في الظل والسراب آيات معجزات فأبصروا يا معشر الملحدين
بقلم د. علي الصلابي
إن مشهد الظل الوريف اللطيف لَيُوحي إلى النفس المجهودة المكدودة بالراحة والسكن والأمان، وكأنما هو اليد الآسية الرحيمة تنسّم على الروح والبدن وتمسح على القرح والألم، وتهدهد القلب المتعب المكدود، أفهذا الذي يريده الله سبحانه وهو يوجه قلب عبده إلى الظل بعدما ناله من استهزاء ولأواء؟ وهو يمسح على قلبه المتعب في هذه المعركة الشاقة، وهو في مكة يواجه الكفر والكبر والمكر والعناد، في قلة من المؤمنين وكثرة من المشركين. قال تعالى: “أَلَمْ تَرَ إلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاء لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا * ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا” (الفرقان: 45).
يدعونا كلام الله هذا أن نرى صنعه الذي أتقن كل شيء صنعه، بينما الظّل الذي خلقه وخلق أسبابه ومده، ولو شاء سبحانه لغير في أسبابه فجعله ساكناً لا يتحول ولا يزول كما يحدث في بعض الكواكب الشمسية، فالكوكب عطارد أقرب الكواكب إلى الشمس حيث يقابلها بوجه واحد فقط إذ يكون النهار سرمدياً أبدياً وليله ليلاً أبدياً ومن ثم يكون فيه الليل ثابتاً وساكناً، هذا ما جاء به العلم الحديث ليوضح لنا بعض نظريات الظّل. والتعبير يرسم مشهد الظل ويد الله الخفيه تمده في رفق، وتقبضه في لطف: “أَلَمْ تَرَ إلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ؟” “ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا”.
والظل هو ما تلقيه الأجرام من الظلمة الخفيفة حين تحجب أشعة الشمس في النهار، وهو يتحرك مع حركة الأرض في مواجهة الشمس، فتغيير أوضاعه وامتداداته وأشكاله، والشمس تدل عليه بضوئها وحرارتها وتميز مساحته وامتداده وارتداده، ومتابعة خطوات الظل في مده وانقباضه يشيع في النفس نداوة وراحة، كما يصير فيها يقظة لطيفة شفيفة، وهي تتبع صنع الباري اللطيف القدير.
وإن مشهد الظلال والشمس مائلة للمغيب وهي تطول وتطول، وتمتد وتمتد ثم في لحظة واحدة ينظر الإنسان فلا يجدها جميعاً، لقد اختفى قرص الشمس وتوارت معه الظلال، أين نراها ذهبت؟ لقد قبضتها اليد الخفية التي مدتها، لقد انطوت كلها في الظل الغامر الطامي، ظل الليل والنهار، إنها يد القدرة القوية اللطيفة التي يغفل البشر عن تتبع آثارها في الكون من حولهم وهي تعمل دائبة لا يدركها الكلال. إن لامتداد الظل وانقباضه، وهي الظاهرة التي أشارت إليها الآية القرآنية المحورية في هذا الموضوع فوائد جمة منها:
1- تحديد مواعيد الصلاة في الإسلام، لأن الظل أثناء النهار، وأوقات الصلوات مرتبطة بارتفاع الشمس وانخفاضها تحت الأفق:
– وقت الفجر، يدخل مع بداية الشفق الصباحي الذي يحدث حين تكون الشمس تحت الأفق الشرقي بمقدار معلوم.
– وقت الظهر: يدخل عندما تكون الشمس ناحية الجنوب، أو في أقصى ارتفاع لها خلال النهار، وهو الوقت الذي يكون فيه ظل الشيء أقصر ما يمكن.
– وقت العصر: يدخل عندما يبلغ ظل الشيء مثله أو مثليه “في المذهب الحنفي” مضافاً إليه طول ظله عند الظهر.
– وقت المغرب: يدخل عند اختفاء قرص الشمس تماماً تحت الأفق الغربي، وبزوال ظل الشيء نتيجة لاختفاء أشعة الشمس.
– وقت العشاء: يدخل عند اختفاء الشفق المسائي حين تكون الشمس تحت الأفق الغربي بمقدار معلوم.
2- رحمة الله بالكائنات والمخلوقات الحية من شدة الحرارة والضوء اللذان يضران بها أو من انعدامهما إذا استمر الظل ولم تشأ القدرة الإلهية بانقباضهن، فكيف بحياة الأحياء تستمر مع ظل ثابت، ممتداً كان أو مقبوضاً، ولكن بتغيره وتبدله بين المد والانقباض تنال هذه الأحياء قسطاً من الدفء والضوء وقت المد، وقسطاً من الراحة وتلطيف حرارتها وقت الانقباض، ويتفضل المولى علينا بهذا التقدير العظيم لمصلحة الأحياء، ويشير إلى هذه النعمة العظيمة في قوله تعالى: “قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاء أَفَلَا تَسْمَعُونَ”(القصص: 72).
3- هناك متعة في مشاهدة ظاهرة ظاهرتي الكسوف للشمس والخسوف للقمر، ويصاحبهما تكون ظلال ممتدة، وتسجيل هاتين الظاهرتين يفيد كثيراً في دراسة سطح القمر وأغلفة الشمس، والغلاف الجوي للكرة الأرضية، والحركة في الكون عامة.
4- نبه العلماء إلى ضرورة حركة الأرض وحتمية دورانها حول محورها.
أما في ظاهرة السراب فقد عبر القرآن الكريم عنها تعبيراً رائعاً ووصفاً عملياً دقيقاً يضاهي تعريف العلماء وأصحاب الاختصاص، قال الله تعالى:“وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ” (النور: 29). يبين سبحانه وتعالى أن مثل أعمال الذين كفروا بالله مثل سراب بأرض منبسطة يرى وسط النهار وحين اشتداد الحرب، فيظنه العطشان ماء، فإذا أتاه ملتمساً الشراب لإزالة عطشه لم يجد السراب شيئاً، فكذلك الكافرون في غرور من أعمالهم التي عملوها وهم يحسبون أنها تنجيهم عند الله من الهلاك كما حسب العطشان السراب ماء، فإذا صار الكافر إلى الله واحتاج لعمله لم ينفعه وجازاه الله الجزاء الذي يستحقه.
وتلاحظ خلال المثل صورة السّراب، ثم صورة الظامي الذي يظنه ماء، ثم خيبته عند وصوله إليه، وحذف ما عدا ذلك لأن الخيال يتمُّ رسمها، وفي الممثل له لم يُذكر إلا عمل الذين كفروا وطُوي ما عدا ذلك، لأن الفكر قادر على أن يستدعيه وهذا من بلاغة القرآن. أما في قوله “كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ” فهذا يعني أن السراب لا يحدث إلا في الأرض القيعة والتي تعني الأرض المستوية أو ما أبسط من الأرض ولا يتكون السراب إلا بوجود هذا المكان الخاص. وفي قوله عزَّ من قائل: “يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء” و”يَحْسَبُهُ” تدل على أن الماء غير موجود، وبالتالي فالسراب خدعة بصرية، وأما الظمآن فهو ما اشتد عطشه ويصبح كذلك تحت ظروف الجو الحار. والإعجاز المبهر والذي لا جدال فيه عند أصحاب الاختصاص، تشبيه السراب بالماء وليس بالمرآة، مثلما قال العلماء الغربيون فشتان ما بين الانعكاس عن سطح الماء وسطح المرآة؛ لأن حادثة السراب لا تحدث إلا بوجود الهواء المتحرك، فتظهر طبقات الهواء متموجة مثل الماء.
والمعادلة الفيزيائية لظاهرة السراب تكمن بقوله تعالى: “حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا”، نستنبط من هذه الكلمات الربانية أنه كلما اقتربنا من السراب ابتعد عنا، وبالتالي فإن المسافة بين عين الناظر والسراب ثابتة. ومن التجارب التي خاضها البشر أمام السراب تجربة السيدة هاجر زوجة نبي الله إبراهيم عليه السلام في سعيها بين جبلي الصفا والمروة للحصول على غذاء وماء لطفلها النبي إسماعيل عليه السلام معتقدة أن السراب ماء يمكنها الحصول عليه. إنَّ مشاهد الظل والسراب على الأرض تدل على وجود الله الصانع الخالق المصور المبدع في خلقه، سبحانه وتعالى هو أحسن الخالقين، حيث أشار إلى الظّل والسراب في كتابه الكريم في أكثر من آية وحملت فيها من المعاني اللفظية العلمية اللغوية الشيء الكثير لكي نتفكر ونتدبر في عظمة هذه المعاني ونصل في نهايتها إلى دلائل قدرة الله في هذا الكون العظيم.
————————————————————————————————————————
مراجع المقال الأساسية:
- علي محمَّد محمَّد الصَّلابي، المعجزة الخالدة الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، براهين ساطعة وأدلة قاطعة، دار المعرفة، بيروت. لبنان، 2013م، ص. ص 191 -193.
- عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني، أمثال القرآن وصور من أدبه، دار القلم، دمشق، سوريا، الطبعة الثانية، 1412هـ -1992م، ص: 133.
- محمد السقا عيد، موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة، ص 313.
(المصدر: مدونات الجزيرة)