في «تغريب» الفكر السياسي
بقلم أ. محمد إلهامي
ذات يوم جمعنا مجلس بصديق، وكان قد أنهى الماجستير في العلوم السياسية بإحدى الجامعات الأوروبية، فطرح علينا هذا السؤال:
هل حقا حظيت دراسة السياسة في الإسلام بالجهد المناسب؟ ألا نحتاج لإعادة قراءة كيف أديرت «السياسة» وكيف استجاب الحكام والفقهاء والقضاة لتعقيداتها؟ أليس من الضروري أن نكشف -من الناحية العملية التطبيقية- عن نسبية السياسية، مدنيتها، سلطة الشريعة وكيف تم تعريفها وتطبيقها في سياقات مختلفة، وحدود البراغماتية والمصلحة؛ فضلا عن التعددية والحرية واستقلال المجتمع وحيويته؟ ألم تكن أسئلة السياسة التي تصدى لها ميكيافيللي وهوبز ولوك وروسو هي تقريبا ذاتها التي تصدى لها الماوردي والجويني وبن تيمية وبن خلدون وبن رشد. فإلى أي حدٍّ تشابهت الإجابات وإلى أي حدٍّ اختلفت؟
وانفتح نقاش حول هذه الأسئلة، نقاش لم ينتهِ ولا أحسبه ينتهي يوما ما، فتلك الساحة من المقارنات والقراءات تلد كل يوم جديدا، لكن ثمة شيء يثير التأمل في سياق هذه الأسئلة، ذلك الشيء هو هذه الروح الغربية السائرة فيها، والتي تبدو في رنين المصطلحات وإيحاءاتها، كما تبدو في طبيعة تعريف الموضوعات. فذلك هو ما يهمنا مناقشته في السطور القادمة.
مع التأكيد التام على أن صاحبنا السائل هو من الأفاضل، ولستُ أحسبه من المنبهرين بالغرب ولا من المتجافين عن تراثه الإسلامي، لكن طبيعة الدراسة التي نتلقاها في الجامعات إنما تنصبغ وتنفعل بالرؤية الغربية بطبيعة الحال، فلا تزال جامعاتنا ومعاهدنا العلمية تقفو أثر المناهج الغربية المتشبعة برؤيتها وفلسفتها وتصورها للأمور.
يبدأ مفتاح النقاش من فهم معنى كلمة «السياسة»، فهذه الكلمة «السياسة» في عصر الحداثة صارت تعني كل شيء تقريبا؛ لشمولِ نشاط السلطة كافَّةَ الجوانب داخل الدولة.. بينما هي فيما قبل كذلك تنصرف إلى جانب الأمن والدفاع وما يتعلق بهما، وبعض ما نعنيه اليوم بـ “الاقتصاد”.
لهذا فإن كان المعنى المقصود بـ«السياسة» هو معناها الآن في زمن الحداثة فأحسب أنه لن يوجد مفكرون غربيون أسهموا في هذا بالقدر الذي أسهم فيه المسلمون، لسبب بسيط، وهو أن أغلب الإنتاج الإسلامي في الفكر السياسي إنما أنتجه فقهاء، وأكثرهم تولوا مناصب القضاء، وكلهم مارسوا الفتوى، فكانوا على معرفة عميقة بتفاصيل الشؤون الاجتماعية والمالية، وجرى استفتاؤهم في شؤون الجهاد والأسرى والأموال والإدارة، فكتبوا فتاوى كما كتبوا فقها، بينما عموم المفكرين السياسيين الغربيين لم يكونوا على اطلاع تفصيلي بسائر هذه الجوانب، وإنما عُرِفوا بجانب أو جانبين منها.. حتى من كان منهم سياسيا أو قاضيا أو مستشارا فلم يكن جامعا لبقية شؤون الرعية ولا يُلجأ له فيها.
ومن ثَمَّ فيبدو طبيعيا أن إنتاج ثمرات المفكرين السياسيين الغربيين –بمن في ذلك أسماؤهم اللامعة- إنما يغلب عليها الكلام في النظرية السياسية، وأقل منه الكلام في النظم السياسية، ثم أقل منه الكلام في العلاقات الدولية. ويغلب في هذه الأبواب كلها المعالجة النظرية التي تحاول القبض على تصور فلسفي محكم يفسر حركة السياسة والاجتماع ليصدر عنها تصور التنظيم والتطبيق.
بينما يجد ذو الخبرة بكتب الفقه المذهبي والفتاوى والنوازل تراثا ضخما كله متعلق بالموازنة في القضايا المعقدة، ومحاولة تحقيق مفهوم الموازنة بين المصالح والمفاسد والأضرار والمنافع، وهذه الموازنات هي التي تطور بها وتفرع علم أصول الفقه والمقاصد وما يشتملان عليه من معايير صناعة الفتوى. حتى إن كثيرا من الكتب التي تُصَنَّف في باب السياسة الشرعية تحتوي على مسائل في البيئة والعمران والتخطيط ورعاية الحيوان وغيرها. لهذا فالمدونة الفقهية أبعد ما تكون عن أنها مدونة سلطانية أو سياسية بحتة، إنها مدونة حافلة بالنقاش العميق في الأمور المعقدة، ومن ثمة فقد اتسعت فيها مساحة النظر للقاضي والمجتهد، كما اتسعت فيها مساحة الصلاحيات للأمير والوالي.
ومن هنا نجد الفقه الإسلامي شديد التنوع والثراء، حتى إن أحكامه التكليفية هي في حدها الأدنى على خمسة مراتب: الواجب والمندوب والمباح والمكروه والحرام (ويتطور في مذهب الأحناف إلى بضع عشرة درجة)، بينما ينحو الفكر السياسي الغربي إلى الضبط القانوني وإحكام التفصيل حتى تضيق المساحة على اجتهاد القاضي وتضيق المساحة على تصرف الرئيس. وبغض النظر الآن عن الأسباب التي دفعت إلى هذا والتي هي أصيلة في بنية النظام السياسي والاجتماعي، إلا أن الشاهد المقصود هنا أن التراث السياسي الإسلامي كان أوسع وأكثر مرونة لاستيعاب المستجدات والنوازل ومائلا إلى توسيع وتكثير التصنيفات والأقسام والمراتب، بينما كان هذا على العكس منه في التراث السياسي الغربي.
ومما يلفت النظر هنا أن علماء أهل السنة قرروا السكوت في بعض القضايا، كقضية الفتنة بين الصحابة، والتي هذ ذرورة التعقد في الموازنات السياسية واشتباه الموقف، وذلك مع كونهم يقررون أيضا أن المصيب هو علي رضي الله عنه وأن المخطئ هو معاوية. فالتجربة تشهد أن أقل الناس هم من يستطيعون الحكم في الأمور المعقدة، وهذا واقع نراه بأنفسنا وفي أنفسنا، فكم تحيرنا نحن في قضايا أبسط بكثير، وكم نتضايق حين نجد من يستخف بالقضية المعقدة فيصدر فيها حكما جازما حاسما ببساطة واستسهال.
ثمة مشكلة أخرى تطالعنا لدى الحديث عن السياسة في الإسلام، تلك هي أن ألفاظ هذا الحقل تحمل ظلالا سلبية أو أيديولوجية، يعني حين نستعمل مثلا عبارات من قبيل “نسبية السياسة” “مدنية السياسة” “حدود البرجماتية”، فإن هذه الظلال تدفع القارئ إلى محاولة تبرئة الفكر السياسي الإسلامي منها أو إلى محاولة وصمه بها (حسب موقفه العام من الفكر السياسي الإسلامي)، ومن هنا فإن وجود مثل هذه الألفاظ يُعَقِّد -عمليا- النقاش المتعمق في المعاني الكامنة وراءه، والتي من الوارد جدا أن صاحب الكلام لم يقصد إيحاءاتها السلبية.
أهم ما في الأمر هنا أن الفكر السياسي الإسلامي كان وليد العقلية الفقهية، يعني أنتجه فقهاء، والفقهاء لم يكونوا طبقة متميزة بل كانوا شبكة متغلغلة داخل المجتمع، وكانوا في أعم الأحوال ممثلي المجتمع أمام السلطة، فضلا عما نعرفه جميعا من أن السلطة لم تكن متغولة على كل أنشطة المجتمع.. ماذا يعني هذا؟
يعني أن الفقهاء كانوا دائما قوما عمليين لا فلاسفة ولا منظرين ولا مفكرين ولا منفصلين عن الواقع؛ كانوا مغروسين دائما في الموازنات المعقدة الناتجة عن مسائل الناس وأحوالهم وعلاقتهم بالسلطة وعلاقة السلطة بهم، ولهذا كان عموم إنتاجهم أكثر واقعية وعملية من أن يسمى “فكرا سياسيا”؛ لأن كلمة “فكر” في قاموسنا المعاصر تحمل معنى تنظيريا تجريديا فوقيا.
فأسماء الماوردي والجويني وابن تيمية وابن خلدون وابن رشد تقذف إلى أذهاننا معنى الفقيه الكبير الذي عمل بالقضاء وكان على دراية قوية بالنصوص الجزئية وكان مرتبطا بواقعه، فمثلما كان له اجتهاد في فقه الطهارة والعبادات والمعاملات المالية والاجتماعية وحتى في الرقائق والتصوف كان له إسهامه القوي في السياسة. كانت خبرته العملية الواقعية المجتمعية التفصيلية ودرايته القوية بالنصوص الجزئية الفرعية تجعله قادرا على إنتاج النظرية السياسية أو الفتوى السياسية وهو مستوعب لظروف كثيرة.
بينما أسماء لوك وهوبز وميكيافيللي وروسو لا تقذف إلى أذهاننا ذات المعنى، بل هي أسماء مفكرين أكثر تنظيرا وتجريدا وفوقية وعمومية، ربما نال أحدهم منصبا سياسيا أو كان مستشارا أو نحو ذلك، ولكن أحدا منهم لن يكون أبدا بخبرة القاضي الفقيه الذي انغرس في أحوال الناس ووازن طويلا وهو يتأمل مسائلهم وحيلهم في استخلاص الفتوى أو الحكم منه.
ويبدو أثر هذا جليا واضحا في أن ابن تيمية والجويني وابن خلدون كانوا يتعاملون أكثر في مستوى التطبيق، بينما ميكيافيللي وروسو وجون لوك وغيرهم كان إسهامهم الفكري الأبرز في ميدان التنظير. وميدان التنظير قد استغنى فيه المسلمون بنصوص قرآنية ونبوية عن كثير من إشكالاته، لم يُرهق العقل الإسلامي بمحاولة تحديد الأساس النظري الفلسفي لعلاقة الحاكم بالمحكوم، وبمعنى السيادة، ومن أين يكون استمدادها، وكيفية تحققها، وكيفية انتهائها. وحتى هذه اللحظة لا يستطيع لوك ولا هوبز ولا روسو ولا غيرهم تقديم أساس تاريخي عملي تحققت فيه الفكرة المركزية الفلسفية التي نَظَّروا لها في العلاقة بين السلطة والناس.
بينما هذا كله لم يكن المسلمون بحاجة للتنظير فيه لأنه محلول بنصوص القرآن والسنة وسيرة الخلافة الراشدة.. كان الفقهاء المسلمون مشغولين بكيفية الاقتراب من نموذج دولة النبوة والخلافة الراشدة، وباستخلاص منهجهم وطريقتهم في التعامل مع الموازنات.
لقد كانت طريقة الفقهاء أنسب وأقرب إلى شأن السياسة وواقع الناس وتعقدات الحياة من طريقة الفلاسفة، وكانت ميلهم إلى المعالجة العملية أصوب من البقاء في فراغ النظرية الفلسفية والرؤية المثالية، ومن هنا كثر في طريقة الفقهاء التفريع والموازنة بالحديث عن المصلحة والمفسدة وجلب المنفعة ودفع المضرة واحتمال أدنى المفسدتين ونحو ذلك… وهو المسار الذي أنتج البناء الفقهي الإسلامي الضخم الذي حفل بقواعد الموازنة بين النصوص لاستخلاص الحكم، وقواعد الموازنة بين الأحوال لإصدار الفتوى. بينما كانت طريقة الفلاسفة والمفكرين والمنظرين كثيرة التفريع والتشقيق في التعريفات والمصطلحات وضبط حدود المعاني والمفاهيم. ولئن صحَّ بشكل عام أن التطبيق السياسي كان مخالفا للنظرية السياسية في كل التجارب الإنسانية، فيصحّ أيضا أن تأثير المعرفة الإسلامية والنظرية الإسلامية في واقع المسلمين كان أعلى بكثير من تأثير الفلسفة الغربية في واقع التطبيق الحضاري الغربي.
يبقى سؤال: هل بُحثت السياسة في الإسلام بما يناسب أهميتها؟
تقديري أن السياسة الشرعية كتب فيها كثير جدا جدا جدا، بل فيها تخمة، كثير منها مجهول.. ويمكن مطالعة كتاب د. نصر عارف «مصادر التراث السياسي الإسلامي» لتصور حجم المنتج التراثي.. كما ان جامعات العالم الإسلامي حوت كثيرا جدا من المتخصصين في السياسة الشرعية ولكنهم لم يبرزوا إعلاميا مثل فتحي الدريني وفتحي عبد الكريم ومنير البياتي وسعدي أبو جيب وضياء الدين الريس ومحمد البلتاجي حسن والدميجي وسامي الوكيل والطريقي ومحمد يسري إبراهيم وعطية عدلان، فضلا عن المشاهير كالسنهوري والقرضاوي والشاوي وحاكم المطيري وسعد العتيبي والطريفي وإبراهيم السكران وفهد العجلان وغيرهم.
ومهما اختلفنا في شأن هؤلاء من حيث الكثرة والقلة في الإنتاج أو من حيث العمق والتبسيط، أو حتى من حيث الصواب والخطأ، فإن المقصود هو أن الإنتاج الإسلامي في السياسة الشرعية كثير، ولكنه مغمور فضلا عن أنه غير مُفَعَّل.. إن سؤال الدولة الذي ضغط على المسلمين طوال قرن أو أكثر أنتج أجوبة كثيرة عنه.
إلا أن أهم ما في كتب السياسة الشرعية أنها لم تبرر الواقع ولم تلفق له، ولو أنها فعلت لما ظللنا حتى اليوم نتحدث ونتجادل في التغلب وفي ولاية العهد.. جدالنا هذا نفسه هو ثمرة من ثمرات أجدادنا الفقهاء العظماء الذين حفظوا لنا الدين وأخبرونا في كل كتبهم أن ولاية التغلب تجوز في الاضطرار وأن ولاية العهد تجوز في الاضطرار، وتحت ضغط الموازنات الواقعية، وأن الأصل هو التولية الرضائية باختيار الأمة الحر.. وهذه هي القيمة العظيمة لتراثنا العلمي العظيم، أنه لم تصنعه سلطة ولم تتحكم فيه سلطة، وإنما كان الفقيه يُقرر الأصل ثم يجيز ما هو خلاف الأصل للضرورة والموازنات.
بينما عموم الفكر السياسي الغربي أنه كان وليد بيئته وأوضاعه، ولذلك فهو يحمل من السيولة والاختلاف والتضارب ما لا يمكن معه الحديث عن “فكر سياسي غربي” إلا بنوع من التعميم الواسع ولغرض التصنيف الدراسي لا غير. وبين هذه المدارس الفكرية من التناقض ما لا يمكن رفعه، فإذا استطاعت فكرة ما أن تنجح في أرض الواقع وتطبق نفسها فليس لها معيارٌ إلا نفسها، ولا يمكن أن تُحاكَم إلى أي معيار آخر يمثل أساسا ثابتا ومستقرا. إن الملكية التي تبدو عيبا خطيرا في مدرسة ما تبدو مقبولة تماما في مدرسة أخرى، احتكار الأسواق والتحكم في التجارة يبدو ظلما شنيعا في مدرسة ما بينما يبدو ذروة العدالة في مدرسة أخرى. وعلى كل فكرة أن تجاهد لتحقيق نفسها في الواقع لتفرض قيمها وتجعلها قيمة كونية وعلامة حضارية.
(المصدر: صحيفة الأمة الالكترونية)