فأضمر على قتله، فاصطنع خنجراً له رأسان، وشحذه، وسمَّه، ثمَّ أتى به الهرمزان، فقال: كيف ترى هذا ؟ قال: أرى أنَّك لا تضرب به أحداً إِلا قتلته. قال: فتحيَّن أبو لؤلؤة عمر، فجاءه في صلاة الغداة حتَّى قام وراء عمر، وكان عمر إِذا أقيمت الصَّلاة يتكلَّم يقول: أقيموا صفوفكم، فقال كما كان يقول: فلمَّا كبَّر؛ وجأه أبو لؤلؤة وجأةً في كتفه، ووجأةً في خاصرته، فسقط عمر، قال عمرو بن ميمون ـ رحمه الله ـ: سمعته لمَّا طُعن يقول: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا *} [الأحزاب: 38].

ثانياً: أمير المؤمنين وابتكاره طريقةً جديدةً في اختيار الخليفة من بعده:

استمرَّ اهتمام الفاروق عمر ـ رضي الله عنه ـ بوحدة الأمَّة، ومستقبلها، حتَّى اللَّحظات الأخيرة من حياته، رغم ما كان يعانيه من الام جراحاته البالغة، وهي بلا شكٍّ لحظاتٌ خالدةٌ، تجلَّى فيها إِيمان الفاروق العميق، وإِخلاصه، وإِيثاره، وقد استطاع الفاروق في تلك اللَّحظات الحرجة أن يبتكر طريقةً جديدةً لم يُسْبَقْ إِليها في اختيار الخليفة الجديد، وكانت دليلاً ملموساً، ومعلماً واضحاً على فقهه في سياسة الدَّولة الإِسلاميَّة، لقد مضى قبله الرَّسول (ص)، ولم يستخلف بعده أحداً بنصٍّ صريحٍ.
ولقد مضى أبو بكر الصِّدِّيق واستخلف الفاروق بعد مشاورة كبار الصَّحابة، ولمَّا طُلِبَ من الفاروق أن يستخلف، وهو على فراش الموت؛ فكَّر في الأمر مليَّاً، وقرَّر أن يسلك مسلكاً اخر يتناسب مع المقام؛ فرسول الله (ص) ترك النَّاس، وكلُّهم مقرٌّ بأفضليَّة أبي بكرٍ، وأسبقيَّته عليهم، فاحتمال الخلاف كان نادراً، وخصوصاً: أنَّ النَّبيَّ (ص) وجَّه الأمَّة قولاً، وفعلاً إِلى أنَّ أبا بكرٍ أولى بالأمر من بعده، والصِّدِّيق لمَّا استخلف عمر كان يعلم أنَّ عند الصَّحابة أجمعين قناعةً بأنَّ عمر أقوى، وأفضل من يحمل المسؤوليَّة بعده، فاستخلفه بعد مشاورة كبار الصَّحابة، ولم يخالف رأيه أحدٌ منهم، وحصل الإِجماع على بيعة عمر.
وأمَّا طريقة انتخاب الخليفة الجديد فتعتمد على جعل الشُّورى في عددٍ محصورٍ، فقد حصر ستَّةً من صحابة رسول الله (ص)، كلُّهم بدريُّون، وكلُّهم توفِّي رسول الله (ص) وهو عنهم راضٍ، وكلُّهم يصلحون لتولِّي الأمر، ولو أنَّهم يتفاوتون، وحدَّد لهم طريقة الانتخاب، ومدَّته، وعدد الأصوات الكافية لانتخاب الخليفة، وحدَّد الحكم في المجلس، والمرجِّح إِن تعادلت الأصوات، وأمر مجموعة من جنود الله لمراقبة سير الانتخابات في المجلس، وعقاب من يخالف أمر الجماعة، ومنع الفوضى بحيث لا يسمحون لأحدٍ أن يدخل، أو يسمع ما يدور في مجلس أهل الحلِّ، والعقد.
وهذا بيانُ ما أجمل في الفقرات السَّابقة:
أ ـ العدد الَّذي حدَّده للشُّورى، وأسماؤهم:
أمَّا العدد؛ فهو ستَّةٌ، وهم: عليُّ بن أبي طالبٍ، وعثمان بن عفَّان، وعبد الرَّحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقَّاص، والزُّبير بن العوَّام، وطلحة بن عبيد الله رضي الله عنهم جميعاً. وترك سعيد بن زيد بن نفيل، وهو من العشرة المبشَّرين بالجنَّة؛ لأنَّه من قبيلته بني عديٍّ.
ب ـ طريقة انتخاب الخليفة:
أمرهم أن يجتمعوا في بيت أحدهم، ويتشاوروا، وفيهم عبد الله بن عمر، يحضرهم مشيراً فقط، وليس له من الأمر شيء، ويصلِّي بالنَّاس أثناء التَّشاور صهيب الرُّومي، وأمر المقداد بن الأسود، وأبا طلحة الأنصاري أن يرقبا سير الانتخابات.
جـ. مدَّة الانتخابات، أو المشاورة:
حدَّدها الفاروق ـ رضي الله عنه ـ بثلاثة أيَّامٍ وهي فترةٌ كافيةٌ، وإِن زادوا عليها؛ فمعنى ذلك: أنَّ شقَّة الخلاف ستتَّسع، ولذلك قال لهم: لا يأتي اليوم الرَّابع إِلا وعليكم أميرٌ.
د ـ عدد الأصوات الكافية لاختيار الخليفة:
لقد أمرهم بالاجتماع، والتَّشاور وحدَّد لهم: أنَّه إِذا اجتمع خمسةٌ منهم على رجلٍ، وأبى أحدهم؛ فليضرب رأسه بالسَّيف، وإِن اجتمع أربعةٌ، فرضوا رجلاً منهم، وأبى اثنان فاضرب رؤوسهما.
وهذه من الرِّوايات الَّتي لا تصحُّ سنداً فهي من الغرائب الَّتي ساقها أبو مخنف مخالفاً فيها النُّصوص الصَّحيحة، وما عرف من سير الصَّحابة ـ رضي الله عنهم ـ فما ذكره أبو مخنف من قول عمر لصهيب: وقم على رؤوسهم ـ أي: أهل الشُّورى ـ فإِن اجتمع خمسةٌ، ورضوا رجلاً، وأبى واحدٌ؛ فاشدخ رأسه بالسَّيف، وإِن اتَّفق أربعةٌ، فرضَوا رجلاً منهم، وأبى اثنان؛ فاضرب رؤوسهما: فهذا قولٌ منكرٌ، وكيف يقول عمر ـ رضي الله عنه ـ هذا وهو يعلم أنَّهم هم الصَّفوة من أصحاب رسول الله (ص)، وهو الَّذي اختارهم لهذا الأمر لعلمه بفضلهم، وقدرهم.
وقد ورد عن ابن سعدٍ: أنَّ عمر قال للأنصار: أدخلوهم بيتاً ثلاثة أيَّامٍ فإِن استقاموا؛ وإِلا فادخلوا عليهم، فاضربوا أعناقهم، وهذه الرِّواية منقطعةٌ، وفي إِسنادها (سماك بن حرب) وهو ضعيفٌ، وقد تغيَّر باخرةٍ.
والصَّحيح في هذا ما أخرجه ابن سعدٍ بإِسنادٍ رجاله ثقاتٌ: أنَّ عمر ـ رضي الله عنه ـ قال لصهيبٍ: صلِّ بالنَّاس ثلاثاً، وليخل هؤلاء الرَّهط في بيتٍ، فإِذا اجتمعوا على رجلٍ فمن خالفهم فاضربوا رأسه.
فعمر ـ رضي الله عنه ـ أمر بقتل من يريد أن يخالف هؤلاء الرَّهط، ويشقَّ عصا المسلمين، ويفرِّق بينهم، عملاً بقوله (ص): «من أتاكم وأمركم جميعٌ على رجلٍ واحدٍ، يريد أن يشقَّ عصاكم، أو يفرِّق جماعتكم، فاقتلوه».
هـ. الحكم في حال الاختلاف:
أوصى عمر بأن يحضر عبد الله بن عمر معهم في المجلس، وأن ليس له من الأمر شيء، ولكن قال لهم: فإِن رضي ثلاثةٌ رجلاً منهم، وثلاثة رجلاً منهم؛ فحكِّموا عبد الله بن عمر، فأيُّ الفريقين حكم له؛ فليختاروا رجلاً منهم، فإِن لم يرضوا بحكم عبد الله بن عمر، فكونوا مع الَّذين فيهم عبد الرَّحمن بن عوف، ووصف عبد الرَّحمن بن عوف بأنَّه مسدَّدٌ رشيدٌ، فقال عنه ـ ونعم ذو الرَّأي ـ: عبد الرَّحمن بن عوف مسدَّدٌ رشيدٌ، له من الله حافظٌ، فاسمعوا منه!
و ـ جماعة من جنود الله تراقب الانتخابات، وتمنع الفوضى:
طلب عمر أبا طلحة الأنصاري، وقال له: يا أبا طلحة! إِنَّ الله ـ عزَّ، وجلَّ ـ أعزَّ الإِسلام بكم، فاختر خمسين رجلاً من الأنصار، فاستحثَّ هؤلاء الرَّهط حتَّى يختاروا رجلاً منهم. وقال للمقداد بن الأسود: إِذا وضعتموني في حفرتي، فاجمع هؤلاء الرَّهط في بيتٍ حتَّى يختاروا رجلاً منهم.
هكذا ختم حياته ـ رضي الله عنه ـ ولم يشغله ما نزل به من البلاء، ولا سكرات الموت عن تدبير أمر المسلمين، وأرسى نظاماً صالحاً للشُّورى لم يسبقه إِليه أحدٌ، ولا يشكُّ أن أصل الشُّورى مقرر في القران والسُّنَّة القوليَّة والفعليَّة، وقد عمل بها رسول الله (ص)، وأبو بكر، ولم يكن عمر مبتدعاً بالنِّسبة للأصل، ولكنَّ الَّذي عمله عمر هو تعيين الطَّريقة الَّتي يختار بها الخليفة، وحَصْر عددٍ معيَّنٍ جعلها فيهم، وهذا لم يفعله الرَّسول (ص) ولا الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ بل أوَّل من فعل ذلك عمر، ونعم ما فعل! فقد كانت أفضل الطُّرق المناسبة لحال الصَّحابة في ذلك الوقت.

ثالثاً. وصيَّة عمر ـ رضي الله عنه ـ للخليفة الَّذي بعده:

أوصى الفاروق عمر ـ رضي الله عنه ـ الخليفة الَّذي سيخلفه في قيادة الأمَّة بوصيَّةٍ مهمَّةٍ، قال فيها: أوصيك بتقوى الله وحده لا شريك له، وأوصيك بالمهاجرين الأوَّلين خيراً؛ أن تعرف لهم سابقتهم، وأوصيك بالأنصار خيراً، فاقبل من محسنهم، وتجاوز عن مسيئهم، وأوصيك بأهل الأمصار خيراً، فإِنَّهم ردء العدوِّ، وجباة الفيء، لا تحمل منهم إِلا عن فضلٍ منهم، وأوصيك بأهل البادية خيراً، فإِنَّهم أصل العرب، ومادَّة الإِسلام، وأن يؤخذ من حواشي أموالهم فَيُردَّ على فقرائهم، وأوصيك بأهل الذِّمَّة خيراً، أن تقاتل مَنْ وراءهم ولا تكلِّفهم فوق طاقتهم إِذا أدَّوا ما عليهم للمؤمنين طوعاً، أو عن يدٍ وهم صاغرون، وأوصيك بتقوى الله، والحذر منه، ومخافة مقته أن يطَّلع منك على ريبةٍ، وأوصيك أن تخشى الله في النَّاس، ولا تخشى النَّاس في الله، وأوصيك بالعدل في الرَّعيَّة، والتَّفرُّغ لحوائجهم وثغورك، ولا تؤثر غنيهم على فقيرهم، فإِنَّ في ذلك بإِذن الله سلامة قلبك، وحطَّاً لوزرك، وخيراً في عاقبة أمرك حتَّى تفضي في ذلك إِلى من يعرف سريرتك، ويحول بينك وبين قلبك، وامرك أن تشتدَّ في أمر الله، وفي حدوده ومعاصيه على قريب النَّاس، وبعيدهم، ثمَّ لا تأخذك في أحدٍ الرَّأفة، حتَّى تنتهك منه مثل جرمه، واجعل النَّاس عندك سواءً، لا تبال على من وجب الحقُّ، ولا تأخذك في الله لومة لائمٍ.
وإِيَّاك والمحاباة فيما ولاك الله ممَّا أفاء على المؤمنين، فتجور، وتظلم، وتحرك نفسك من ذلك ما قد وسعه الله عليك، وقد أصبحت بمنزلةٍ من منازل الدُّنيا والاخرة، فإِن اقترفت لدنياك عدلاً، وعفَّةً عمَّا بسط لك؛ اقترفت به إِيماناً، ورضواناً، وإِن غلبك الهوى؛ اقترفت به غضب الله، وأوصيك ألا ترخِّص لنفسك، ولا لغيرك في ظلم أهل الذِّمَّة، وقد أوصيتك، وخصصتك، ونصحتك فابتغِ بذلك وجه الله، والدَّار الاخرة، واخترت من دلالتك ما كنت دالاًّ عليه نفسي، وولدي، فإِن عملت بالَّذي وعظتك، وانتهيت إِلى الَّذي أمرتك؛ أخذت منه نصيباً وافراً، وحظَّاً وافياً، وإِن لم تقبل ذلك، ولم يهمَّك، ولم تترك معاظم الأمور عند الَّذي يرضى به الله عنك؛ يكن ذلك انتقاصاً، ورأيك فيه مدخولاً؛ لأنَّ الأهواء مشتركةٌ، ورأس الخطيئة إِبليس داعٍ إِلى كلِّ مهلكة، وقد أضلَّ القرون السَّالفة قبلك، فأوردهم النَّار، وبئس الورد المورود ! وبئس الثَّمن أن يكون حظُّ امرأىٍ موالاةً لعدوِّ الله، الدَّاعي إِلى معاصيه.
ثمَّ اركب الحقَّ، وخُضْ إِليه الغمرات، وكن واعظاً لنفسك، وأناشدك الله إِلا ترحَّمت على جماعة المسلمين، وأجللت كبيرهم، ورحمت صغيرهم، ووقَّرت عالمهم، ولا تضربهم؛ فيذلُّوا، ولا تستأثر عليهم بالفيء، فتغضبهم، ولا تحرمهم عطاياهم عند محلِّها، فتفقرهم، ولا تجمِّرهم في البعوث، فينقطع نسلهم، ولا يجعل المال دُولة بين الأغنياء منهم، ولا تغلق بابك دونهم، فيأكل قويُّهم ضعيفهم، هذه وصيَّتي إِليك، وأشهد الله عليك، وأقرأ عليك السَّلام.
هذه الوصيَّة تدلُّ على بعد نظر عمر في مسائل الحكم، والإِدارة، وتفصح عن نهج ونظام حكمٍ، وإِدارةٍ متكاملٍ، فقد تضمَّنت الوصيَّة أموراً غايةً في الأهمِّيَّة، فحقَّ أن تكون وثيقةً نفيسةً؛ لما احتوته من قواعد، ومبادئ أساسيَّةً للحكم متكاملة الجوانب الدِّينيَّة، والسِّياسيَّة، والعسكريَّة، والاقتصاديَّة، والاجتماعيَّة، يأتي في مقدِّمتها:
1 ـ النَّاحية الدِّينيَّة: وتضمَّنت:
أ ـ الوصيَّة بالحرص الشَّديد على تقوى الله، والخشية منه في السِّرِّ والعلن، في القول والعمل؛ لأنَّ من اتَّقى الله؛ وقاه، ومن خشيه؛ صانه، وحماه (أوصيك بتقوى الله وحده لا شريك له) (وأوصيك بتقوى الله والحذر منه.. وأوصيك أن تخشى الله).
ب ـ إِقامة حدود الله على القريب، والبعيد (لا تبال على من وجب الحقُّ) (ولا تأخذك في الله لومة لائمٍ) لأنَّ حدود الله نصَّت عليها الشَّريعة فهي من الدِّين، ولأنَّ الشَّريعة حجَّةٌ على النَّاس، وأعمالهم وأفعالهم تقاس بمقتضاها، وأنَّ التَّغافل عنها إِفسادٌ للدِّين، والمجتمع.
ج ـ الاستقامة {وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [الشُّورى: 42] وهي من الضَّرورات الدِّينيَّة، والدُّنيويَّة الَّتي يجب على الحاكم التَّحلِّي بها قولاً، وعملاً أوَّلاً، ثمَّ الرَّعيَّة (كن واعظاً لنفسك) (وابتغِ بذلك وجه الله والدَّار الآخرة).
2 ـ النَّاحية السِّياسيَّة: وتضمَّنت:
أ ـ الالتزام بالعدل؛ لأنَّه أساس الحكم، وإِنَّ إِقامته بين الرَّعيَّة تُحقِّق للحكم قوَّةً، وهيبةً، ومتانةً سياسيَّةً، واجتماعيَّةً، وتزيد من هيبة، واحترام الحاكم في نفوس النَّاس (وأوصيك بالعدل) (واجعل النَّاس عندك سواء).
ب ـ العناية بالمسلمين الأوائل من المهاجرين والأنصار لسابقتهم في الإسلام، ولأنَّ العقيدة، وما أفرزته من نظامٍ سياسيٍّ قام على أكتافهم، فهم أهله، وحملته، وحماته (وأوصيك بالمهاجرين الأولين خيراً، أن تعرف لهم سابقتهم، وأوصيك بالأنصار خيراً، فاقبل من محسنهم وتجاوز عن مسيئهم).
3 ـ النَّاحية العسكريَّة: وتضمَّنت:
أ ـ الاهتمام بالجيش، وإِعداده إِعداداً يتناسب وعظم المسؤوليَّة الملقاة على عاتقه لضمان أمن الدَّولة، وسلامتها، والعناية بسدِّ حاجات المقاتلين (التَّفرُّغ لحوائجهم، وثغورهم).
ب ـ تجنُّب إِبقاء المقاتلين لمدَّة طويلةٍ في الثُّغور بعيداً عن عوائلهم، وتلافياً لما قد يسبِّب ذلك من مللٍ، وقلقٍ، وهبوطٍ في المعنويَّات، فمن الضَّروري منحهم إِجازاتٍ معلومةً في أوقاتٍ معلومةٍ، يستريحون فيها، ويجدِّدون نشاطهم خلالها من جهةٍ، ويعودون إِلى عوائلهم لكي لا ينقطع نسلهم من جهة ثانيةٍ (ولا تجمِّرهم في الثُّغور، فينقطع نسلهم) (وأوصيك بأهل الأمصار خيراً، فإِنَّهم درء العدوِّ).
ج ـ إِعطاء كلِّ مقاتلٍ ما يستحقُّه من فيءٍ، وعطاءٍ، وذلك لضمان موردٍ ثابتٍ له، ولعائلته يدفعه إِلى الجهاد، ويصرف عنه التَّفكير في شؤونه الماليَّة (ولا تستأثر عليهم بالفيء؛ فتغضبهم، ولا تحرمهم عطاياهم عند محلِّها؛ فتفقرهم).
4 ـ النَّاحية الاقتصاديَّة والماليَّة: وتضمَّنت:
أ ـ العناية بتوزيع الأموال بين النَّاس بالعدل، والقسطاس المستقيم، وتلافي كل ما من شأنه تجميع الأموال عند طبقةٍ منهم دون أخرى (ولا تجعل الأموالَ دُولةً بين الأغنياء منهم).
ب ـ عدم تكليف أهل الذِّمَّة فوق طاقتهم؛ إِن هم أدَّوا ما عليهم من التزاماتٍ ماليَّةٍ للدَّولة (ولا تكلِّفهم فوق طاقتهم إِذا أدَّوا ما عليهم للمؤمنين).
ج ـ ضمان الحقوق الماليَّة للنَّاس، وعدم التَّفريط بها، وتجنُّب فرض ما لا طاقة لهم به (ولا تحمل منهم إِلا عن فضلٍ منهم) (أن يؤخذ من حواشي أموالهم فيُردَّ على فقرائهم.
5 ـ النَّاحية الاجتماعيَّة: وتضمَّنت:
أ ـ الاهتمام بالرَّعيَّة، والعمل على تفقُّد أمورهم، وسدِّ احتياجاتهم، وإِعطائهم حقوقهم من فيءٍ وعطاءٍ (ولا تحرمهم عطاياهم عند محلِّها).
ب ـ اجتناب الأثرة، والمحاباة، واتِّباع الهوى، لما فيها من مخاطر تقود إِلى انحراف الرَّاعي، وتؤدِّي إِلى فساد المجتمع، واضطراب علاقاته الإِنسانيَّة (وإِيَّاك والأثرة، والمحاباة فيما ولاَّك الله) (ولا تؤثر غنيَّهم على فقيرهم).
ج ـ احترام الرَّعيَّة، وتوقيرها، والتَّواضع لها، صغيرها، وكبيرها؛ لما في ذلك من سموٍّ في العلاقات الاجتماعيَّة، تؤدِّي إِلى زيادة تلاحم الرَّعيَّة بقائدها، وحبِّها له (وأناشدك الله إِلا ترحَّمت على جماعة المسلمين، وأجللت كبيرهم، ورحمت صغيرهم، ووقَّرت عالمهم).
د ـ الانفتاح على الرَّعيَّة، وذلك بسماع شكواهم، وإِنصاف بعضهم من بعضٍ، وبعكسه تضطرب العلاقات بينهم، ويعمُّ الارتباك في المجتمع (ولا تغلق بابك دونهم، فيأكل قويُّهم ضعيفهم).
هـ اتِّباع الحقِّ، والحرص على تحقيقه في المجتمع، وفي كلِّ الظُّروف والأحوال، لكونه ضرورةً اجتماعيَّةً لا بدَّ من تحقيقها بين النَّاس، (ثمَّ اركب الحقَّ، وخُضْ إِليه الغمرات) (واجعل النَّاس عندك سواءً، لا تبالِ على من وجب الحقُّ).
و ـ اجتناب الظُّلم بكلِّ صُوره، وأشكاله خاصَّةً مع أهل الذِّمَّة؛ لأنَّ العدل مطلوبٌ إِقامته بين جميع رعايا الدَّولة مسلمين، وذمِّيِّين، لينعم الجميع بعدل الإِسلام (وأوصيك ألا ترخِّص لنفسك، ولا لغيرك في ظلم أهل الذِّمَّة).
ز ـ الاهتمام بأهل البادية، ورعايتهم والعناية بهم (وأوصيك بأهل البادية خيراً فإِنَّهم أصل العرب، ومادَّة الإِسلام.
ح ـ وكان من ضمن وصيَّة عمر لمن بعده: ألا يقرَّ لي عاملٌ أكثر من سنةٍ، وأقرُّوا الأشعريَّ أربع سنين.

رابعاً: اللَّحظات الأخيرة من حياة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب:

هذا ابن عبَّاسٍ ـ رضي الله عنه ـ يصف لنا اللَّحظات الأخيرة في حياة الفاروق، حيث يقول: دخلت على عمر حين طُعن، فقلت: أبشر بالجنَّة يا أمير المؤمنين! أسلمت حين كفر النَّاس، وجاهدت مع رسول الله (ص) حين خذله النَّاس، وقبض رسول الله (ص) وهو عنك راضٍ، ولم يختلف في خلافتك اثنان، وقتلت شهيداً. فقال عمر: أعد عليَّ. فأعدت عليه، فقال: والله الَّذي لا إِله إِلا هو! لو أنَّ لي ما في الأرض من صفراء، وبيضاء؛ لافتديت به من هول المطلع.
وجاء في رواية البخاريِّ، أمَّا ما ذكرت من صحبة رسول الله (ص) ورضاه؛ فإِنَّ ذلك من الله ـ جلَّ ذكره ـ منَّ به عليَّ، وأمَّا ما ترى من جزعي؛ فهو من أجلك، وأجل أصحابك، والله! لو أنَّ طلاع الأرض ذهباً؛ لافتديت به من عذاب الله ـ عزَّ، وجلَّ ـ قبل أن أراه.
لقد كان عمر ـ رضي الله عنه ـ يخاف هذا الخوف العظيم من عذاب الله تعالى مع أنَّ النَّبيَّ (ص) شهد له بالجنَّة، ومع ما كان يبذل من جهدٍ كبيرٍ في إقامة حكم الله، والعدل، والزُّهد، والجهاد، وغير ذلك من الأعمال الصَّالحة، وإِنَّ في هذا لدرساً بليغاً للمسلمين عامَّةً في تذكُّر عذاب الله الشَّديد، وأهوال يوم القيامة.
وهذا عثمان ـ رضي الله عنه ـ يحدِّثنا عن اللَّحظات الأخيرة في حياة الفاروق، فيقول: أنا اخركم عهداً بعمر، دخلت عليه، ورأسه في حجر ابنه عبد الله بن عمر، فقال له: ضع خدِّي بالأرض، قال: فهل فخذي والأرض إِلا سواء ؟ قال: ضع: خدِّي بالأرض لا أمَّ لك ! ـ في الثَّانية، أو في الثَّالثة ـ ثمَّ شبَّك بين رجليه، فسمعته يقول: ويلي، وويل أمِّي إِن لم يغفر الله لي ! حتَّى فاضت روحه.
فهذا مثلٌ ممَّا كان يتَّصف به أمير المؤمنين عمر ـ رضي الله عنه ـ من خشية الله تعالى، حتَّى كان اخر كلامه الدُّعاء على نفسه بالويل؛ إِن لم يغفر الله جلَّ، وعلا له، مع أنَّه أحد العشرة المبشَّرين بالجنَّة، ولكن مَنْ كان بالله أعرف؛ كان من الله أخوف، وإِصراره على أن يضع ابنه خدَّه على الأرض من باب إِذلال النَّفس في سبيل تعظيم الله ـ عزَّ، وجلَّ ـ ليكون ذلك أقرب لاستجابة دعائه، وهذه صورةٌ تبيِّن لنا قوَّة حضور قلبه مع الله جلَّ، وعلا.
1 ـ تاريخ موته، ومبلغ سنِّه:
قال الذَّهبي: استشهد يوم الأربعاء لأربعٍ أو ثلاث بقين من ذي الحجَّة، سنة ثلاث وعشرين من الهجرة، وهو ابن ثلاثٍ وستِّين سنةَّ على الصَّحيح، وكانت خلافته عشر سنين، ونصفاً وأيَّاماً، وجاء في تاريخ أبي زرعة عن جرير البجلي، قال: كنت عند معاوية، فقال: توفِّي رسول الله (ص) وهو ابن ثلاثٍ وستِّين، وتوفِّي أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ وهو ابن ثلاثٍ وستِّين، وقتل عمر ـ رضي الله عنه ـ وهو ابن ثلاثٍ وستِّين.
2 ـ غسله، والصَّلاة عليه، ودفنه:
عن عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنه ـ أنَّه غُسِّل، وكُفِّن، وصلِّي عليه، وكان شهيداً. وقد اختلف العلماء فيمن قتل مظلوماً: هل هو كالشَّهيد لا يغسَّل، أم لا؟ على قولين:
أحدهما: أنَّه يغسَّل، وهذا حجَّةٌ لأصحاب هذا القول.
والثَّاني: لا يُغسَّل، ويُصلَّى عليه. والجواب من قصَّة عمر: أنَّ عمر عاش بعد أن ضُرب وأقام مدَّةً، والشَّهيد ـ حتَّى شهيد المعركة ـ لو عاش بعد أن ضرب حتَّى أكل، وشرب، أو طال مقامه؛ فإِنَّه يُغسَّل، ويصلَّى عليه، وعمر طال مقامه حتَّى شرب الماء، وما أعطاه الطَّبيب، فلهذا غُسِّل، وصُلِّي عليه، رضي الله عنه.
3 ـ مَن صلَّى عليه؟
قال الذَّهبيُّ: صلَّى عليه صهيب بن سنان. وقال ابن سعد: وسأل عليُّ بن الحسين سعيد بن المسيب: من صلَّى على عمر؟ قال: صهيب، قال: كم كبَّر عليه؟ قال: أربعاً، وقال: أين صُلِّي عليه؟ قال: بين القبر، والمنبر.
وقال ابن المسيِّب: نظر المسلمون فإِذا صهيبٌ يُصلِّي لهم المكتوبات بأمر عمر ـ رضي الله عنه ـ فقدَّموه، فصلَّى على عمر، ولم يقدِّم عمر ـ رضي الله عنه ـ أحداً من السِّتَّة المرشَّحين للخلافة حتَّى لا يظنَّ تقديمه للصَّلاة ترشيحاً له من عمر، كما أنَّ صهيباً كانت له مكانته الكبيرة عند عمر، والصَّحابة رضي الله عنهم، وقد قال في حقِّه الفاروق: نعم العبد صهيبٌ، لو لم يخف الله؛ لم يعصه.
4 ـ دفنه رضي الله عنه:
قال الذَّهبيُّ: دُفن في الحجرة النَّبويَّة. وذكر ابن الجوزي عن جابرٍ قال: نزل في قبر عمر عثمان، وسعيدُ بن زيدٍ، وصهيبٌ، وعبد الله بن عمر. وعن هشام بن عروة، قال: لمَّا سقط عنهم ـ يعني: قبر النَّبيِّ (ص) وأبي بكر، وعمر رضي الله عنهما ـ في زمن الوليد بن عبد الملك أخذوا في بنائه، فبدت لهم قدمٌ، ففزعوا، وظنُّوا: أنَّها قدم النَّبيِّ (ص) فما وجدوا أحداً يعلم ذلك، حتَّى قال لهم عروة: لا والله ما هي قدم النَّبي (ص) ! ما هي إِلا قدم عمر ـ رضي الله عنه ـ وقد مرَّ معنا: أنَّ عمر أرسل إِلى عائشة ـ رضي الله عنهما ـ ائذني لي أن أُدفن مع صاحبيَّ، فقالت: (أي والله !) وقال هشام بن عروة بن الزُّبير: وكان الرَّجل إِذا أرسل إِليها ـ أي: عائشة ـ من الصَّحابة؛ قالت: لا والله لا أوثرهم بأحدٍ أبداً.
ولا خلاف بين أهل العلم: أنَّ النَّبيَّ (ص)، وأبا بكرٍ وعمر ـ رضي الله عنهما ـ في هذا المكان من المسجد النَّبويِّ على صاحبه أفضل الصَّلاة والسَّلام.
5 ـ ما قاله عليُّ بن أبي طالبٍ ـ رضي الله عنه ـ في الفاروق:
قال ابن عبَّاسٍ: وُضع عمر على سريره، فتكنَّفه النَّاس يدعون، ويصلُّون قبل أن يرفع، وأنا فيهم، فلم يَرُعني إِلا رجلٌ اخذٌ منكبي، فإِذا عليُّ بن أبي طالبٍ، فترحَّم على عمر، وقال: ما خَلَّفتُ أحداً أحبَّ إِليَّ أن ألقى الله بمثل عمله منك، وأيم الله! إِن كنت لأظنُّ أن يجعلك الله مع صاحبيك، وحسبت أنِّي كنت كثيراً أسمع النَّبيَّ (ص) يقول: «ذهبت أنا، وأبو بكرٍ، وعمر، ودخلت أنا، وأبو بكرٍ، وعمر، وخرجت أنا، وأبو بكرٍ، وعمر».
6 ـ أثر مقتله على المسلمين:
كان هول الفاجعة عظيماً على المسلمين، فلم تكن الحادثة بعد مرضٍ ألمَّ بعمر، كما كان يزيد من هولها كونها في المسجد، وعمر يؤمُّ النَّاس لصلاة الصُّبح. ومعرفة حال المسلمين بعد وقوع الحدث يطلعنا على أثر الحادث في نفوسهم، يقول عمرو بن ميمون:.. وكأنَّ النَّاس لم تصبهم مصيبةٌ قبل يومئذٍ. ويذهب ابن عبَّاسٍ ليستطلع الخبر بعد مقتل عمر ليقول له: إِنَّه ما مرَّ بملأً إِلا وهم يبكون، وكأنَّهم فقدوا أبكار أولادهم.
لقد كان عمر ـ رضي الله عنه ـ مَعْلَماً من معالم الهُدى، وفارقاً بين الحقِّ والباطل، فكان من الطَّبيعي أن يتأثَّر النَّاس لفقده، وهذا الأثر يوضِّح شدَّة تأثُّر النَّاس عليه، فعن الأحنف بن قيس: قال: فلمَّا طُعن عمر أمر صُهيباً أن يصلِّي بالنَّاس، ويطعمهم ثلاثة أيَّامٍ حتَّى يجتمعوا على رجلٍ، فلمَّا وضعت الموائد كفَّ النَّاس عن الطَّعام، فقال العبَّاس: يا أيُّها النَّاس! إِنَّ رسول الله (ص) قد مات، فأكلنا بعده، وشربنا، ومات أبو بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ فأكلنا، وإِنَّه لا بدَّ للنَّاس من الأكل، والشُّرب، فمدَّ يده، فأكل النَّاس.
وكان عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ عندما يُذكر له عمر؛ يبكي حتَّى تبتلَّ الحصى من دموعه، ثمَّ يقول: إِنَّ عمر كان حصناً للإِسلام، يدخلون فيه، ولا يخرجون منه، فلمَّا مات انثلم الحصن، فالنَّاس يخرجون من الإِسلام.
وأمَّا أبو عبيدة بن الجرَّاح، فقد كان يقول قبل أن يُقتل عمر: إِن مات عمر؛ رقَّ الإِسلام، ما أحبُّ أنَّ لي ما تطلع عليه الشَّمس، أو تغرب وأن أبقى بعد عمر، فقيل له: لِم؟ قال: سترون ما أقول إِن بقيتم، وأمَّا هو فإِن وُلِّي والٍ بعدُ، فأخذهم بما كان عمر يأخذهم به؛ لم يطع له النَّاس بذلك، ولم يحملوه، وإِن ضعف عنهم؛ قتلوه.

المصادر والمراجع:

1. الإِدارة الإِسلاميَّة في عصر عمر بن الخطَّاب، ص (381)
2. أشهر مشاهير الإِسلام في الحرب والسِّياسة، ص (648).
3. أوَّليَّات الفاروق، ص (122).
4. البخاريُّ، كتاب المناقب، رقم (3700).
5. البداية والنِّهاية (7/142).
6. تاريخ الطَّبري (5/226).
7. الخليفة الفاروق عمر بن الخطَّاب للعاني، ص (161).
8. سير السَّلف لأبي القاسم الأصفهاني (1/160).
9. صحيح التَّوثيق في سيرة وحياة الفاروق، ص (370).
10. الطَّبقات لابن سعد (3/339)، البيان والتبيين للجاحظ (3/46)، جمهرة خطب العرب (1/263 ـ 265)، الكامل في التَّاريخ (2/210)، الخليفة الفاروق عمر بن الخطَّاب للعاني، ص (171، 172).
11. الطَّبقات لابن سعد (3/364).
12. العشرة المبشَّرون بالجنَّة، محمَّد صالح عوض، ص (44).
13. مرويات أبي مخنف في تاريخ الطَّبري د. يحيى اليحيى، ص (175).
14. مرويات أبي مخنف من تاريخ الطَّبري، ص (176).
15. مسلم، فضائل الصَّحابة، رقم (2352)، محض الصَّواب (3/843).

ويمكنكم تحميل كتاب “فصل الخطاب في سيرة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب” من الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى