في الوحي والقرآن والنبوة.. قراءة في رؤية جعيط للسيرة النبوية
قراءة أحمد القاسمي
الكتاب: “في السيرة النبوية 1: في الوحي والقرآن والنبوة”
الناشر: دار الطليعة ط 2، بيروت- لبنان 2000
عدد الصفحات: 143 صفحة
حتما سيواجه كلُّ مؤرخ ثبت معضلاتٍ جمةً وهو يحاول كتابة السيرة النبوية. فالروايات كثيرة جدا وقديمها وجديدها يمزج على نحو مزعج بين الحقيقي المثبت فعليا والواقعي الممكن الوقوع وإن افتقر إلى الإثبات المادي والأسطوري المعجز والعجيب. ولا شكّ أنّ الأمر سيمثل معضلة مضاعفة لهشام جعيط، كاتب الثلاثية الشهيرة في السيرة النبوية وقد عهدناه محققا مدققا، يعيد بناء المعطيات التاريخية في ضوء سياقها العام وخلفياتها الثقافية والمعرفية والمنطق.
هذا ما يُؤكده بنفسه في مستهل الكتاب الأول في ما يشبه ميثاقا يعقده مع القارئ، يقول: “وقد حاولنا في هذا الكتاب الاعتماد على المعرفة واستنباط منهج عقلاني ـ تفهمي لم نجده لا عند المسلمين القدامى من أهل السير والتاريخ والحديث، ولا عند المسلمين المعاصرين. وأكثر من ذلك، إن المستشرقين على سعة اطلاعهم، لم يأتوا ببحث يذكر في هذا الميدان. وتبقى دراساتهم هزيلة، مقارنة بفحول الفكر والتاريخ في الغرب. وقد اعتمدنا على منهجية هؤلاء في مواضيع أخرى لأنهم لم يهتموا بالإسلام إلاّ قليلا”.
ولكن هذا الميثاق يتجاوز في جلية الأمر هذا الجزء الأول ليشمل الثلاثية السيرية عامة، بل يكاد هذا الكتاب بأسره يختزل في تحديد أبعاد الميثاق الذي سيعتمده الأثران اللاحقان: “في السيرة النبوية 2: تاريخية الدعوة المحمدية في مكة” و”في السيرة النبوية 3: مسيرة محمد في المدينة وانتصار الإسلام”.
1 ـ الوحي والقرآن والنبوة للتأريخ للسيرة
يؤسس الباحث لتصورات لأقوم المسالك لدراسة السيرة، مدركا أنه يمشي على رمال متحركة زلقة. فهو يخوض في سيرة الرسول بما له من رصيد رمزي في معتقدات المسلمين وفي وجدانهم ومخيالهم، من ثقافة يتداخل فيها المقدس والغيبي بالواقعي ويتحول الكل إلى كيان واحد يدخل تحت طائلة اللامفكر فيه من ناحية، وهو المؤرخ الذي يفسّر الوقائع تفسيرا ماديا والمجدّد الذي يرى أنّ التأريخ للسيرة يجب أن يسلك مسلكا مغايرا لما درج عليه سابقوه.
ومأتى الجدّة في مسلكه اعتماد القرآن مصدرا رئيسيا. فقد رسخت لديه قناعة مخالفة للتقليد الراسخ الذي لا يطمئن لغير الوثيقة المادية ومدارها على قابلية استثمار النصوص المقدسة في تحصيل الحقيقة التاريخية.
فلا شك أنّ القرآن سيتضمن مفردات من سيرة النبي الذي بعث بشيرا ونذيرا وهو الذي يشمل الأساسي والجوهري بالنسبة للمؤمن و”أنّ التقليد كموروث مروي متناقل يدخل في بناء قصة المؤسس وأسطورته في كل الأديان. ولولاه لم نكن لنعرف شيئا عن موسى وزردشت والبوذا وكونفوشيوس الحكيم. فهو يحافظ على نواة من الحقيقة التاريخية، ولا يستطيع في بعض الأحيان أن يتجاوزها كما الأمر بالنسبة للمسيح فتقع الرواية في التناقضات.” ولا يمكن للنص القرآني أن يخالف مجريات الأمور في الواقع. فـ”النبي محمد قد قامت دعوته ضمن أناس سلطت عليهم أضواء التاريخ بسرعة..”. وأي مساس بالحقائق الكبرى المعلومة وقتها سيلقى صدا من قبل محيطه.
2 ـ المقدس والتأريخ
يصنف القرآن باعتباره كتابا مقدسا يستند إلى علاقة محدّدة مع الإله. فيحدد إيمان المسلّمين به وينبع من ضمائرهم فيشمل كل مناحي الحياة ليضحي الإلهي مرجعا شاملا في الوجود. ومن هذه الناحية فهو يتشابه مع عامة الكتب المقدسة، بصرف النظر عن الإيمان بها من عدمه. ويختلف عنها في الآن نفسه. ففي التراث اليهودي المسيحي تفيد [Biblos]فكرة المكتوب في الصحف أي المدوّن بالأساس. أما القرآن فهو الكلام المنبثق كليّا عن الإله ينشأ شفويا فيتلى.
وفضلا عن القرآن يعتقد أن ضبط السيرة يقتضي البحث في تاريخ الأديان والمقارنة بينها ودراسة تطورها وفاعلية بيئتها الحاضنة والاستناد إلى الثقافة التاريخية والأنتروبولوجية والفلسفية بدل حصرها في تاريخ الأفراد والجماعات. ويصطلح هشام جعيط على هذا الاتجاه بالعقلانية التفهمية، وهو اتجاه عسير يتطلب معارف كثيرة موسوعية ودقة لا متناهية. ويظل يؤكّد في أكثر من موضع أنّ ما ينجزه يظلّ عملا علميا وليس دراسة فلسفية.
3 ـ بين السيرة والوحي
لا يدرس السيرة فيبحث في الظروف الخارجية لنزول الوحي وإنما يريد أن يصف التجربة في ذاتها، الوحيَ. والقرآن من هذه الناحية. “هو المصدر التاريخي المعتمد الصحيح لأنه يرمز إلى ماهية الوحي والظروف التي حفّت ببدئه وتواصلت ولا يدخل في التفاصيل الدنيوية الفارغة”. فيعرّف الوحي بكونه “العملية التي تم بها التبليغ إلى الرسول والتجربة الفريدة التي عاشها” وانطلاقا من الإشارات الكثيرة في القرآن ينتهي إلى أنه يتمّ بصفة داخلية وبأنه ضرب من التأثير النفسي يتحقق بدون وعي كامل أو سيطرة من النبي عليه. فما يتلوه “إن هو إلاّ وحي يوحى” (النجم الآية 4).
وليحدد حقوله الدلالية المختلفة يقارنه بجملة من المفاهيم المجاورة. كالتنزيل المحددة لحركة تتجه من الأعلى حيث السماء ومن المطلق إلى الأسفل، حيث الأرض وإلى الفضاء بسماته الثقافية المحدّدة والمحدودة أيضا. فيما تمثل مفاهيم “الكتاب” و”الذكر” و”الحكمة” تنزيلا للقرآن في الزمن الأرضي وصفا لعلاقته بالماضي التوحيدي أو بالراهن أو بالآتي في المستقبل.
ومن المفاهيم الرئيسية في ضبط هذا الحقل الدلالي الكشفُ” الذي يفيد انجلاء الحقيقة في الديانة وانفتاح الحجب (في البوذية أو التصوف الإسلامي) وهو مفهوم أوسع من الوحي، فيتجه صاحبه إلى الحقيقة الميتافيزيقية المحجوبة عن الآخرين. الوحي هو ما يأتي يعد التجلي الذي هو إدراك من جهة وانكشاف من جهة ثانية. ومّما يسوّغ تحديده هذا، من وجهة نظره، ما ورد في سورة النجم: “ثم دنا فتدلّى.. فأوحى لعبده ما أوحى”.
وللرؤيا دور في الوحي. فهي ما يرد منه في المنام فبمثل حقيقة أقوى من الرؤية في اليقظة، بالنظر إلى التدخل الإلهي ففيها يموت الجسد، المحدود بالمكان والزمان، وتسرح النفس حرّة قادرةً بعيدا. وعبرها يحاول الباحث أن يفهم الكثير من القصص القرآني. فهي تمنحه انسجامه وعقلانيته وتقطع مع الخارق. فيقدّر أن حدثي الإسراء والمعراج مثلا، قد تما في المنام رادّا هذا الاتجاه في الفهم إلى معاوية ثم ابن إسحاق الذي يذكر استعظام أبي بكر لقصتها.
4 ـ محمد والجنون والنبوة
كثيرا ما في رُمي النبي بصفات أخذها الجاهليون من ثقافتهم فجعلوه مجنونا أو ساحرا أو كاهنا أو شاعرا بغاية إرجاع القرآن إلى ما ورائي منحطّ وليس من مصدر إلهي. ولا يعني الجنون عند العرب اختلال العقل وافتقاد القدرة على التمييز وإنما اتصال الفرد بكيانات لا تُرى منتشرة في الصحراء تنفلت من قوانين المادة وتتجاوز قدراتها القدرات البشرية أو ادّعاء الفرد للمكانة وتنصيبه لنفسه ملكا أو نبيا عن قناعة داخلية لا تعترف بها الموضوعية الاجتماعية. ولم يكن محمد وحده من رمي بالجنون والهلوسة والانخطاف والانسلال من الذات وهي أمارات الوحي، وإنما الأنبياء عامة.
وفي هذا الموضوع يجادل الفهم الحديث. فالنبوة تكون بالمعنى الدقيق فعلا: لا بدّ من قوة خارجية أو تبدو كذلك بكل صدق، تجعل العقل الذاتي يخبو، و”لابد أن ينزعج النبي ويدخل في حالة أزمة وإرهاق داخلي”. فـ”كل ما جرى في العصر الحديث هو محاولة تفسير الظواهر بالمرض النفسي. ولكن كيف يمكن تقديم مثل هذا التفسير وقد أتوا بالحكمة والكلام العميق؟ كيف تكررت هذه الظواهر لمدة قرون حتّى مثّلت شبه النمط السلوكي؟ يقول “إريميا” نفسه: “من لم يكن مرهقا مزعجا وتكلّم وهو غير مجبر (من قوة خارجية)، بل من تلقاء قلبه، فلا يكون نبيا أصيلا”.
5 ـ الوحي والإعجاز
على خلاف المعجزات العظيمة لموسى الذي شق البحر وعيسى الذي يحيي الموتى، وهو إعجاز لا يوجد في الواقع وإنما يختلق ثم “يغدو تقليدا فمعتقدا، يشبه الميثيولوجيا إلى حدّ بعيد”، ينفي القرآن عن محمد كل معجزة. لذلك يرفض جعيط الكثير مما ورد في السير لتناقضات في متنها. فـ”لا يمكن الاعتماد أبدا على ما ذكرته سيرة ابن هشام من أنّ قومه (أي الرسول) عرضوا أن يطلبوا له الطب. فكل الرواية متناقضة منحولة مختلقة”.
ويردّ ذلك إلى فعل الإيمان الشعبي والعقلانية في آن. فالإيمان الشعبي يطمئنّ أكثر إلى تحويل محمّد إلى شخصية إلهية دائمة تقرّر المصائر ويلجؤون إليها في مواجهة مشاكل الحياة الدنيوية. والعقلانيون بدورهم يضخّمون من دور مؤسسي الأديان لأنهم يعتبرونها إبداعا بشريا هائلا ضمن مسار يفضي إلى إقصاء الله.
تدفع هذه القناعات الباحث إلى تخليص السيرة من التّزيد. فقصة غار حراء التي لم يشر إليها القرآن مطلقا عنده مختلقة تماما. فهي فـ”تنسى أنّ القرآن ربط بصفة أساسية التجلي في الأفق والوحي ذاته، وأنّ الوحي حصل في هذه اللحظة لا في غيرها” ويردها إلى تسريب الرواة للتراث اليهودي إلى السيرة ومنحه بعدا إسلاميا. فصراع محمد الجسدي مع جبريل مقتبس من صراع موسى مع الرب، الذي يتحول إلى ملك في الروايات اللاحقة. والاختلاق نفسه يجده في ادعاء جهل محمد بالكتابة والقراءة، فالنبي الأمي يعني النبي المبعوث من خارج بني إسرائيل. فـ”من الواضح عندي أنّ شخصا مثل محمد، في الزمن والوسط الذي عاش فيه، كان يحسن القراءة والكتابة وأنه كان يتمتّع بأوصاف النبوغ والعبقرية والحافظة والذكاء الوقّاد. فأن يكون المسلمون في العهد الخليفي (الثاني والثالث ه.) أرادوا أن ينزعوا عنه هذه الأوصاف في سبيل دعم إلهية القرآن، فهو أمر مفهوم ولعلّه محبّذ. ولكنهم سرعان ما نسبوا إليه الأحاديث واعتبروه مصدر التشريع .. واستفحل الأمر إلى أن وصل بعض المسلمين الآن إلى تفويق السنة على القرآن”.
6 ـ عبقرية النبي وقوته
يكاد الباحثون يتفقون في عبقرية محمد ويردون ذلك إلى شمولية الإصلاح الاجتماعي الذي حققته الرسالة. أما عند هشام جعيط، فهذا الأمر ثانوي في النبوة عامة. فعبقرية محمد وقوته، عنده تتجليان في أسباب هذا الإصلاح أي في قدرته على الانخراط في عالم روحاني عميق واستجابته إلى النداء الداخلي “بلهفة ومحبة” ممّا خوّل للوحي أن ينبلج. وليس الوحي عنده سوى “فتح إيجابي لندائه الباطن القديم” فيتلقاه باقتناع وصبر وتواضع. ولا يُعطى الوحي أو هذه الصفات المميزة لكل قدّيس وباحث عن الله.
وانطلاقا من قناعته هذه يقدّر أنّ محمّدا “ممن بنى الضمير الإنساني الداخلي ومن ثم الحضارة والثقافة والأخلاق، وكان ممن أسهم بقوة في قفزة كبيرة في مسار الإنسانية من الحيوانية إلى الإنسانية، وهؤلاء الهداة قلة، وإذا كان ممن أعطى لمسار التوحيدية أرقى تعابيرها من الوجهة الأنطولوجية على الأقل، فهذا النبي يبقى شاهدا على الله وعلى أمته شهيدا. ولهذا لهو حقيقة النبوة المحمدية وجوهرها في الأعماق”. فتجمع خاتمته بين التأريخ والتفلسف الذي تعهّد في بداية الأثر بتجنّبه وبجعل تفكيره في المسألة تاريخيا صرفا فدوّن “وقد حاولت في الماضي أن أفكّر فلسفيا في الوحي واعتبرته جدلا بين أعماق الضّمير المحمدي، وهو الإله الدّاخلي، وبين الإله الخارجي فيما وراء العالم”.
المصدر: عربي21